استراتيجية الخداع الأميركية في سوريا!
2016/11/27م
المقالات
2,398 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
استراتيجية الخداع الأميركية في سوريا!
حـــســـن الــــحــــســــن
Hasan.alhasan@gmail.com
الاستراتيجية الأميركية
اعتمدت إدارة بوش الابن عقب أحداث ١١ سبتمبر القوة العسكرية المباشرة كاستراتيجية عامة لها لفرض هيبتها وإعادة صياغة المشهد الدولي برمته، لكنها فشلت بعد أن غزت أفغانستان والعراق وتسببت بكوارث لها وللعالم. أما إدارة أوباما فقد سارت في استراتيجية مغايرة (تم التوصل لها أواخر فترة بوش من قبل استراتيجيين أميركيين) تمتاز بالصبر والحنكة والخداع واستعمال الآخرين في الواجهة بغية احتواء الأزمات التي تسبب بها سلفه وللحفاظ على هيمنة أميركا واستمرارها كدولة أولى في العالم بلا منازع. ويمكن ملاحظة تلك الاستراتيجية في مجمل سياسات الولايات المتحدة في العالم، لا سيما فيما يتعلق بأزمات الشرق الأوسط المتعددة، الذي اجتاحته مؤخرًا موجات تغيير عاتية عصفت بمجموعة من الأنظمة فيه.
تأهيل إيران
وقد توهم البعض جراء عدم فهم لتلك الاستراتيجية بأن الولايات المتحدة قد تراجعت في العالم وأنها باتت عاجزة عن اتخاذ إجراءات تفرض هيمنتها، فيما توهم آخرون أنها تريد الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط والتوجه نحو شرق آسيا، ما تسبب لهم بسوء فهم كبير لسياسات الولايات المتحدة، ودفعهم إلى تصور أن واشنطن مضطربة ومترددة ومتخبطة في سياساتها، وأن هذا التردد هو الذي فسح المجال أمام إيران لاقتحام المنطقة والحيلولة مكانها، رغم أن كل الشواهد تؤكد أن أميركا نفسها هي التي عملت بشكل دؤوب على تأهيل إيران للعب دور محوري في الاستراتيجية الأميركية الجديدة. لذلك جاءت وثيقة بيكر هاملتون الشهيرة أواخر عهد بوش الابن لترسم دورًا محوريًا للنظامين الإيراني والسوري للعب دور أساسي في إنجاح العملية السياسية التي تقودها أميركا في العراق بشكل واضح وصريح. لذلك أنهت أميركا أزمة الملف النووي الإيراني ورفعت العقوبات الدولية المفروضة عليها وأعادتها إلى حظيرة المجتمع الدولي ومررت لها دفعات مالية كبيرة، وصار التعاون بين الفريقين في العراق يفقأ العيون، لدرجة أن الفصائل المسلحة المحسوبة على إيران والتي يقودها الجنرال الإيراني قاسم سليماني لا تخوض معاركها إلا تحت أسراب الطائرات الأميركية.
التضارب في التصريحات لا يعني التخبط في السياسات
إن إزالة سوء الفهم المتعلق بالاستراتيجية الأميركية ضروري لفهم الأحداث الجارية. ولعل مصدر سوء الفهم هذا اعتماد التصريحات المتضاربة بل والمتناقضة أحيانًا من قبل الساسة الأميركيين بشأن تعاطيهم مع قضايا المنطقة، مع أن غاية تلك التصريحات في الغالب هو استيعاب الرأي العام وخداع الناس والحفاظ على «ماء الوجه» للولايات المتحدة، أي أن تلك التصاريح لا تصلح لاتخاذها مقياسًا في بناء فهم سياسي صحيح. كذلك فإن مخالفة سياسات أميركا لتوقعات البعض وما هو متصور في أذهانهم عما يتوجب عليها فعله، قد ساهم في تشكيل مفهوم مغلوط لديهم مؤداه أن أميركا مترددة ومتخبطة وغائبة عن التأثير، فيما يجد المدقق في توقعاتهم أنها مبنية أصلًا على أوهام لا واقع لها إلا في مخيلتهم وعلى منطق مغلوط من أوله لآخره.
فقد افترض كثير من هؤلاء خطأ منذ البداية أن أميركا هي دولة خصم لنظام الأسد، الذي يعتبر بحسب ما تروجه وسائل الإعلام قطبًا ممانعًا لأميركا، بالتالي فإنه كان يتوجب عليها استغلال الفرصة منذ بداية الثورة الشعبية لسحقه واستبداله بما يناسبها، لكنها تلكأت! وكلما لاحت -بحسب منطقهم- الفرصة مرة بعد أخرى لتحقيق ذلك أضاعتها، على نحو تهديدها بضرب نظام الأسد إذا تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعتها واشنطن له، فلما تخطاها جميعًا تجاهلته واكتفت بتسليم مخزونه الكيماوي. ثم وجدناها تهذي بكلام لتتملص من تعهداتها بأية طريقة، ما عنى لهؤلاء أنها غير مهتمة أو مترددة أو عاجزة أو ما شاكل!
الثورة على نظام الأسد هي ثورة على أميركا
تأتي هذه المغالطة من عدم إدراك تاريخ النظام السوري وعدم التنبه إلى واقع سياساته الانتهازية على مدار عقود طويلة، بدءًا من دخوله لبنان عام ١٩٧٥م بإيعاز أميركي، وانضمامه للحلف الأميركي لطرد النظام العراقي من الكويت عام ١٩٩١م، ومطالبته الدؤوبة بجعل واشنطن الوسيط الوحيد في أي تسوية مع «إسرائيل» وصولًا إلى دخوله فيما سمي بالحرب العالمية ضد الإرهاب التي تقودها أميركا. ما يفصم عرى الفكرة المضللة من كونه قطبًا ممانعًا لأميركا في المنطقة! بل إن إدراك هذا يعني أن الثورة على هذا النظام هو في واقع الحال ثورة على نظام طيع لأميركا، بالتالي فإن سحق هكذا ثورة هو الواجب المتحتم على إدارة أوباما القيام به، لا ضرب النظام وإسقاطه حسبما افترضوه.
إن إدراك هذه الحقيقة البسيطة يجعل المعادلة واضحة، ويجعل سياسات أميركا منسجمة مع ما تريد تحقيقه. لذلك يصبح مفهومًا لماذا منعت أميركا إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا، ولماذا حظرت على الدول الأخرى إمداد الثائرين ضد النظام بسلاح نوعي، حتى قبل أن تظهر رايات تنظيم الدولة أو غيره ممن اتخذتهم لاحقًا ذريعة لتبرير سياساتها التي مارستها منذ الأيام الأولى واستمرت بها على مدار الأعوام اللاحقة. وأما تصريحاتها المتضاربة وإظهارها التردد من خلال تهديدها للنظام ثم تراجعها ما هي إلا محاولة بائسة لحفظ ماء وجهها أمام الرأي العام العالمي، فكان تكتيكًا ناجحًا لحد ما في تغطية سياستها البشعة التي تهدف إلى حماية نظام متوحش يقتل شعبه بأبشع الوسائل.
وهم تخلي أميركا عن الشرق الأوسط
أما ادعاء أن أميركا قد خفت اهتماماتها بمنطقة الشرق الأوسط وأنها بدأت باعتماد شرق آسيا عوضًا عنها، فإنه لا يستحق الوقوف أمامه كثيرا، فأميركا موجودة أصلًا في شرق أسيا، ولم تكن لاهية عنه يوما، ولم تكن تنتظر «ثورات العرب» حتى تبدأ باكتشافها. ثانيًا وهو الأهم، إن أميركا هي الدولة الأولى في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، ومازالت في أوج قوتها، وهي تدرك تمامًا أن أي تغيير أساسي في واقع الأنظمة الحاكمة في المنطقة أو في توجهاتها وسياساتها، يمس مباشرة مصالحها الحيوية. ويرجع ذلك لموقع منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجي في قلب العالم وسط القارات القديمة، ولتوفر مصادر الطاقة الأساسية فيها (النفط والغاز) بشكل هائل، ولأنها تمثل قلب العالم الإسلامي ومحط تطلعاته وقيادته الروحية والفكرية، ولأن سيطرة أي طرف آخر عليه، سواء كان هذا الطرف يمثل حالة استقلال ذاتي حقيقي أو طرفًا استعماريًا آخر كأوروبا العجوز (على رأسها بريطانيا) أو روسيا التي تتطلع إلى دور دولي معتبر، فإن هذا (أي سيطرة أي طرف غير أميركا على هذه المنطقة) يعني تحجيم دور الدولة الأولى واضمحلال نفوذها وبداية تشكيل المشهد الدولي سياسيًا واقتصاديًا على حسابها.
دور الدب الروسي في السيرك الأميركي
أما دور روسيا المتصاعد في سوريا، فإنه لا بد من فهمه في إطار المرجعية التي تناولناها وضمن المعطيات المرتبطة بها. فرغم أن روسيا دولة كبرى لها تطلعاتها، إلا أن منطقة الشرق الأوسط هي خارج النفوذ الروسي تماما، لذلك فإن روسيا لا تستطيع السير فيها بأجندة خاصة بها، وأن جل ما تقوم به هو عرض خدماتها على أميركا ضمن صفقات متبادلة بينهما. لذلك وجدناها تلوذ بالفرار من سوريا عندما توجهت حاملة الطائرات الأميركية في 2013 إلى البحر المتوسط لكبح جماح النظام السوري بحجة قصفه المدنيين بالسلاح الكيماوي! بل وصرح الروس علانية حينذاك أنهم غير مستعدين للدخول في صراع مع الآخرين من أجل أحد. كذلك، فإنه من الواضح أن روسيا لم توسع رقعة تدخلها إلى العراق، حيث نفوذ تنظيم الدولة الحقيقي وحيث النفط والغاز والثروات الدسمة. ما يعني أن سير روسيا في المنطقة يسير بحسابات دقيقة تأخذ بعين الاعتبار المسارات التي تسمح بها الولايات المتحدة. كذلك فقد أخرجها (الدور الذي تلعبه روسيا في سوريا) من حالة العزلة التي حاولت أوروبا فرضها عليها بعد أن ابتلعت شبه جزيرة القرم وزادت تحرشاتها في شرق أوكرانيا. كما فرضها التدخل في سوريا لاعبًا دوليًا مؤثرًا لا يمكن تجاهله في أزمة حساسة تمس أوروبا ودول المنطقة والحالة الإسلامية التي تشكل هاجسًا حقيقيًا لها.
في هذا الإطار ندرك بأن تسخين المشهد بين روسيا وأميركا وتصعيد الخلافات المعلنة بينهما بين الفينة والأخرى كأننا على أبواب حرب عالمية بين القطبين الدوليين يأتي كمحاولة لمصادرة المشهد السوري برمته وحصره بينهما والحيلولة دون أي تدخل دولي (أوروبي) أو إقليمي (تركي-خليجي) ذات معنى فيه. كما يبرر هذا أمام الرأي العام العالمي تخاذل أميركا عن الإطاحة بنظام الأسد الإجرامي والقبول بتسوية كيري لافروف التي مازالت تتحرج من الإعلان عن البنود السرية فيها، ما يوجد الذرائع لها للإبقاء على نظام بشع متعللة بضرورة نزع فتيل الانفجار المحتمل بين القوتين العظميين. من جهة أخرى، فإن ذلك يلجم محاولات أوروبا الدؤوبة لاقتحام المشهد السوري، ويجعل من محاولاتها التدخل لفرض شراكتها في الملف السوري صعبة ومعقدة. بهذا نجد أن أميركا قامت بفسح المجال لعدد من الدول المتعاونة معها فضلًا عن العميلة لها للعمل في الميادين الساخنة خدمة لمصالحها في المنطقة والعالم، مع بقائها بالطبع حاضرة وفاعلة على نحو أو آخر تقرر حركات اللاعبين في السيرك الأميركي وتضبط إيقاع الخطوات المطلوبة بين هؤلاء وأولئك كمايسترو يتحكم بإيقاعات طاقم الأوركسترا.
2016-11-27