العدد 77 -

العدد 77- السنة السابعة، ربيع الأول 1414هـ، الموافق أيلول 1993م

النظام الدولي الجديد (12)

بقلم: محمد موسى

العلاقات الأميركية ـ الأوروبية

مصالح الدولة متنوعة ومتعددة، فإن توافقت مصالح لدولتين تناقضت مصالح أخرى. والعلاقة بين الدول تكون بناء على ما توليه تلك الدول من أهمية لمصالح معينة، فإن أبرزت المصالح المتوافقة ساد الوئام والسلام بينها، وإن سعت لتحقيق تلك المصالح أقامت الأحلاف. أما إن أبرزت المصالح المتناقضة ساد التوتر وإن سعت إلى تحقيق تلك المصالح فجرّت الحروب.

أعطت أميركا ودول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية الأولوية لأمنها، فتحالفت ضد الاتحاد السوفياتي. لكن حلفها ذلك لم يكن يعني التقاء في جميع المصالح، إذ كان لكل طرف من أطراف الحلف مصالح متناقضة مع مصالح الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى. وكانت المصالح المتناقضة على درجة من الأهمية بحيث لم يكن بالإمكان غض الطرف عنها، لكنها في الوقت نفسه لم تصل إلى درجة أهمية الوجود والأمن. لذلك فإن أطراف الحلف الغربي، بينما كانت تخوض صراعاً ضد الاتحاد السوفياتي كحلف موحد، كانت تخوض صراعاً فيما بينها. وكان الصراع فيما بينها على درجة من الأهمية والاتساع بحيث صبغ كثيراً من زوايا المسرح الدولي بصبغته. وقد اتخذ ذلك الصراع شكل الصراع النقدي والصراع الاقتصادي، كما اتخذ شكل الصراع السياسي. فالصراع بين الدول الغربية لم ينحصر في المستعمرات وعليها وإنما جرى على أوروبا نفسها. ظنت الولايات المتحدة أنها بحلف الأطلسي والدولار والاستثمارات في أوروبا ستقطع رأس الأفعى الأوروبية لا ذنبها.

الصراع النقدي: كان الانحدار النقدي أولى درجات سلم الانحدار الأميركي. وقد رأينا فيما مر كيف أخذت الولايات المتحدة تبتز نظام النقد الدولي ودول العالم. وكيف توجت ذلك الابتزاز بعملية بلطجة دولية عندما فصلت الدولار عن الذهب، وجعلت نظام النقد الدولي نظام دولار صرف. لم يكن أمام الدول الصناعية الأخرى سوى الاحتجاج اللفظي لأنها لم تكن تملك الوسيلة للرد على البلطجة الأميركية، بعد أن تمكنت أمريكا من ربط عملات تلك الدول بالدولار، لكنها حفزت الدول الأوروبية على أن تكون أكثر تصميماً على إنجاز وحدتها الاقتصادية والنقدية.

الصراع الاقتصادي: استعاد الاقتصاد الأوروبي عافيته بسرعة، فأخذت الدول الأوروبية في احتواء الهجمة الاقتصادية الأميركية ثم ردها على أعقابها. ومن أجل ذلك أنشأت نواة السوق الأوروبية المشتركة. ولما رأت الولايات المتحدة في مطلع الستينات أن السوق الأوروبية المشتركة طريقها لأن تصبح قلعة مقفلة في وجه الاقتصاد الأميركي عملت على حلّها أو فتحها أمام اقتصادها من أجل هذا أحيت اتفاق الجات بما سمي بدورة كنيدي. وزاد نمن شراسة الهجمة الأميركية اتفاق دول السوق على سياسة زراعية مشتركة مما يشكل ضربة قوية للمنتجات الزراعية الأميركية. استعملت الولايات المتحد جميع الوسائل من ضغط ورشوة وابتزاز لعزل فرنسا ولإدخال بريطانيا للسوق على شرط بريطانيا التي لم تكن سياستها تجاه السوق تختلف عن سياسة أميركا. ولكن صمود ديغول وتصميمه واستعماله حق النقض أحبط مساعي أميركا، وإن حققت نجاحاً جزئياً في مفاوضات الجات بتخفيض التعرفة الجمركية 30%.

الصراع السياسي: حصل في ظل الوفاق استرخاء في العلاقات الدولية بين المعسكرين وانحسر التهديد السوفياتي لأوروبا الغربية. أخذت الدول الأوروبية في ظل هذه الأجواء، وبعد أن بنت كل من بريطانيا وفرنسا رادعها النووي، تستعيد هويتها، يشجعها في ذلك الاتحاد السوفياتي الذي كان يعمل على فصل أوروبا عن الولايات المتحدة. وكانت قمة الانفراج اعتراف الدول الأوروبية في مؤتمر هلسنكي سنة 1975 بالحدود القائمة في أوروبا حدوداً دولية دائمة. أخذت الدول الأوروبية تتفلت من الولايات المتحدة وتتبع سياسات منفصلة مع المعسكر الاشتراكي، وأخذ التصدع يتسرب لحلف الأطلسي. بذلت الولايات المتحدة كل جهد ممكن لإبقاء الدول الأوروبية في الحظيرة الأميركية بل وفي القبضة الأميركية ولكنها فشلت. وكان الإرهاب من أدوات الولايات المتحدة، إذ سلّطت على دول أوروبا الغربية المنظمات الإرهابية المتمثلة في الألوية الحمراء وأخواتها التي هزت بإرهابها الدول الأوروبية. وفي تحذير صارخ لزعماء أوروبا أصدرت الولايات المتحدة حكم الإعدام على رئيس وزراء إيطاليا السابق، الدومورو، لأنه كان يعمل مع لفيف من السياسيين الإيطاليين على إخراج إيطاليا من قبضة الولايات المتحدة، وأوعزت للألوية الحمراء بخطفه وإعدامه. ولا يمت هذا التصرف للسياسة بصلة وإنما هو تجسيد صارخ للبلطجة الشوارعية. أوجد هذا الإرهاب الأميركي أجواء محمومة في أوروبا واليابان، ولكنه لم يوقف تلك الدلو عن السير نحو الاستقلال عن أميركا، فمسيرات الدول الحية لا يوقفها الإرهاب الدولي الأميركي المنظم.

وإذا كانت هذه التصرفات أميركاً حيال حلفائها من الدول الكبرى، فإن تصرفاتها حيال دول ما كان يسمى بالعالم الثالث كانت أدهى وأمرّ. فلما أخذ العقيد القذافي يعمل على ضرب المصالح الأميركية لمصلحة بريطانيا، ولم تستطع الولايات المتحدة الإطاحة بحكمه أو تصفيته بعملية اغتيال عادية، دفعت بطائراتها للإغارة على مقر إقامة العقيد القذافي في محاولة صارخة لقتله. ضربت الولايات المتحدة بعملها هذا جميع الأعراف والتقاليد الدولية التي لا تساوي في نظرها شيئاً، عرض الحائط، ومارست أبشع أنواع الإرهاب البلطجي. ولم ينقذ القذافي من الموت إلا مغادرته لمقر إقامته قبيل وقوع الغارة.

حرب فيتنام والسياسة الأميركية: أوجد حرب فيتنام جراحاً في نفسية الشعب الأميركي، وولدت لديه شكاً في القوة العسكرية الأميركية وفي أهدافها بل وفي السياسة الخارجية الأميركية. كما بيّنت عجز الطاقات الأميركية عن الوفاء بالتزامات أميركا وبمتطلبات دورها العالمي. كانت استراتيجية نيسكون اعترافاً أميركيا بذلك، فقامت الاستراتيجية على تسخير أطراف دولية لتحمّل بعض أعباء دور أميركا العالمي، وابتزاز أطراف أخرى لتحمل جزءاً من تكاليف هذا الدور، أي قامت على التسخير والابتزاز.

كانت السياسة الخارجية الأميركية سياسة قوة أو ما يسمى بالسياسة الواقعية. فكانت الولايات المتحدة تستعمل القوة العسكرية في سياستها الخارجية أو تهدد باستعمالها. ولكن حرب فيتنام أوجدت قيوداً على استعمال هذه السياسة. وقد وصل كارتر للبيت الأبيض في خضم هذا الإحباط الأميركي، وفي قمة استئساد الكونغرس على مركز الرئيس وصلاحياته. وللالتفاف على هذا الوهن الأميركي اعتمد كارتر السياسة الأخلاقية عوضاً عن السياسة الواقعية، فجعل من حقوق الإنسان مرتكزاً رئيسياً للسياسة الأميركية وأداة رئيسية للتدخل في شؤون الدول الأخرى. كان ابتكار حقوق الإنسان سياسة ناجحة للرئيس كارتر، فبها استعاض عن استعمال القوة في العلاقات الدولية، وبها زيّن السياسة الأميركية في أعين الشعب الأميركي لإعادة ثقته بها. وعوضاً عن تهديد الاتحاد السوفياتي بالقوة العسكرية أخذ يستعمل حقوق الإنسان لإثارة الزوابع حوله وللتدخل في شؤونه الداخلية، وأخذت الولايات المتحدة تقيّم الدول بمقدار احترامها لحقوق الإنسان مما أبقى وصاية أميركا على المسرج الدولي ولكن بلباس آخر، بلباس إنساني وليس بالبزّة العسكرية. بحقوق الإنسان استطاع الرئيس كارتر أن يفعّل دور أميركا العالمي فيتدخل في شؤون الدول الأخرى ولكن بثمن أقل بكثير من استعمال القوة العسكرية، وبحقوق الإنسان استطاع أن يزيّن السياسة الخارجية الأميركية للشعب الأميركي على اعتبار أن حقوق الإنسان نسخة ملمّعة قليلاً عن الرسالة التاريخية للشعب الأميركي وهي دفع قضية الحرية في العالم.

مناهج السياسة الخارجية الأميركية

تراجعت القضايا الاستراتيجية على المسرح الدولي لتحل محلها في القمة القضايا الاقتصادية والقضايا السياسية. ولما كان التنافس الاقتصادي لا يحل بالقوة العسكرية، فإن الولايات المتحدة ستجعل من مبدأ حرية التجارة من وجهة نظرها مرتكزاً أساسياً في سياستها الخارجية، وستحاول أن تجعله مرتكزاً في العلاقات الدولية، كما ستزيد من فعالية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومن تدخلاتهما في شؤون الدول الأخرى.

وتعاني الولايات المتحدة من وهن اقتصادي وتمزّق اجتماعي يضعف من قدرتها على الاستعمال الواسع لقوّتها العسكرية على المسرح الدولية. ويزيد من ضعف قدرتها هذه معارضة الشعب الأميركي لاهتمامات دولته بالمسرح الخارجي على حساب المسرح الداخلي، فحال إدارة كلينتون ستلمّع سياسة إدارة كارتر فتجعل من حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية وتوسيعها لما يخدم المصالح الأميركية مرتكزاً آخر في سياستها الخارجية وأداة فعالة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. كما ستفعّل من استراتيجية نيكسون القائمة على تسخير الآخرين في تحقيق المصالح الأميركية أو حمايتها ورعايتها حيث أمكن تخفيفاً للأعباء عن كاهلها. كما ستعوّض عن ضعفها بزيادة درجة الابتزاز والبلطجة، فكما تبنّت الحركات الإرهابية اليسارية فإنها ستتبنّى الحركات الإرهابية اليمينية والوطنية والدينية.

وبالإجمال يمكن تلخيص مناهج السياسة الخارجية الأميركية في الخيارات التالية:

1- تسخير الأمم المتحدة وذلك بأن تجعلها تنوب عن الولايات المتحدة في تحقيق مصلحة أميركية أو الحفاظ على أخرى، وذلك عندما يكون بمقدورها أن تمررّ فيها ما تريد وكما تريد، كما هو الحال في انغولا وموزانبيق وكمبودية والصومال وغيرها.

2- تسخير دول إقليمية صديقة لتحقيق مصالح إقليمية أميركية أو الحفاظ عليها. وتبذل الولايات المتحدة في هذه الحالة وسعها لإيجاد الظروف الدولية المواتية لإنجاح مهمة الدول الصديقة، فقد أوكلت مثلاً مهمة حل القضية اللبنانية لسورية.

3- تسخير المنظمات الإقليمية للغاية ذاتها أو لإضفاء الشرعية على التصرفات الأميركية. فقد منحت جامعة الدول العربية الشرعية لتدخل القوات الأميركية في المنطقة، كما ضمّت الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي صوتها إلى صوت الأمم المتحدة في إضفاء الشرعية على استمرار حصار العراق. وقد عهدت الولايات المتحدة لمنظمة غرب أفريقيا بمهمة حماية العاصمة الليبيرية من الجبهة الوطنية الليبيرية بعد أن أخذت هذه تطبق عليها.

4- الاستئثار بحل بعض القضايا من غير شريك كما في القضية الفلسطينية.

5- وإذا تعرّضت مصلحة حيوية أميركية للخطر، ولم تستطع الولايات المتحدة دفعه بأحد الخيارات السابقة، تدخلت بقوتها العسكرية. وفي هذه الحال ستفعل ما يلي:

أ- أن تحصل على تفويض من المنظمة الدولية يمنحها الشرعية.

ب- أن تشرّك معها غيرها من الدول بالمساهمة العسكرية أو بالمساهمة المالية كما حصل في حربها مع العراق.

جـ- وإذا فشلت في ذلك تدخلت منفرد حتى لو لم تمنحها المنظمة الدولية الشرعية.

قد يتراءى للمرء للوهلة الأولى أنه بتوفر الخيارات المذكورة، فإن الولايات المتحدة ستمسك بالعالم من أطرافه أو ستحيط به إحاطة السوار بالمعصم، ولكن الحقيقة ليست كذلك. فالأمم المتحدة مثلاً وإن ضمنت تفوق الولايات المتحدة، فإنها مهما قيل عنها، ليست رهن إشارتها. فقد فشلت الولايات المتحدة في تمرير قرار في الجمعية العمومية في دورتها سنة 92 لجعل حصار كوبا دولياً بدل أن يكون أميركياً، وفشلت حتى الآن في جعل مجلس الأمن يتبنى قراراً بتشديد العقوبة على ليبيا بسبب معارضة بريطانيا وفرنسا. وفشلت في جعل مجلس الأمن يتبنى قراراً برفع الحظر عن تزويد المسلمين في البوسنة والهرسك بالسلاح بسبب معارضة بريطانيا وفرنسا وتهديد بريطانيا باستعمال حق النقض ـ الفيتو.

وخيارات القضايا الإقليمية ليست أحسن حالاً لأن الولايات المتحدة قد لا تنجح في تهيئة الظروف الدولية والإقليمية لنجاح مهمة أصدقائها. فمثلاً لما أخذت منظمة يونيتا تحقق الانتصارات على نظام الحكم في انغولا دفعت الولايات المتحدة بالأمم المتحدة لإجراء انتخابات وإجراء مصالحة تحفظ نظام الحكم الأميركي في انغولا. لكن منظمة يونيتا رفضت نتيجة الانتخابات واستمرت في تحقيق الانتصارات على النظام بمساعدة من دول أفريقية مثل جنوب أفريقيا. ولما تقدمت قوات الجبهة الوطنية الليبيرية بقيادة تشارلز تايلور، من ساحل العاج واحتلت أجزاء كبيرة من ليبيريا، بل وأجزاء من العاصمة لواندا وقتلت الرئيس صموئيل دو دفعت الولايات المتحدة بمنظمة غرب أفريقيا بقيادة نيجيريا لحماية العاصمة أو ما بقي منها، لكن قوات المنظمة الأفريقية فشلت حتى الآن في القضاء على تايلور وجبهته، بل وفشلت في دفعه بعيداً عن العاصمة لأنه يتلقى مساعدات من دول أفريقية.

أما الاستئثار بحل قضايا إقليمية خارج مجال الولايات المتحدة الحيوي، فليس سهلاً، لأن القضايا الإقليمية ليست منعزلة عن نفوذ دول كبرى أخرى لها مصالح فيها فتعرقل بالتالي انفراد أميركا في حلّها. إن حقائق القوة تلقي بظلها على المسرح الدولي وعلى قضاياه الإقليمية والدولية سواء قبلت الولايات المتحدة أم لم تقبل.

فالخيارات العرجاء المذكورة توفر لأميركا تفوقاً ولا توفر لها الهيمنة. يقول (عمانوئيل وولر ستين) مدير مركز أبحاث جامعة (بيرمنغام) في مقالة له في مجلة (الفورين بوليسي): إن على كلينتون أن يقنع الشعب الأميركي بأن عصر الهيمنة الأميركية قد ولّى إلى غير رجعة، وأن عليه أن يقبل بأن تكون أميركا دولة رئيسية إلى جانب دول كبرى أخرى.

ولما كان من غير المتوقع أن تتنازل الولايات المتحدة عن أحلام الهيمنة، ونظراً لضعف أدواتها لتحقيق تلك الهيمنة، فإنها ستصعّد من أعمال الابتزاز (والبلطجة) إلى أن يفرض عليها هيكل القوى الاعتراف بالمتغيرات وبالواقع الجديد.

(انتهى) 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *