العدد 75 -

العدد 75- السنة السابعة، محرم 1414هـ، الموافق تموز 1993م

الدعوة إلى الإسلام (18)

الالتزام بالمبدأ

لمّا استطاع الغرب الكافر جعل طريقة حياته في العيش هي الطريقة التي يسير عليها الناس، عاش المسلمون أوضاعاً فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية لا يُحسدون عليها. عاشوا أفكاراً تناقض عقيدتهم. ففقدوا التوجه السليم، وفقدوا شخصيتهم حين عملوا على الجمع بين أفكارهم المنبثقة عن عقيدتهم، وأفكارهم عن الحياة المنبثقة عن فكر دخيل لم تقرّ به الأمة. وقد دخل عليها هذا الدَّخَنُ لجهلها وعدم أخذ الأمور على أصولها. فوَفّقتْ توفيقاً غير موفَّق بين الإسلام وما يناقضه. وجعلت ما تراه النفس من مصلحة هو مقصود الشريعة. وراحت تَقبَل كل تأويل، وتبرر كل تحريف. وصارت من جراء هذا حياةُ الناس الاجتماعية والاقتصادية مليئة بالمتناقضات، وصارت الأوضاع السياسية تسهر على تركيز هذه الأفكار الدخيلة على حساب فكر الأمة الأصيل.

في ظل هذه الأوضاع البالغة السوء بدأت تنشأ الجماعات الإسلامية والأحزاب لتواجه هذا الركام من الأفكار الخاطئة والمفاهيم المغلوطة والمشاعر المنحرفة والأوضاع السياسية المرتبطة بالأجنبي.

والمفروض أن يكون لدى الحزب أو الجماعة الترياق والبلسم الشافي. وأن ترسم الخط المستقيم الذي تريد أن يسير الناس على هداه في مقابل الخط الأعوج الذي يصلى الناس بناره وتقول للناس: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ…).

والمفروض أن تتوفر في الجماعة أو الحزب المواصفات التي تؤهله للوصول من وضوح الفكرة وإرادة الوصول وإعداد الثلة الواعية وتهيئة الأمة والالتزام بأحكام الطريقة.

فمن حيث الفكرة فإنها يجب أن تحتل المرتبة الأولى عند الجماعة، فهي في نظرها الحق الذي يجب أن يفيء إليه كل الناس، وهي الهدى الذي ينير للإنسانية دربها، وهي الرحمة المهداة من الله لعباده، وهي النور الذي يخرج البشرية من ظلمات الهوى. هي الصالحة للإنسان، الموافقة لفطرته، المقنعة لعقله، المطمئنة لقلبه. هي المسعدة للحياة والمحيية للأمل. فيها من العمق والشمول ما يجعلها تجيب للإنسان على كل تساؤلاته عن الحياة التي يحياها، وتصله صلة صحيحة بما قبل الحياة وبما بعدها وتربطه بخالقه ربطاً صحيحاً يدرك به الغاية ويسعده حتى النهاية.

والجماعة أو الحزب عندما يؤمن بهذه الفكرة يؤمن في المقابل أنه عندما لا تكون فكرته هي السائدة فإن الباطل سيرتع والمنكر سيقع والهوى سيُتّبع، والظلم سيحل والظلمة ستعم. وحياة الضنْك ستؤرق الناس، فلن ترى نفوسهم مطمئنة، ولا فطرتهم مستكينة ولا عقولهم متدبرة.

فالموضوع الأول الذي يجب على الجماعة أن توليه عنايتها القصوى هو الاهتداء إلى الفكرة التي تشكل روحها ومبرر وجودها. فتتعهدها وتحافظ على نقائها فتبعد عنها كل ما ليس منها، وتمنع اختلاطها مع غيرها من الأفكار الدخيلة، وتحدد موقفها من الدعوات الأخرى والأفكار المطروحة على هذا الأساس. ولعل نقاء الفكرة يقتضي صفاء الرؤية لدى الجماعة. وصفاء الرؤية يكون بإدراك الحكم الشرعي بطريقة استدلال صحيحة. وأن يكون هذا الحكم مستنداً على العقيدة الإسلامية.

ومتى فقدت الفكرة النقاء والصفاء والتبلور والوضوح، فقد خصوصيتها ولم تعد ذلك النور ولا الهدى ولا الرحمة المهداة. وفقدت مبرر وجودها وصارت كغيرها من الحركات المنهزمة أمام الواقع، الذي استطاع أن يؤثر فيها بدل أن تؤثر هي فيه، وأن يشكلها بشكله بدل أن تعطيه الشكل الذي يجب.

وبقدر ما تتبلور الفكرة عند أصحابها تتبلور طريقة إيصالها إلى الواقع العملي. فوضوح الغاية من وضوح الفكرة. والطريق لبلوغ الغاية هي أحكام شرعية منضبطة كغيرها من الأحكام الشرعية.

والجماعة المبدئية أو الحزب المبدئي هو الذي يتقيّد في كل حركاته وسكناته بالمبدأ. ذلك لأن الفكرة المبدئية تمنع على معتنقيها والداعي لها الأخذ من غيرها إلا إذا أقرّته هي على ذلك. ولأنها فكرة أساسية تبدأ في بحث الأمور من أساسها، وتعطي الجواب المتميز عن معنى وجود الإنسان في هذا الكون. ويصبح كل فكر فرعي مأخوذاً من هذا الفكر الأساسي ومنبثقاً عنه. وتكون أفكاره عن الحياة ومفاهيمه عن الأشياء وحكمه على الأفعال كلها من جنس هذا الفكر الأساسي.

فبناء الإسلام متكامل وليس فيه نقص ولو كان موضع لبنة. وكل ما فيه منسجم مع بعضه تمام الانسجام لانبثاقه عن قاعدة فكرية واحدة ثابتة تتواءم مع سنن الحياة وطبيعة الخلق.

فمن آمن بالإسلام يصبح الحلال والحرام هما مقياس أعماله ونظرته إلى الأشياء وليست النفعية، ذلك أن النفعية تنسجم مع فكرة أن الإنسان هو الذي يشرّع وليس الله سبحانه. وتصبح سعادة المسلم هي بأن ينال رضا الله لا أن ينال أكبر قسط ممكن من اللذة. وتصبح حياته حياة عبودية لله وخضوع لأمره لا حياة قائمة على فكرة الحريات التي تجعله منخلعاً من كل قيد. فمن قبل الأساس قبل ما تولد منه. ومن أراد أن يغير فعليه أن يبدأ بالأساس، وأن يلاحظ الانسجام بين الأفكار الفرعية وبين الأساس. هذا هو الفكر المبدئي والدعوة المبدئية التي على الجماعة الانطلاق من خلالها. ولذلك لا يقبل من المسلمين ولا من أنظمتهم ولا من جماعاتهم أن يخلطوا بين الإسلام وغيره. فكما لا يقبل من الأنظمة القائمة جعل الإسلام مصدراً من مصادر التشريع إلى جانب مصادر غير شرعية أخرى مثل العرف، أو جعل الإسلام هو المصدر الأساسي، كذلك لا يقبل من الجماعات الإسلامية مثل هذا الاختلاط كأن تقوم على الإسلام وعلى بعض الأفكار الغربية الغريبة عن الإسلام. فهذا انهزام لا يقبله الله سبحانه وتعالى ولا عباده المؤمنون.

لذلك فإن كل الجماعات الإسلامية التي عقيدتها قائمة على أساس أن (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أي لا معبود ولا مطاع بحق إلا الله أي لا يؤخذ التشريع ولا يكون الخضوع إلا لله لا يحل لها أن تشرِّق وتغرِّب في أخذ أحكامها عن الحياة. فكل فكرة يجب أن يلاحظ انبثاقها عن العقيدة وأخذها من المصادر الشرعية الموثوقة واستنباطها مع أدلتها التفصيلية.

فكيف تنسجم كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) مع القول بأن الاشتراكية القائمة على فكرة (لا إله والحياة مادة) هي من الإسلام. أو مع القول بأن الديمقراطية القائمة على فكرة (فصل الدين عن الحياة) هي من الإسلام. أو مع القول بأن القومية والوطنية القائمة على العصبية التي رذلها الإسلام هي من الإسلام.

وكيف تنسجم كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وهي تعني إفراد الله في الخضوع والتشريع مع القول بمشاركتنا الآخرين أو مشاركة الآخرين لنا في التشريع والخضوع.

وكيف تنسجم كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) القائمة على التذلل والخضوع والعبادة لرب العالمين مع فكرة الحريات الموجودة في الأنظمة الغربية التي تجعل الإنسان هو سيّد نفسه في كل شيء. ولا يخضع لإله إلا بمقدار ما يتناسب هذا الخضوع مع شهواته ورغباته ومصلحته.

نعم إن الحرص على العقيدة الإسلامية يقتضي الحرص على كل ما انبثق عنها. وإلا ضاعت شخصية الجماعة في خضم التوفيق الذي لن يرضي الله ولا عباده.

وللمحافظة على الفكرة نقية، صافية، واضحة، مبلورة، يجب إبعادها عن التأثر بالواقع والخضوع للظروف ووضعها في منأى عن التحريف والتبديل والمساومة.

وكما أن الداعي يريد أن يتغير المجتمع بحسب تصوره؛ كذلك للمجتمع بمفاهيمه وأفكاره الخاطئة وأوضاعه السياسية، وتركيبته الاجتماعية ضغطه على حامل الدعوة وعلى الجماعة التي يعمل معها للتغيير.

فالجماعة عندما تقوم على الفكرة المبدئية وتنزل إلى الواقع ستهبّ عليها العواصف محاولة اقتلاعها من جذورها. وسيكون تعامل الأنظمة معها يختلف عن تعاملها مع الحركات الأخرى. ذلك أن الحركات الأخرى تطرح أفكاراً جزئية لا تؤثر عليها بحال بل قد يكون فيها سدّ لبعض الثغرات التي أحدثتها الأنظمة نفسها. ولكن الدعوة الجذرية القائمة على الفكرة المبدئية يتم فيها تناول الأمور من أساسها ولا ترضى بالترقيع ولا بالمسايرة، ولا تقبل بأنصاف الحلول، ولا تقبل بإصلاح ما أحدثته الأنظمة، ولا تقبل ترك الدعوة إلى تغييرها، ولا تقبل تناول الفروع وترك الأساس الذي تقوم عليه هذه الفروع. ومن الطبيعي أن تكون كواجهة هذه الجماعة أو الحزب إلى غير مثال. وبقدر التزام الجماعة بالتغيير الجذري بقدر معاداة الأنظمة لهذه الجماعة وبقدر شدة المواجهة.

وقد تنعكس شدة المواجهة هذه على الداعي نفسه فلا يستطيع التحمّل فيضغط على جماعته لكي تخفف من قوة طرحها. وقد تضيق عليه نفسه وتضعف إرادته عندما يجد نفسه ملفوظاً من الناس وكالأجرب مفرداً. وقد توسوس له نفسه وتحدثه حديث الانكفاء عن العمل عندما تتعارض مصالحة الدنيوية مع الوضع الجديد الناشئ عن العمل مع جماعته. فيبدأ بالضغط على جماعته ويدعوها إلى التحول عن المطالبة بالتغيير إلى المطالبة بالإصلاح. فإن استجابت الجماعة لأصحاب هذه الطروحات من أعضائها بقي معها. ويكون بذلك قد استطاع أن يعمل لدينه ودنياه وأن يرضي الله والملك بزعمه. وإن رفضت ضغوطه وأصرّت على جذريتها وانقلابيتها في العمل تحوّل هو عنها. وهنا تواجه الجماعة نارين: ناراً داخلية من شبابها الذين ثقلت همتهم أمام ثقل الضربات، وناراً خارجية مع الأنظمة التي لا تتهاود مع أصحاب هذه الطروحات.

وتبدأ معركة المساومة ما بين الجماعة والأنظمة وتبدأ العروض تنهال على الجماعة، ويبدأ أسلوب العصا والجزرة. ومن المعلوم أن المساومة تدخل في شؤون البيع والشراء. ومتى دخلت الجماعة في المساومة تحولت إلى تجارة وبيع ذمم وإذلال أمم. وإلا فإنها ستصطلي بنار الأنظمة وستكوى بلهيبها.

من هنا تحتاج الفكرة المبدئية الصحيحة إلى الجماعة أو الحزب المبدئي الذي يتوفر في قيادته وأعضائه الحرص على الشرع بحيث يكون هو الأعلى. والحرص على الصفاء والنقاء والصبر، والتضحية والإيثار، ونكران الذات، وخلو النفس من حظ النفس، وحتى لا يتم الانحراف ولا تتثاقل الهمم ولكي تسير الجماعة بشكل مضمون يحفظ عليها عملها ويجعله في منأى عن التغيير والتلاعب به يجب أن تربك كل فكرة وكل حكم شرعي بالعقيدة الإسلامية ربطاً محكماً حتى إذا جرى التعارض بين مصلحة وأمن الجماعة أو حامل الدعوة معها وبين الهدف الشرعي الذي قامت لتحقيقه أتى الترجيح لمصلحة الدعوة وكان هذا الربط هو السد المنيع أمام وسوسة الشيطان وحديث النفس الأمارة بالسوء.

وحتى تنجو سفينة الجماعة أو الحزب من الغرق في أوحال الواقع السيئ كان لا بد من أصول ضابطة تحدد الأفكار وطريقة التفكير لأن ذلك مما يلزم الجماعة بما توصلت إليه فلا يحق لها الخروج عن أصولها في يوم من الأيام تحت حجة التأويل والتبرير.

فحسن التوجه، وحسن التأسي، وحسن الفهم، تؤدي إلى تطهير الجماعة والعاملين فيها مع الوقت من كل شوائب الماضي التي علقت بهم وتنقي النفوس، وتقوي الإيمان.

وهذه الطريق لا يستطيع الصبر على وعثائها إلا أولو العزم من المؤمنين. فالفتن التي يصبر عليها القائمون على العمل تنقيهم كما ينقى الذهب بالنار.

وإلا فإن الانكفاء، والتبديل والتراجع، والتلوّن، سيكون مصير الجماعة. وغموض الطريق والهدف وعدم بلورة الأفكار عندها سيجرها إلى التبديل عندما تجد صعوبة في العمل وإلى التبرير عندما تطالب بالدليل.

ومتى رضخت الجماعة للمساومة وقبلت بالحق مجزأً وتخلّت عن جذرية الطرح وانقلابية العمل فقدت قوتها الوحيدة التي كانت تمتلكها وصارت غير متميزة ولا تلفت نظر الناس إلى تفرد ولا خصوصية. وتكون قد سقطت في ميدان الصراع الفكري وكانت الغلبة لعدوها حتى لو بقيت تنادي بالإسلام وتطرح الإسلام. لأن طرحها صار مشوهاً ولأنه صار في مصلحة النظام. ويكون بذلك قد تحول إلى عقبة في وجه التغيير بدل أن يكون العكس. وهذا ما حذرنا منه الله تعالى حين قال لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) وكما قال سيدنا عمر رضي الله عنه لقاضيه شريح «لا يلفتنّك عنه الرجال».

ويبقى السلاح الأمضى الذي تمتلكه الجماعة هو فكرتها. فإن استطاعت أن تحافظ عليها وأن تخرجها من دائرة المساومة، وتصبر عليها رغم كل الظروف، وسارت على خُطا الرسول صلى الله عليه وسلم استطاعت بعد حين من الزمن أن تيهئ ما هيأه الرسول صلى الله عليه وسلم من إعداد الثلة المؤمنة وتهيئة الأمة لتقبل الحكم بما أنزل الله واستطاعت بعدها أن تقلب المعادلة لمصلحة الدعوة. وإقامة الدولة.

وتحلّي أصحاب الدعوة الحقة بأفكار الإسلام بشكل صحيح يقتضي منهم أن يواجهوا الضغوط بأفكار الإسلام المنسجمة مع الفكرة الأم الأساسية. فلا ينسجم معها أن تواجه الجماعة الضغوطات بعقلية (خذ وطالب) أو (طرح ما يناسب الواقع) أو (طرح بعض المطلوب) أو (القبول بأنصاف الحلول). فهذه الأفكار وأمثالها إنما قامت الجماعة من أجل تغييرها لا من أجل العمل من خلالها. وهذا هو نمط تفكير الغرب الذي إذا به عقولنا. والذي يختلف اختلافاً جذرياً عن طبيعة الإسلام التي ترفض كل هذا وتعمل على قلعه وتعمل على تثبيت الإسلام وطريقته في التفكير. فالذي يريد ويعمل للتغيير يجب أن يبدأ بنفسه أولاً.

وبعد هذا العرض لما يجب أن تتحلى به الجماعة من حرص على نقاء الفكرة ووضوحها والمحافظة على ذلك نعرض فكرتين من الأفكار التي طرحها الغرب الكافر وتعهدت إلزامَ المسلمين بها تلك الأنظمةُ الموالية له، وتلقفها بكل أسف بعضُ الجماعات العاملة للإسلام، وبعضُ الكتّاب المسلمين هؤلاء الكتّاب الذين يتولون بشكل دائم تسويق أفكار الغرب والدعاية لها. وهاتان الفكرتان هما: فكرة أن الديمقراطية هي من الإسلام، وأنها هي الشورى بعينها. والتي قال عنها أحد هؤلاء الكتّاب من باب التوفيق اللفظي والتلفيق الفكري (الشورقراطية). وفكرة قبول المشاركة في حكم الكفر التي يقول بها بعض المسلمين وبعض حركاتهم. ولنسير في بحثنا هذا بحسب الأصول الذي ذكرناها في بداية حلقات هذا البحث ندرس الواقع الذي تطبق فيه الديمقراطية وواقع الديمقراطية وهل في الشرع واقع شبيه بواقع الديمقراطية حتى يصح الأخذ بها…

إن الغرب يقوم على فكرة فصل الدين عن الحياة. وبهذه الفكرة الأساس أبعد كل تأثير للدين عن حياة الناس. وصارت مفاهيمه عن الحياة محكومة بهذا الأساس. ونشأت تبعاً لذلك عند الغربيين أفكار من جنس هذه الفكرة الأساسية ومتولدة عنها. فكانت فكرة الديمقراطية التي جعلت الإنسان سيداً على نفسه بدل أن يكون ذلك لله تعالى. وكانت فكرة النفعية هي مقياس أعماله، وكان تعريفه للسعادة بأنها الحصول على أكبر قد ممكن من اللذة. وكانت فكرة تقديس الفرد التي أدت إلى فكرة تقديس الحريات… وأنشأ مجتمعاً قائماً على هذه الأفكار وفي نفس الوقت مضاداً لكل فكر يخالفه. وكان من نتيجة هذه الأفكار أن شقي الإنسان الغربي بدل أن يُسْعَد بها. وهذا أمر طبيعي لأن الإنسان القاصر لا يستطيع أن يشرع لنفسه ولا لغيره. والمجتمع الذي يغلب عليه طابع الأنانية وتسود فيه الحريات لن يكون سوى مجتمع بهيمي تسود فيه شريعة الغاب.

ثم إن الغرب أطلق لعقله العنان. وراح يكتشف ويخترع فوصل إلى نتائج عملية وتكنولوجية باهرة ووصل إلى امتلاك أسباب القوة مما مكنه من التغلب على العالم بمنطق القوة وليس بمنطق الحق. وراح يفرض نفسه على العالم مادياً ثم فكرياً. أي أنه بعد أن كان يسيطر على البلاد، كان يركز الحكام الذين يخدمون مصالحه ويفرض الأنظمة التي تناسبه. وتقوم وسائل الإعلام ومناهج التعليم على الدعاية للغرب وفكره ومنهجه في الحياة. ويحاول أن يقنعهم أن سبب قوته هو فكرته عن الحياة.

ثم إنه قسّم العالم تقسيماً يناسب مصلحته: دولاً صناعية، منتجة، غنية، قوية، متحكمة، مستعمرة قال عنها بأنها راقية متقدمة، ودولاً فقيرة، مستهلكة، ضعيفة، مغلوبة على أمرها قال عنها بأنها متأخرة. وعمل على تركيز هذا التقسيم ومنع تغيّر أوضاع الدول ومخالفة هذا التقسيم.

ثم إنه أطلق الحريات في بلده، وجعل الناس تنعم باستقرار سياسي. ومكّن أفراده من تأمين حاجاتهم الأساسية وبعض الكماليات وبصورة متفاوتة. بينما حرم الدول الفقيرة من التقدم حين حجر عليهم العلم الذي يمكنهم من القوة المادية، ومنعهم من تكوين صناعات أساسية لتبقى الحاجة ماسة إليه. وأفقر أهل البلاد الأخرى وجعلهم أسواقاً لبضائعه. وحرم شعوبها من الاستقرار السياسي والأمني. وذلك لأن الدول الغنية الصناعية كانت تتصارع فيما بينها على استعمار الدول الفقيرة. وهذا الصراع لم يعد صراعاً مباشراً تشن فيه الحروب مباشرة على بعضها البعض بل كان يتم عن طريق جعل الشعوب تتقاتل فيما بينها، أو عن طريق إيجاد الثورات القلاقل في البلاد التي لا تسيطر عليها. مما كان يذهب الأمن والاستقرار ويؤرث الأحقاد بين الناس. ناهيك عن بعث العنصرية والعصبية وإثارة القومية بين أهل البلاد أنفسهم.

وكذلك فقد وفرت الدول الغربية لشعوبها التأمينات الاجتماعية من طب وتعليم وبطالة وشيخوخة بينما حرم الناس منها في الدول الأخرى.

وكذلك أنشأ، من باب تنويع أساليبه في الاستعمار، الهيئات العالمية من محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة العفو الدولية. فانشأ القوات المتعددة الجنسيات للتدخل لوقف الصراعات بين الدول الأخرى أو لحماية المساعدات للدول الفقيرة ونادى بالسلام العالمي وأنشأ المنظمات والهيئات لكي يتدخل بشكل مستور وغير مفضوح في شؤون الدول الفقيرة ولشراء الذمم وذلك من مثل: منظمة غوث الأولاد، وأطباء بلا حدود…

إن فكرة فصل الدين عن الحياة وما تولد عنها من فكرة النفعية أوصلت إلى فكرة الاستعمار عند الغرب. ولكن هذا الاستعمار لم يأخذ صورته البدائية كما كان في السابق بل تطورت أفكاره ووسائله وأساليبه فأصبح استعماراً مبطناً. ظاهره الرحمة. وظاهره من قِبَلِه العذاب. ومن هذا الباب راح الغرب يلبس على الناس الحقائق ويظهر نفسه على أنه المثل الأعلى الذي يجب أن تتوجه إليه أنظار الشعوب للتأسي به، وعلى أنه القِبْلة التي يجب أن ييمم المسلمون وجوههم شطرها. وأظهر، خداعاً ونفاقاً، أن ما به من نعمة فمن الديمقراطية ومن فكرة الحريات، فهي الملاذ وهي الغوث لمن أراد العيش في مثل جنته وأبطن حقيقة أن الاستعمار ومص دماء الشعوب واستغلال خيراتها، وإفقار الناس، وإبقائهم متأخرين علمياً واقتصادياً، وجعلهم سوقاً دائمة لصناعاته وتجاراته هي سبب سيطرته على العالم. قصة الغرب واستعماره طويلة ذكرنا منها مختصراً يفيد موضوعنا.

نعم، لقد قبل الغرب الحقائق وقلَّب على الناس الأمور ولبّس عليهم رؤيتهم الصحيحة ليريهم ما يريدهم أن يروه. فقامت في الحياة التي يسيطر عليها أفكار عامة باطلة ساد فيها منطق القوة. وكان شعارها يقوم على قاعدة: «إن القوي حجته قوية وإن الضعيف حجته ضعيفة».

وهنا يأتي دور الجماعة أو الحزب المبدئي ليعيد الأمور لنصابها وليصحح النظرة وليمنع التلبيس. وهذا الواقع إن أثر على الجماعة فقدت التصور الصحيح وصارت تطرح ما يطرح عدوها من حل لها. وإن فهمته على حقيقته، ومن ثم لجأت إلى الشرع لجوءاً صحيحاً لتعرف كيف تعالجه خرجت للناس بالشفاء واستطاعت أن تخرجهم من ظلم الفكر الغربي إلى عدل الإسلام.

ومن هذه المقدمة نرى أن ما بالغرب من تفرد في القوة فلأنه أطلق لعقله العنان ومنع ذلك على غيره من الشعوب مما أوصله إلى امتلاك أسباب القوة المادية وحده. وأن ما به من غنى فاحش فإن سببه الاستعمار ومص دماء الشعوب ونهب خيراتها وليس الديمقراطية.

أما ما هي الديمقراطية وما الذي أفرزته في واقع تطبيقها فلذلك قصة ثانية:

إن فكرة (فصل الدين عن الحياة) نشأت في الغرب بعد أن اكتوى الناس هناك بنار تدخل الكنيسة في شؤون حياة الناس. كانت تتدخل باسم الدين. وكان دينهم من ذلك براء. لأنه لا يوجد في الدين النصراني تشريع لأمور الحياة. فقام رجال الدين يشرعون باسم الدين تشريعات ظالمة أدت إلى ردتَيْ فعل: الأولى تقول بنفي الاعتراف بالدين مطلقاً، والأخرى تقول بالاعتراف به ولكن يجب فصله عن الحياة. وقامت على أساس الفكرة الأولى أفكار عن الحياة ونشأت عليها أنظمة عرفت بمنظومة الدول الاشتراكية التي انفرط عقدها بعد عقود من الزمن وبعد أن شقي الناس بتطبيقها. وقامت على أساس الفكرة الثانية أفكار عن الحياة وتبنتها أنظمة عرفت بمجموعة الدول الرأسمالية والتي هي في سبيلها إلى الانفراط. ويدل على ذلك الفكر والواقع.

إن فكرة فصل الدين عن الحياة. أعطت للإنسان حق التشريع ومنعت ذلك على الدين. فهم يعترفون بوجود الإله ويجعلونه فكرة فردية لا تخص المجتمع ولا تؤثر فيه. ولا يمنع أن يكون الإله عندهم هو الله أو المسيح أو بوذا أو شخص. ولا يمنع عندهم أن يكون إيمان بلاد دين. ولكن الإنسان في كل الأحوال هو المدَبِّر حصراً. وهذه الفكرة عندهم لا مساومة عليها ولا تأويل لها. فالإنسان عندهم هو الذي يدبر أموره ويصرف شؤونه وينظم إشباع غرائزه. ومن هنا نشأت فكرة الديمقراطية التي تعني «حكم الشعب بالشعب وللشعب».

فـ (حكم الشعب) تعني أن الشعب هو سيد نفسه أي هو الذي يسن القوانين أي هو الذي يشرع.

و(بالشعب) تعني أن الشعب هو الذي يَحكم بما شرعه.

و(للشعب) تعني أن الشعب هو الذي يُحكم بما شرعه.

وقد ترجموا ذلك عندهم عملياً بسلطات ثلاث:

1- السلطة التشريعية: وهي التي تشرع الأحكام والقوانين أو تعدلها أو تلغيها وتراقب تنفيذها.

2- السلطة التنفيذية: وهي الذي تنفذ القانون العام أو الإرادة الشعبية العامة أو القوانين والأحكام التي شرعتها السلطة التشريعية.

3- السلطة القضائية: وهي التي تقضي في كل ما يعرض عليها وفق الأحكام والقوانين التي تصدرها السلطة التشريعية.

هذه هي مواصفات الديمقراطية الأساسيةُ، ويمكن القول إن كل نظام يتميّز بهذه المواصفات الأساسية هو نظام ديمقراطي. وكل نظام تنتفي فيه صفة واحدة من هذه المواصفات الأساسية لا يطلق عليه أنه نظام ديمقراطي. على أن أبرز هذه المواصفات الأساسية هي: سيادة الشعب أو الأمة. إذ تعتبر هذه الركيزة الأولى في الفكر الديمقراطي والعمود الفقري في الأنظمة الديمقراطية.

فهل في الإسلام ديمقراطية؟ إن كان هذا الواقع موجوداً في الإسلام إذاً يمكننا القول، ونحن مطمئنون، «إن الديمقراطية من الإسلام». و«إن الخلفاء الراشدين هم أول من طبق الديمقراطية» «وإن الديمقراطية هي بضاعتنا التي ردت إلينا». وإن كان واقعها غير موجود، فإنها تكون ليست من الإسلام في شيء… وبالتالي يجب أن نعرف حكم الإسلام فيها.

نقول إن فكرة الديمقراطية هي فكرة تنسجم مع فكرةٍ أساسٍٍ لها وهي فكرة (فصل الدين عن الحياة) فهي وليدتها، وتأخذ حكمها. ولأنها فرع لأصل مردودٍ يعتبر معتنقه كافراً. ومعلوم أن فكرة (فصل الدين عن الحياة) هي نقيض لفكرة المسلمين الأساسية وهي (لا إله إلا الله محمد رسول الله) والفكرة التي تتولد من عقيدة المسلمين وتنسجم معها هي (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) فقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) تعني أنه لا اعتبار لرأي الأكثرية تُجاه ما قرره رب العالمين من أن تشريع الحكم هو لله وحده. والأمر والنهي والتحليل والتحريم للعلي الكبير، العليم الخبير وليس لمخلوق سواه. ولا يملك فرد أو جماعة أدنى نوع من أنواع المشاركة في التشريع مع الله.

فالله وحده هو الذي يحكم (لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ).

فكيف يجتمع ليل الديمقراطية البهيم مع نهار الإسلام الناصع. والله سبحنه يصرح في محكم آياته: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ…) ويقول سبحانه: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).

وقد قرر الإسلام أن كل تحاكم لغير الله هو تحاكم للطاغوت فقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا).

وحكم الطاغوت هو حكم الجاهلية، وهو كل حكم يناقض حكم الله ورسوله. يقول ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) «والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله».

والقرآن اعتبر أن من تحاكم إلى الطاغوت فإن إيمانه زَعْمٌ وادعاء وليس حقيقة. كذلك فإن القرآن جعل الطاغوت نداً للإيمان بقوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى).

فالأمة الإسلامية يجب أن تكون شاهدة على الناس بعد رسولها إلى قيام الساعة تقول بهم ما قاله القرآن: (أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

وعلى هذا فإن فكرة (فصل الدين عن الحياة) وما تولد عنها من أفكار منها الديمقراطية هي أفكار طاغوتية، طلب منا الإسلام نبذها والكفر بها.

هذه هي الديمقراطية وهذا هو حكم الإسلام فيها. أما ما هو الواقع الذي أفرزه تطبيق كل هذا على الأرض: هل هو واقع مشرّف جميل نحب أن نعيش مثله أو هو واقع مرذول يكتوي أهله بناره ويعيشون بفراغ وضياع نتيجة تطبيقه.

إن الغرب بلجوئه إلى فكرة (فصل الدين عن الحياة) أعطى لنفسه حق التشريع وممارسة الإرادة. ورأى أن الإنسان يجب أن يعيش حياته كما يرى هو، لا كما يرى غيره. وبحسب إرادته لا بحسب إرادة غيره. ورأى كذلك أنه لا يمكنه ممارسة هذا الحق إلا إذا تمتع بحريته. وقد توصل إلى أن حريته تتجلى في الحرية والاعتقاد وحرية التملك وحرية الرأي والحرية الشخصية. واعتبر فكرة الحريات هذه مقدسة لا يمكن لأحد أن يمسها. وهذه الحريات لها معانٍ اصطلاحية محددة.

فحرية الاعتقاد أجازت للفرد أن يعتقد الدين الذي يراه. أو أن يتنقل بين العقائد ولو اتخذ له في كل يوم عقيدة، وأباحت له أن يلحد بالأديان جميعها.

وحرية التملك سمحت للفرد أن يمتلك ما يشاء، وبأية كيفية يشاء، وأن يتصرف بماله بالشكل الذي يريد. فلو أراد أن يهبها لكلبه وأن يحرم منها ورثته فلا أحد يمنعه من ذلك.

وحرية الرأي تركت له أن يقول ما يريد من حق أو باطل من غير وازع ولا رقيب. وله نقض أن نقد أي رأي يخالف عقله أو هواه. وليس لأحد أن يمنعه من ذلك.

والحرية الشخصية أباحت للأفراد التصرف بأمورهم الفردية دون اعتبار لقيم أو أي التزام خلقي أو رادع روحي.

وقد رتبت فكرة الحريات هذه، والتي هي من مستلزمات الديمقراطية، على الذين يعتنقونها، انحداراً في القيم جعلت أصحابها يصلون إلى مستوى أحط من مستوى قطعان البهائم.

فحرية الاعتقاد جعلت الدين ليس بذي أهمية في المجتمعات الرأسمالية. وقد تهاونت كثيراً بالدين حينما أباحت للفرد أن يبدل دينه كما يبدل ثوبه. ومع انتشار الفكر المادي وانحسار الفكر الديني انحسرت القيم الخلقية والإنسانية والروحية. وخلت النفوس من الرحمة وصار الناس يعيشون كالذئاب يسخّر قويُهم ضعيفَهم.

وحرية إبداء الرأي سمحت للناس أن يقولوا ما يشاؤون وأن يدْعوا إلى ما يريدون فوُجد كل رأي شاذ وغريب وباطل في مجتمعاتهم التي خلت من الحق ومن مقياس الحق. وصرت تسمع كل ناعق من أمثال سلمان رشدي، الذي تذرع بحرية الاعتقاد وتستر بحرية إبداء الرأي ليجدّف على الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من قانون يمنع ذلك.

أما حرية التملك ومقياسها النفعية فقد أوجدت تلك الرأسمالية الضخمة التي اتخذت الاستعمار طريقة لها للتحكم بمصائر الشعوب كافة، والاستيلاء على ثرواتها، والاستئثار بخيراتها، وامتصاص دماء شعوبها، وتسابقها وتنافسها مع بعضها على الكسب الحرام والمتاجرة بدماء الشعوب وإيقاد الفتن والحروب بين الدول لتتمكن من بيع منتوجاتها وتصريف صناعاتها العسكرية التي تدر عليها الأرباح الطائلة. وقد تجردت هذه الدول الرأسمالية من كل قيمة روحية أو خلقية أو إنسانية. بل راحت تستعمل الدين، إن اضطرت، مطية لمصالحها وتدّعي الأخلاق والإنسانية لتخفي وجهها القبيح ورائحتها النتنة.

أما الحرية الشخصية فقد حوّلت المجتمعات في البلاد الديمقراطية إلى مجتمعات بهيمية منحطة ونزلت بهم إلى مستوى من الإباحية القذرة لم تصله البهائم. فقد أباحت تشريعاتهم الممارسات الجنسية الخاطئة والشاذة. وصرت ترى فيهم ما لا تراه في الحيوانات من ممارسات علنية. ومارسوا الجنس بشكل جماعي وكذلك مارسوه مع أرحامهم من الأمهات والبنات والأخوات. حتى ومارسوه مع الحيوانات. فظهرت فيهم أمراض لم تكن في أسلافهم. وتفسخت الأسرة في مجتمعاتهم وفقد التراحم بين أفراد  العائلة الواحدة. فالحرية الشخصية كانت حرية الانفلات من كل قيد، والتحلل من كل القيم، حرية تحطيم الأسرة. وكانت الحرية هي التي يرتكب باسمها جميع الموبقات وتستباح كل المحرمات.

وكانت حرية الزنا واللواطة والسحاق والعري، والخمر ومزاولة كل عمل مهما كان خسيساً بمنتهى الحرية دون ضغط ولا إكراه.

هذه هي آثار الديمقراطية تدل عليها. فهي من وضع عقول البشر وليست من الله ولا تستند إلى وحي السماء. ولا تمتّ بصلة لأي دين من الأديان. ولو عدنا إلى منشئها في عقول أصحابها المفكرين والظروف التي ولدت فيها لظهر لنا الأمر جلياً أنها قامت على أساس كفري. وأنها وضعت رداً على مقولة لويس الخامس عشر: «إننا لم نتلق التاج إلا من الله». ورداً على مقولة لويس الرابع عشر: «إن سلطة الملوك مستمدة من تفويض الخالق. فالله وحده مصدرها وليس الشعب. والملوك غير مسؤولين عن كيفية ممارستها إلا أمام الله». وقد وصف المفكرون نظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو بأنها: إنجيل الثورة الفرنسية العلمانية.

ومن كل هذا يتبيّن لنا مناقضة الإسلام للديمقراطية مناقضة تامة في المصدر الذي جاءت منه. والعقيدة التي انبثقت عنها، والأساس الذي قامت عليه، والأفكار والأنظمة التي جاءت بها.

– فالمصدر الذي جاءت منه الديمقراطية هو الإنسان. والحاكم فيها الذي يرجع إليه في إصدار الحكم على الأفعال والأشياء بالحسن والقبح هو العقل والأصل في وضعها فلاسفة أوروبا.

– أما العقيدة التي انبثقت عنها الديمقراطية فهي عقيدة (فصل الدين عن الحياة) وهي العقيدة المبنية على الحل الوسط. وهذه العقيدة لم تنكر الدين لكنها ألغت دوره في الحياة وفي الدولة. وبالتالي جعلت الإنسان عقيدته قامت حضارته وعين اتجاهه الفكري.

– أما الإسلام فإنه على النقيض من ذلك. فهو مبني على العقيدة الإسلامية التي توجب تسيير جميع شؤون الحياة والدولة بأوامر الله ونواهيه. أي بالأحكام الشرعية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية. وعلى أساس عقيدته قامت حضارته وعين اتجاهه الفكري.

– أما الأساس الذي قامت عليه الديمقراطية فهو أن السيادة للشعب وأن الشعب هو مصدر السلطات وبناء عليها أوجدت الأنظمة الديمقراطية السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية لتترجم عملياً سيادتها وسلطتها.

أما الإسلام فالسيادة فيه للشرع، والأمة لا تملك التشريع. والإسلام جعل تنفيذ أوامر الله ونواهيه للمسلمين وجعل مظهره بإقامة دولة الخلافة المحددة بنصوص شرعية.

– الديمقراطية جاءت بأنظمة وأفكار قائمة على المصالح واتباع الهوى، بينما كانت تشريعات الإسلام قائمة على اتباع النصوص واستنباط الأحكام الشرعية منها. أي أنها كانت قائمة على التقيد واتباع الهُدى.

إن القول بأن في الديمقراطية بعض العناصر الطيبة التي يستطيع الإسلام الاستفادة منها هو قول مردود لا يستند إلى دليل. ولقد رأينا بعد هذا العرض للديمقراطية وما ولدته من واقع سيئ أنه ليس فيها أدنى خير تحتاج إليه خيرُ أمة أخرجت للناس. وهل في إسلامنا نقص يُسَدُّ بمثل هذا الإدعاء.

أما القول بأن ما يوجد عند الغرب من تقدم علمي وتكنولوجي إنما هو من ثمرات الديمقراطية فإنه قول لا يعرف قائله حقائقَ الأمور. ذلك أن ما كان من قبيل المخترعات التي بنيت على التجارب العلمية هو من الأمور التي مكّن الله منها عقل الإنسان. وليست متعلقة بوجهة النظر. وهذه نشاهدها عند الرأسماليين والشيوعيين والمسلمين وعند كل من يسمح لعقله بأن ينطلق. وليس للدين أو المبدأ أي أثر في ذلك إلا من زاوية واحدة فقط وهي هل يسمح المبدأ بالعلوم ويبيح استعمال العقل أم يقف في وجهه كما فعلت الكنيسة من قبل؟ ومن المعلوم أن المبدأ الإسلامي لا يبيح استعمال النظر والعقل في الأشياء فقط بل إنه يوجبه من باب إعداد القوة التي يجب توفيرها من أجل سيادة المبدأ.

والغرب عرض علينا بضاعته الفاسدة من مثل الديمقراطية التي منعَنا الشرعُ من أخذها، بينما منع علينا بضاعته الأخرى وهي علومه ومكتشفاته لأنها تمكننا من امتلاك أسباب القوة التي نحتاجها وهذه لم يمنعنا الشرع منها. ودلّل بعمله هذا بأنه على وعي بما يفعل. فهل تقبل بعض الجماعات الإسلامية أن تبقى على عمى من هذا؟

وبعد هذا لا يبقى إلا الاستهجان لمن يدعي بأن الذي لا يقول بأن الديمقراطية من الإسلام هو شخص لم يفهم الإسلام ولم يفهم الديمقراطية. بل العكس هو الصحيح.

ومن المضحكات المبكيات قول أحدهم ممن يدعي العلم: إن الإسلام يبدأ بالديمقراطية وينتهي بالديكتاتورية ممتثلاً بقول الله عزّ وجلّ: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأََمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ).

بقيت فكرة تتعلق بموضوعنا وهي وقولهم إن الإسلام قد أقر الديمقراطية حينما أشار القرآن وأشارت السنة القولية والفعلية إلى موضوع الشورى. وبعبارة أخرى ليست الديمقراطية سوى تلك الشورى فكما أن الديمقراطية تقوم على أخذ رأي الناس كذلك الإسلام أمر بأخذ رأي الناس حيث قال سبحانه: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وقال أيضاً: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وحيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار». وحيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته العملية السياسية والعسكرية دائم الاستشارة لأصحابه يأخذ رأيهم وينزل عليه. فإذا كان هذا أمر القرآن وواقع الرسول صلى الله عليه وسلم فما على المسلمين إلا الامتثال. ويقولون كذلك أن اختلاف الأسماء بين أن نقول بالشورى أو أن نقول بالديمقراطية لا عبرة له طالما أن الواقع هو نفسه.

نحن نعمل أن المنادين بالديمقراطية أصناف وفئات: منهم الخبيث المدلّس ومنهم المخلص الجاهل بحقيقة الديمقراطية فما على الفئة المخلصة إلا أن تنأى بنفسها عند مثل هذا الطرح، وإلا كانت كمن يعبد الله على جهل مما يسبب وقوعها في المعصية. ومن طبيعة المخلص أنه يرعوي وينزجر ويعتبر.

لقد قال أمثال هؤلاء يوماً إن الاشتراكية من الإسلام وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو إمامهم. فلما ظهر عفن الاشتراكية فبماذا يجيبون؟. وكذلك الديمقراطية فإنها اليوم في سكراتها الأخيرة تنتظر ساعة موتها فماذا يرجو أصحاب هذه الدعوة. إن مثل هذا الطرح ليس لمصلحة الإسلام بل لمصلحة الديمقراطية فهم يجعلونها من الأفكار العليا بدل أن يبيّنوا زيفها. ويحملونها بدل أن يدوسوا عليها.

إن تحقيق أمر الله هو في أن تكون الكلمة العليا لله، وأن يكون الدين كله لله لا يصل إليه إلا جماعة راشدة في فهمها، مستبصرة في تأسيها. مستنيرة في عقيدتها. عميقة في فهمها للأحكام الشرعية، تلفظ الأفكار الوافدة والمصطلحات الدخيلة. ولا تقبل الخضوع للواقع، ولا الوقوع تحت تأثير الظروف.

وإن خطوات المسلمين اليوم أصبحت واثقة. فلا رجوع إلى الوراء، فالنوم قد ملته الأمة. ولئن كانت تنطلي عليها ألاعيب الكفر في يوم من الأيام فإنها اليوم على عكس ذلك فإنها تسير باتجاه تعيير الأوضاع تغييراً جذرياً لا يقبل التعايش مع جاهلية الغرب الذي ظهر خداعه ومكره وظلمه.

ونسأل الله أن يلهمنا الحق ويرزقنا اتباعه. وأن يكرّه إلينا الباطل ويرزقنا اجتنابه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *