العدد 75 -

العدد 75- السنة السابعة، محرم 1414هـ، الموافق تموز 1993م

خطوط عريضة في السياسة الدولية ومنطقة الشرق الأوسط

أثر زوال الاتحاد السوفياتي على

الموقف الدولي وعلى المسرح الدولي

كان الموقف الدولي بُعيد الحرب العالمية الثانية يتجسّد في الدول الأربع الكبرى، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي. وكانت الولايات المتحدة بعد أن أصبحت الدولة الأولى في العالم وزعيمة العائلة الدولية، تأمل في تصريف شؤون العالم وحل القضايا الدولية في أروقة المنظمة الدولية وبخاصة مجلس الأمن والجمعية العمومية، بالتعاون مع الدول الكبرى الثلاث الأخرى، أو في مؤتمرات رباعية تعقد خارج الأمم المتحدة. لكن الاتحاد السوفياتي ما لبث أن أدار ظهره للنظام الدولي وأخذ يعرقل عمل المؤسسات الدولية والمؤتمرات الدولية الرباعية مما أصابها بالشلل. ومن هنا كان النظر في القضايا الدولية مناسبة لإبراز النزاع والشقاق بين الدول الكبرى. فمن جهة كان الاتحاد السوفياتي يقف في وجه المشاريع الغربية. ومن جهة أخرى كانت الدول الغربية الثلاث تأتي للمؤتمرات دونما تنسيق فيما بينها. فكانت تحمل للمؤتمرات مشاريع متناقضة، مما كان يصعّد من وتيرة الشقاق ويؤجج المشاكل الدولية بدل حلّها.

وفي سنة 1961 اتفق العملاقان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، على إسقاط كل من بريطانيا وفرنسا من الموقف الدولي ليتجسّد في العملاقين، فأخذا منذ ئذ بتصريف الشؤون الدولية في مؤتمرات ثنائية. لم تكن بريطانيا وفرنسا، وبخاصة بريطانيا عندئذ كمًا مهملاً، إذ كان لهما وجود واسع على الحلبة الدولية. ولذلك فإن إسقاطهما من الموقف الدولي ومن المؤتمرات الدولية الثنائية لم يكن يعني عملياً وحقيقة كف أيديهما عن القضايا الدولية مما جعل نجاح العملاقين في تصريف شؤون العالم جزئياً. لقد نجح العملاقان في فترة الوفاق في حل أزمات دولية، وتطويق أزمات أخرى، وكان تثبيت الحدود في أوروبا وإضفاء الشرعية الدولية عليها من قبل الدول الأوروبية نفسها في مؤتمر هلسنكي سنة 1975 من أهم منجزات العملاقين.. ومع كل ذلك، فقد فشل العملاقان في حل قضايا كثيرة مثل القضية الفلسطينية، وقضية قبرص، وقضيتي كشمير وجامو بالإضافة إلى قضايا عديدة في أفريقيا مثل الصحراء الغربية، وجنوب أفريقيا، وأنجولا وموزانبيق بسبب مواقف الدول الأوروبية. كما فشلا في حل قضايا تعتبر الصين طرفاً فيها مثل قضية الكوريتين وكبودية.

وفي سنة 1991 إنهار الاتحاد السوفياتي، وتفككت إمبراطوريته، واندثرت أيدلوجيته فسقط تلقائياً من الموقف الدولي. وسقوط الاتحاد السوفياتي، من الموقف الدولي يعني انفراد الولايات المتحدة من الناحية الواقعية. وقد برز هذا التفرّد في أزمة الخليج، إلاّ أن هذا التفرّد بحكم الواقع لا يعني من الناحية العملية أن الولايات المتحدة هي التي تتصرف وحدها في جميع شؤون العالم تصرفاً كلياً. بل هناك قوى أخرى فاعلة على المسرح الدولي لها أثرها تعمل على عرقلة تفرّد الولايات المتحدة في تصريف شؤون العالم، كما في قضية ليبيا والبوسنة وقبرص، إذ وقفت القوى الأوروبية الغربية ضد أميركا في محاولتها زيادة العقوبات على ليبيا، ووقفت ومعها روسيا ضد محاولة أميركا ضرب الصرب جواً، ورفع حظر توريد السلاح لمسلمي البوسنة. كما استعملت روسيا حق النقض في قضية قبرص. إلا أن ذلك لا يعني عدم تفرّد الولايات المتحدة واقعياً، فالعملاقان معاً إبان الوفاق الدولي ـ وكان الموقف الدولي محصوراً بهما ـ كانا يعجزان عن تصريف شؤون العالم تصريفاً كلياً، وكان نجاحهما في ذلك نجاحاً جزئياً لوجود قوى دولية أخرى فاعلة على المسرح الدولي.

إنه وإن كانت الولايات المتحدة هي الدولة الأولى في العالم، والمتفرّدة واقعياً والمتفوقة على غيرها في القوة العسكرية والاقتصادية، وفي القدرة على استخدام مجلس الأمن، فإن تشرذم المسرح الدولي إلى مجالات حيوية أخرى، وإلى قوى عسكرية، وقوى اقتصادية أخرى يجعل هذه القوى الأخرى تعمل على أن تكون الولايات المتحدة عاجزة عن التفرّد في الموقف الدولي، وسيؤدّي تعنّت الولايات المتحدة في سعيها لبقائها متفردة في الموقف الدولي إلى وقوف الدول الأخرى في وجهها، وفي مجلس الأمن، وعلى الحلبة الدولية، مما سيولد الصراع، ويؤجج بؤر التوتر في العالم حتى تفرض هذه الدول نفسها على الولايات المتحدة لتشاركها في الموقف الدولي، أو حتى تعترف الولايات المتحدة بهذه القوى الأخرى شركاء لها في الموقف الدولي فتتفق معهم على ذلك.

وسيزيد انهيار الاتحاد السوفياتي من بؤر التوتر في العالم، لأن الاتحاد السوفياتي كان قوة مركزية في المعسكر الاشتراكي يفرض الانسجام على دوله فتتناسى خلافاتها الكامنة. ومع انهياره وزوال ظله ستبرز التناقضات الكثيرة والكامنة فيما يسمّى بدول المعسكر الاشتراكي سابقاً مما يزيد في تعقيد المسرح الدولي.

وحقيقة الموقف الدولي في الوقت الحالي انه أقرب إلى حالة عدم الاستقرار من التفرّد الأميركي، وإنه شبه عائم. ومع سعي أميركا للانفراد، وسعي الدول الأخرى لصدّها يشعل كل طرف الحرائق للطرف الآخر مما يجعل العالم يبدو وكأنه في حالة فوضى وعدم استقرار.

واقع السياسة الأميركية

إنهار الاتحاد السوفياتي وتبخرت أيدلوجيته كأن لم تكن، وبقي الموقف الدولي أحادي القطب منحصراً بأميركا، وبقيت الولايات المتحدة الدولة الأولى في العالم من غير منافس، وبقيت زعيمة للعائلة الدولية، وبقيت عملاقاً عسكرياً واقتصادياً. ومع كل هذا فإنها تعاني من وهن اقتصادي وتوتر اجتماعي إن لم يكن تمزقاً، وتعاني من شك الشعب الأميركي في القيم الأميركية ومن شك في القيادات السياسية. لقد أرهق الدور العالمي العملاق الأميركي فاستنزف الكثير من قوّته. والقوة نسبية ولا تقاس بمقاييس مطلقة، والولايات المتحدة إن لم تتراجع في القوة فقد قوى غيرها مما يعني انحداراً نسبياً في قوتها.

اعتاد الشعب الأميركي إبان عزلة أميركا على الجشع في التملّك والنهم في الاستهلاك، وكان يظن أن طاقات أميركا ومواردها مطلقة لا حدّ لها. فهي كافية للوفاء بالتزامات دور أميركا العالمي والوفاء بالتزامات الشعب الأميركي ورفاهه في وقت واحد، لكن حرب فيتنام أثبتت له خطأ هذا الاعتقاد، وان طاقات أميركا محدودة. وان التزامات الدور العالمي تكون على حساب رفاهه. ومع انحدار أميركا النسبي وحفاظ الشعب الأميركي على نمط عيشه أخذ ينتج ليستهلك ويستهلك أكثر مما ينتج مما سرّع الانحدار فأخذ الشعب الأميركي يعيش بالديون أي على حساب الأجيال القادمة.

حاول كارتر وريغان إصلاح الاقتصاد الأميركي وفشلا، لأن الأمر لا يتعلق بأداء الاقتصاد الأميركي فقط، وإنما أيضاً بأداء اقتصاد الدول الأخرى المنافسة. لذلك رأى بوش، وهو الذي رافق ريغان ثماني سنوات، عقم استهداف إصلاح الاقتصاد والانشغال فيه، فعمد إلى محاولة إصلاح الاقتصاد من الخارج بأن عمد إلى التأثير في المسرح الدولي على أمل أن يؤدي ذلك إلى تأثير إيجابي على الاقتصاد الأميركي، فهو إن لم يؤثر مباشرة فسيؤثر سلباً على اقتصاد الدول المنافسة وهي الدول الأوروبية واليابان. لم ترُق ذلك للشعب الأميركي فرفع شعار ” أميركا أولاً ” وأسقط الرئيس بوش من قمة عليائه وأتى بكلينتون رئيساً عندما وعد بتغيير الأولويات ليأخذ الداخل الأولوية على المسرح الخارجي.

لن يكون كلينتون أفضل حالاً ممن سبقه من الرؤساء ولن يتمكن من وقف انحدار الولايات المتحدة ولا حتى إجراء تغيير في الأولويات، فالدول تصل القمة وقد يطول بقاؤها على القمة وقد يقصر ثم تأخذ في الانحدار، تلك هي سنة الله في الإمبراطوريات كما هي سنته في الإنسان. ومن جهة فإن كلينتون من يمين الحزب الديمقراطي، ومن جهة أخرى فإن أرباب المال وأقطاب الصناعة هم الذين يتحكمون في السياسة الأميركية أياً كان الحزب الحاكم. هذا وتسير السياسة الأميركية في اتجاهات ومسارات يصعب على الرئيس كلينتون النكوص عنها لأن في ذلك ضرباً لمركز أميركا الدولي.

إن وقف الانحدار الأميركي يحتاج إلى إصلاحات اقتصادية واسعة تؤدى إلى إعادة ثقة الشعب الأميركي. وتحتاج الإصلاحات الاقتصادية إلى تخفيض حاد في دور أميركا العالمي. وإلي دفع الشعب الأميركي إلى تغيير نمط عيشه فيخفف من جشعه في التملك ومن نهمه في الاستهلاك، أي يتحول من الإنفاق إلى الادخار، وإلى إعادة جدولة الاستثمار وتوسيعه لتحديث التكنولوجيا وتحديث الإنتاج وتنويعه بحيث يصبح أكثر قدرة على المنافسة. وبالتدقيق في وعود كلينتون وفي الخيارات المتاحة له نجد أنه ليس بمقدوره تخفيض دور أميركا العالمي بالدرجة المطلوبة، فوعوده بتخفيض الإنفاق العسكري محدودة، كما انه ليس بمقدوره أن يغير نمط عيش الشعب الأميركي ولا حتى أن يطلب منه ذلك لأن ذلك سيعرّضه لنقمة شعبية. أما إعادة جدولة الاستثمار فتحتاج إلى مبالغ طائلة يصعب توفيرها.

ستتناسب الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأميركية مع واقع المرحلة الدولية وواقع أميركا نفسه. ونظراً لتقدم القضايا الاقتصادية في العلاقات الدولية على ما سواها، فإن الولايات المتحدة ستجعل من مفهومها لحرية التجارة مرتكزاً لسياستها الخارجية ومرتكزاً في العلاقات الدولية. وسيستمر دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كأداتين طيّعتين وفاعلتين للتدخل في شؤون الدول الأخرى. ونظراً لتراجع استعمال القوة الأميركية في العلاقات الدولية فإن أميركا ستعالج هذا التراجع وتعوّض عنه بتصعيد اعتماد حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية كركيزتين أخريين بالشكل الذي يخدم مصالحها كما كان الحال في عهد كل من كارتر وريغان. كما ستزيد من تخفيف الأعباء فتوسع من دور عملائها من الدول الإقليمية المتوسطة مثل مصر وتركية ومن دور المنظمات الإقليمية كمنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الأفريقية، في تحقيق مصالح أمريكية إقليمية أو الحفاظ عليها، كما ستسخر الأمم المتحدة حيث أمكن للغرض ذاته. وستعمد إلى حل القضايا الدولية والإقليمية حيث أمكن تسهيلاً لتخفيف تواجدها العسكري في الخارج. وإذا تعرضت مصلحة حيوية أمريكية للخطر، ولم تستطع الولايات المتحدة درءه بأحد الخيارات السابقة فإنها ستتدخل بقوتها العسكرية. وفي هذه الحالة فإنها ستعمل على أن تسخر معها غيرها بالمساهمة في القوة العسكرية أو في النفقات المالية. وإذا أعياها الأمر تدخلت منفردة. وستستعمل الولايات المتحدة القوة العسكرية دفاعاً عن مصالحها الحيوية وعن مركزها الدولي وعن نظامها الدولي وعن مجالها الحيوي. وحل المشاكل الدولية حيث أمكن لا يمنع من أن تشعل أميركا الحرائق، بأعمال سياسية لمنافسيها أشغالاً لهم عن منافستها مما سيوجد نوعاً من الفوضى على المسرح الدولي والكثير من سفك الدماء، وأحداث البوسنة والهرسك ليست سوى مثل. وسيزيد من الفوضى وسفك الدماء استعمال جميع الأسلحة غير المشروعة كالإرهاب الدولي والابتزاز الدولي.

أميركا و روسيا

كانت روسيا قلب الإمبراطورية السوفياتية وقوته المركزية، وبتعبير أدق كانت الإمبراطورية السوفياتية إمبراطورية روسية. ولم يكن صراع الولايات المتحدة مع روسيا الشيوعية صراعاً أيدلوجيا فحسب. وإنما كان صراعاً أيدلوجياً واستراتيجياً، كان صراعاً على الأيدلوجية. وعلى القوة، وعلى المركز الدولي، وعلى النظام الدولي. لذلك فإن ضعف الأيدلوجية الشيوعية على المسرح الدولي وكأداة من أدوات الصراع منذ مطلع الستينات لم يضع حداً للصراع بين الدولتين. كانت روسيا الشيوعية قادرة بما تملك من قوة عسكرية، على تدمير الولايات المتحدة تدميراً شاملاً ومؤكّداً، فكانت هاجس أميركا ومصدر قلقها. لذلك كان من الطبيعي أن يستمر الصراع، وكانت الولايات المتحدة تراهن على ضعف الاقتصاد السوفياتي فعملت على استنزافه بجرّ روسيا إلى حلقة مفرغة من سباق التسلح، وبجرّها إلى مناطق نفوذ هش بعيدة عن مجالها الحيوي تزيد في استنزاف اقتصادها.

كسبت الولايات المتحدة الرهان، فتخلّت روسيا عن المبدأ الشيوعي، وتفكك معسكرها، وانهارت إمبراطوريتها لتعود روسيا اتحادية (قيصرية). لقد تخلّت روسيا عن المبدأ الشيوعي، وتخلّت عن منافسة أميركا على زعامة العالم، وتخلّت عن السعي لهدم النظام الدولي لتصبح جزءاً منه. وبكلام آخر، تراجعت عن الدور العالمي إلى الدور الإقليمي وإلى العائلة الدولية. ومع كل هذا التراجع والانحسار بقيت تمتلك أسلحة الاتحاد السوفياتي، وتمتلك بالتالي القدرة على تدمير الولايات المتحدة تدميراً شاملاً ومؤكداً. وقد تجلت هذه القدرة في اتفاق الرئيسين بوش ويلتسن على أن تحتفظ الولايات المتحدة مع نهاية القرن بمخزون من الرؤوس النووية الاستراتيجية مقداره 3500 رأس. بينما تحتفظ روسيا الاتحادية بمخزون مقداره 3000 رأس. ولا يقلل تفوق أميركا في الكم والنوع من قدرة روسيا على تدمير الولايات المتحدة تدميراً شاملاً ومؤكداً.

يحتم تراجع روسيا إلى قوة إقليمية كبرى احتفاظها بمجال حيوي واسع لا يقل عن مجال روسيا القيصرية الحيوي. فأطماع روسيا في المناطق المجاورة بحجة الأمن، وبحجة صلة العرق والدين، ومن قبيل الامتداد نحو المياه الدافئة أطماع تاريخية ومتأصلة، لن تتنازل عنها إلا أن تنهار انهياراً كاملاً. كانت روسيا الشيوعية تتخذ من المبدأ الشيوعي مادة لتماسك وتلاحم ذلك المجال الحيوي في إلى وفي معسكر. ولما تخلّت عن المبدأ أخذت روسيا تفتش عن رابط يربط حبّات العقد الذي انفرط، فابتكرت الرباط الاقتصادي. وسواء نجح هذا الرباط الاقتصادي أم لم ينجح فإن روسيا ستجد روابط أخرى تربط تلك الدول بها بشكل جماعي أو باتفاقات ثنائية.

وكما ورثت روسيا الاتحادية قوة روسيا الشيوعية، فإن من الطبيعي أن ترث معها عداء أميركا، وترث التطلع لأن تعود شريكاً لها في الموقف الدولي بعد أن تعيد بناء اقتصادها وتركيز نفسها، وستستمر الولايات المتحدة في العمل على احتواء روسيا الاتحادية كما كانت تعمل على احتواء روسيا الشيوعية، ولكن بأعمال وأساليب جديدة تتلاءم مع المعطيات الدولية الجديدة. وتسير أميركا في العمل على احتواء روسيا الاتحادية على صعيدين، الصعيد الداخلي والصعيد الإقليمي.

أما على الصعيد الداخلي فإن أميركا تدفع بروسيا إلى حلقة مفرغة من الدوّامات والمزالق الاقتصادية باسم الإصلاحات الاقتصادية والانتقال إلى الاقتصاد الحرّ، اقتصاد السوق، كما تدفعها إلى دوامات من الفوضى الاجتماعية والعرقية بحيث أخذ يتراءى للمراقب وكأن روسيا الاتحادية تسير نحو التفكك والانهيار. وتستعمل الولايات المتحدة في ذلك سياستها التقليدية المتمثلة بالجزرة والعصا. أما الجزرة فتتمثل بالوعود الخادعة بمساعدات اقتصادية ضخمة تساعد روسيا في تحولاتها الاقتصادية وحلّ بعض مشاكلها، كما تتمثل بلقاءات ثنائية بين قادة البلدين. وكأن أميركا تستشير روسيا في بعض القضايا الدولية كما كان الحال إبان الوفاق. أما العصا فتتمثل بطلب أن تلتزم روسيا بشروط صندوق النقد الدولي، وباتخاذ الديمقراطية قاعدة للحكم في بلد لم يعرف الديمقراطية طيلة تاريخه الطويل، وبالالتزام بحقوق الإنسان. فالمطلوب أمريكياً أن تقع روسيا في فخ الإصلاحات الاقتصادية، وفخ الفوضى الاجتماعية، كما وقعت في فخ سباق التسلّح.

وأما على الصعيد الإقليمي، فقد سارعت أميركا إلى الاعتراف بالدول التي استقلت عند انفراط عقد الاتحاد السوفياتي وإلى ضمها إلى الأمم المتحدة لتعامل وفق الشرعية الدولية كدول مستقلة. وبينما أخذت الدول الأوروبية تجذب دول أوروبا الشرقية ودول بحر البلطيق، مما سيضع العراقيل أمام توسيع روسيا لمجالها الحيوي في أوروبا، أخذت أميركا تسلط على دول آسيا الوسطى، والمناطق الإسلامية، دول البلدان الإسلامية، مثل تركية وإيران وباكستان بحجة صلة الدين أو العرق. كما أخذت أميركا تعمل على النفاذ إلى تلك الدول بأن تجعل من نفسها طرفاً في حل المشاكل بين تلك الدول. فقد دخلت الولايات المتحدة ومعها تركية إلى جانب روسيا في حل المشاكل بين أرمينيا وأذربيجان.

لم يجر حتى الآن الاتفاق على تحديد مجال روسيا الحيوي. وبينما تعمل روسيا على تكريسه بفرض الأمر الواقع استمرار للماضي، تعمل الولايات المتحدة على ضعضعة الوجود الروسي.وتبدو درجة أهمية هذا الأمر إذا علمنا أن وثيقة البنتاغون الثانية التي جرى تسريبها قبل أكثر من عام تحتوي على سيناريوهين لحروب محتملة مع روسيا بسبب دول بحر البلطيق، ودول أوروبا الشرقية. ولذلك فإن ولادة المجال الحيوي لروسيا قد تكون عسيرة ومؤلمة وبخاصة في أوروبا.

أميركا و أوروبا

أدى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك إمبراطوريته، وزوال خطره إلى تراجع القضايا الاستراتيجية على المسرح الدولي درجة، لتتقدم القضايا الاقتصادية والسياسية. وتشكل المجموعة الأوروبية منافساً قوياً للولايات المتحدة في القضايا الاقتصادية والعديد من القضايا السياسية. وإذا أكملت وحدتها مع نهاية القرن فستشكل تحدياً قوياً للدولار، أحد الأدوات الرئيسية للهيمنة الأميركية ـ لذلك أخذت الولايات المتحدة منذ سنوات عديدة تعالج قضايا التنافس على صُعُدها، بل وتعالج قضية أوروبا ككل. لكن المعالجات وعمليات الاحتواء كانت تأخذ طابع الصراع بين دول متحالفة ضد عدو مشترك أي كانت تأخذ طابع الأعمال السياسية. ولما زال الخوف الأوروبي من الخطر السوفياتي وفقد الحلف الغربي مبرر وجوده، وزادت الدول الأوروبية من سعيها إلى الاستقلال عن أميركا، صعّدت هذه من أعمال احتواء أوروبا، فبدأت تأخذ شكل الهجوم الشرس. كانت حرب الخليج هجمة أمريكية على أوروبا خارج أوروبا،لكن تلك الهجمة كانت، بما تمخضت عنه من نتائج، ضربة موجعة دون أن تصل إلى درجة قصم الظهر. لذلك عمدت أميركا إلى مهاجمة الدول الأوروبية في عقر دارها، فعمدت إلى تفكيك يوغوسلافيا مع ما أدت إليه من مأساة تاريخية للمسلمين في البوسنة والهرسك.

أعلنت الولايات المتحدة بادئ الأمر أن الأزمة في يوغوسلافيا أزمة أوروبية، فهي بالتالي من اختصاص الدول الأوروبية، فأرسلت المجموعة الأوروبية اللورد كارينغتون ممثلا لها ليقوم بمعالجة الأزمة. لكنه ما أن وصل وأخذ يقوم بمحاولات لمعالجتها، حتى أرسلت الأمم المتحدة بتدبير من الولايات المتحدة وزير خارجية أميركا الأسبق، فانس، ممثلاً للسكرتير العام للأمم المتحدة. كان فانس في حقيقته مبعوثاً أمريكياً بلباس الأمم المتحدة. فاختطف فانس الأضواء واختطف الدور من اللورد كارينغتون، وأخذ يعرقل عمله حتى دفعه إلى الاستقالة بالرغم من أن كارينغتون من أمهر سياسيي بريطانيا بل وأوروبا.

وتقصد أميركا من إشعال نار الأزمة اليوغوسلافية أن تثبت لأوروبا عجز أوروبا وحاجتها لقيادة أميركا لها. ولتنطلق منها شرارة الصراع العرقي الدامي إلى أنحاء شتّى من أوروبا. وإثارة الصراع العرقي تعني بالضرورة إعادة النظر في الحدود القائمة في أوروبا. ومعلوم أن التنافر العرقي والخلافات على الحدود هي قنابل موقوتة في أوروبا. لذلك عمدت أميركا والاتحاد السوفياتي إبان فترة الوفاق إلى تثبيت الحدود في أوروبا لتخفيف حدة التوتر بينهما. وكان مؤتمر هلسنكي سنة 1975 قمة نجاحهما، إذ اعترفت الدول الأوروبية فيه بالحدود القائمة حدوداً شرعية دائمة. وإذا كان تثبيت الحدود في أوروبا وإضفاء الشرعية عليها من أهم منجزات العملاقين الهامة إبان الوفاق، فإن إعادة النظر في تلك الحدود قد تكون سمة بارزة لما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومحاولة أميركا الانفراد بالسياسة الدولية. وهذا هو بعينه اللعب بالنار ـ فإذا تجاوزت أميركا في إثارة الصراع العرقي وفتح ملف الحدود في أوروبا، حد تخويف أوروبا، وتمادت في ذلك فستكون النتائج وخيمة على الجميع.

وحتى تُبقي السيف مسلطاً، وتبقي الصراع العرقي في ما كان يسمى بيوغوسلافيا مرشحاً للامتداد إلى مناطق أخرى في أوروبا، تعمد أميركا إلى إطالة أمد هذا الصراع. ومن أجل إطالة أمد هذا الصراع، ولما رأت انتصارات الصرب والكروات وهزائم المسلمين. أخذت أميركا تحاول الضغط على الصرب لتخفيف الضغط على المسلمين كما أخذت أميركا تعمل على رفع الحظر عن تزويد المسلمين بالسلاح. ومحاولات أميركا هذه ليست شفقة على المسلمين ولا حباً بهم وإنما لإطالة أمد الصراع فلا يستسلم المسلمون في البوسنة والهرسك.

وأما موقف الدول الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا، فتتمثل في إثبات عدم حاجة الدول الأوروبية لقيادة أميركا، واثبات عدم قدرة أميركا على القيادة، وكف يد أميركا على التأثير في أوروبا، وبخاصة عدم إثارة الفتن، وفي الإبقاء على الحدود القائمة في أوروبا ومنها الحدود القائمة فيما بين كان يسمى بجمهوريات يوغوسلافيا، وفي طمس الهوية الإسلامية في البوسنة والهرسك. ولتحقيق ذلك ترفض الدول الأوروبية التدخل الدولي أو الأميركي في البوسنة والهرسك، كما ترفض رفع الحظر عن تزويد المسلمين بالسلاح على أمل أن تنهك الأطراف المتحاربة بعضها بعضاً فتقبل بالكونفدرالية أو الكانتونات ضمن الحدود الدولية ومن غير أن تبرز الهوية الإسلامية في البوسنة والهرسك. وتتمسك بريطانيا وفرنسا بهذا الموقف لدرجة أن بريطانيا تهدد باستعمال حق النقض ـ الفيتو ـ في مجلس الأمن لإحباط أي مشروع يعرض عليه بهذا الخصوص.

وتكمن قوة المجموعة الأوروبية على المسرح الدولي في أنها قلعة اقتصادية حصينة ستزداد قوة إذا ما أكملت وحدتها النقدية، وفي أن دولتين فيها هما بريطانيا وفرنسا لهما مقعدان دائمان في مجلس الأمن، وتمتلك كل منهما رادعاً نووياً، كما تكمن في كثرة العملاء في جميع أرجاء المعمورة، وهي تعمل لمشاركة أميركا في الموقف الدولي، وإنهاء تفردها به، ويكمن ضعفها في أنها تتكون من أعضاء متنافري المصالح، ومختلفي السياسات التي قد تصل حد التناقض في العديد من القضايا. لكن ذلك التنافر لا يمنع من وجود حد أدنى أو قاسم مشترك يوحد من مواقفها،كما لا يمنع من أن تتمكن دولة منها من جرّها لاتخاذ موقف سياسي موحد في قضية ما، كما فعلت ألمانيا عندما جرّت دول المجموعة للاعتراف بدولتي كرواتيا وسلوفينيا في بداية الأزمة اليوغوسلافية. فدول المجموعة تعطي الأولوية لاستمرار تكتلها تماما كما تعطي دول حلف ما الأولوية لتماسك حلفها حفاظاً على وجودها.

مسرح الشرق الأقصى

لم يكن لمسرح الشرق الأقصى حساسية المسرح الأوروبي، وإن كان أكثر تعقيداً أو هكذا سيكون في وقت ليس ببعيد. كانت الصين قديماً القوة المركزية في شرق آسيا يقدم لها جيرانها فروض الولاء والطاعة. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر أخذت اليابان تبرز كقوة إقليمية استعمارية كبرى، فجعلت من الصين وشرق آسيا مجالاً حيوياً لها تتوسع فيهما كلما عنّ لها ذلك، أو كلما سنحت لها الفرصة. كانت الولايات المتحدة تخشى أن تتمكن اليابان من حشد قوة تمكنها من غزوها عبر المحيط الهادي، تماماً كما كانت تخشى من أن تتمكن دولة أوروبية من حشد قوة تمكنها من غزوها عبر المحيط الأطلسي. فكانت تتدخل في المسرحين كلما اقتضت الحاجة للحيلولة دون ذلك. كان تدخل الولايات المتحدة في مسرح الشرق الأقصى أسبق، فقد احتلت مع نهاية القرن التاسع عشر الفلبين، واتخذت منها قاعدة متقدمة لمواجهة اليابان، كما كانت تتدخل لحرمان اليابان من مكاسبها من الصين، أو لتقليل تلك المكاسب.

ولما انتصرت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية واستسلمت ألمانيا واليابان استسلاماً غير مشروط، أخضعت البلدين لاحتلال عسكري مباشر وأخذت بإدارتهما إدارة مباشرة. صممت الولايات المتحدة على أن لا تعود أي من ألمانيا واليابان دولة عظمى، فأخذت في توجيه البلدين توجيهاً اقتصادياً لا عسكرياً، وفتحت لهما أبواب النجاح في ذلك لامتصاص الحيوية والطاقات في الشعبين. وكما أخذت شعوب أوروبا ترتعد من عودة العسكرية الألمانية، أخذت شعوب شرق آسيا ترتعد من عودة العسكرية اليابانية، بل أن الشعبين الألماني والياباني يعارضان ذلك فالذكريات مؤلمة ومريرة.

ولما برز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى تهدد منطقة المحيط الهادي وشرق آسيا، كما تهدد أوروبا، أو هكذا بدا، أخذت الولايات المتحدة على عاتقها عبء موازنته على المسرحين.وزاد من تعقيد الموقف ضمّ الصين الشيوعية قوتها إلى قوة الاتحاد السوفياتي في معسكر واحد. وتخفيفاً لأعباء موازنة الاتحاد السوفياتي في الشرق الأقصى عملت الولايات المتحدة على فك ارتباط الصين به لتجعل منها قوة تساهم في موازنته واحتواء تهديداته. وبينما لم يشهد المسرح الأوروبي إبان الحرب الباردة أية حرب، فقد شهد مسرح الشرق الأقصى حربين دمويتين هما حربا كورية وفيتنام.

وتتلخص أهداف الولايات المتحدة في الشرق الأقصى بعد الحرب العالمية الثانية في 1- حماية الولايات المتحدة من هجوم عسكري عبر المحيط الهادي. وكان هذا يقتضي الحفاظ على توازن القوى والحيلولة دون قيام دولة ما بالسيطرة على المنطقة. 2- عدم عودة العسكرية اليابانية. 3- الحيلولة دون انتشار الأسلحة النووية. 4- حرية البحار والممرات المائية الدولية. 5- الحفاظ على الوجود الأميركي سياسياً واقتصادياً. 6- نشر القيم الغربية في منطقة ذات حضارات وديانات وأعراف تختلف جذرياً عما في الغرب.

وقد استلزم تحقيق هذه الأهداف والحفاظ عليها الإبقاء على قوات أمريكية ضخمة في المنطقة شملت قوات بحرية وجوية وأرضية.

أدى انتهاء الحرب الباردة إلى إيجاد متغيرات جوهرية على الصعيد الاستراتيجي. فقد زال ظل روسيا عن المنطقة وإن بقي يطل عليها، وسيظل كذلك إلى أن تتغلب روسيا على أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إن قدر لها ذلك، ودخلت الصين في النظام الاقتصادي الحر، أو هكذا تقول، ولا زالت تشتري الوقت لتأخذ فرصتها في التحديث الاقتصادي والصناعي والعسكري والزراعي، وبدت الولايات المتحدة عملاقاً مُنهكاً يسعى إلى تخفيف الأعباء. ويمكن القول أن مسرح الشرق الأقصى قد دخل في مرحلة هدوء أو خمود قد تمتد فترة ليست بالقصيرة.

تراجعت القضايا الإستراتيجية، وتراجع التهديد العسكري للولايات المتحدة من الشرق الأقصى ليحل محله التحدي الاقتصادي والتكنولوجي، ولكن لا يبدو أن الولايات المتحدة غيرت من دورها، وإن أخذت تظهر أعراض التغيير. ويمكن أن يفهم من تلك الأعراض الخطوط العريضة في التوجهات الأميركية. وتبقي الولايات المتحدة الأهداف المذكورة مع تغيير في الأولويات والأساليب ومن ذلك:

تسعى الولايات المتحدة لتخفيض العجز في ميزان المدفوعات مع كل من اليابان والصين، وتسهيل انسياب التكنولوجيا اليابانية إلى الولايات المتحدة. وقد أدى هذا إلى احتكاك بين الولايات المتحدة وكل من الدولتين، وتطالب الولايات المتحدة من اليابان 1- إزالة الحواجز الجمركية، وفتح الأسواق اليابانية أمام المنتجات الأميركية ورفع الدعم عن بعض السلع. 2- زيادة الإنفاق الياباني الحكومي والشعبي. 3- رفع قيمة الين الياباني لتصبح المنتجات اليابانية أقل قدرة على المنافسة.

وتهدد الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات تجارية رادعة إن لم تغير اليابان موقفها. كما تجري في الولايات المتحدة حملة ضد اليابان ومنتجاتها لدرجة أنه جرى وسم اليابان إبان الحرب الباردة بالعدو رقم 2. وكانت قمة الحملة إقدام الرئيس بوش بمناسبة الذكرى الخمسين لمعركة بيرل هاربر على إثارة الضغائن. وقد رد رئيس البرلمان الياباني على الحملة الأميركية بأن وصف العمال الأميركيين بالكسل والأمية. كما تطالب الولايات المتحدة الصين بفتح أسواقها أمام المنتجات الأميركية، وإلا حرمتها من مركز الدولة الأولى بالرعاية. ولا تخلو دول المنطقة الصغيرة الناشئة صناعياً من تهديدات مماثلة. كما يفهم من الأعراض أن الولايات المتحدة تسعى إلى تخفيض وجودها العسكري في المنطقة تخفيفاً للأعباء. ومن أجل هذا تسعى الولايات المتحدة إلى:

أ – حل القضايا الإقليمية الملتهبة التي تتطلب من الولايات المتحدة الإبقاء على قوات عسكرية كبيرة أو زيادة قواتها إذا ما انفجرت أزمة، وتأتي قضية كورية في المقدمة. كانت تسويات الحرب العالمية الثانية قد نصت على توحيد كورية كما نصت على توحيد فيتنام، ولكن نشوب الحرب الباردة أخر ذلك أو حال دونه. لذلك أثارت الولايات المتحدة أزمة كورية الشمالية متذرعة بسعيها للحصول على أسلحة نووية. وستعمل أميركا على توحيد الكوريتين أو تطبيع العلاقات بينهما، علماً أن كورية الشمالية من المجال الحيوي الصيني، فيعتبر التعرض لها تحدياً للصين. وتذكر الأزمة الحالية بالحرب الكورية سنة 1950 عندما قامت كورية الشمالية بقرار ذاتي بغزو كورية الجنوبية وجرّت الولايات المتحدة والصين إلى صدام دام. وقد تتوسط الولايات المتحدة بين اليابان وروسيا لحلٍ مرضٍ لجزر الكوريل اليابانية التي احتلها الاتحاد السوفياتي في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. ويبدو أن حلّ أزمة كمبودية في أيامه الأخيرة بعد أن أوكل أمر حلها للأمم المتحدة. ويساعد في حل هذه الأزمات سعي الصين إلى نزع الفتيل من المنطقة شراءً للوقت.

ب – إيجاد توازن غير مكلف في المنطقة. ولا يعرف كيف ستسير الولايات المتحدة في إيجاده، فهل سيكون توازناً إقليمياً صرفاً بينما تراقبه الولايات المتحدة من خارجه أم سيكون توازناً بمشاركة بسيطة من الولايات المتحدة، أم أن تحقيق الأمن في المنطقة سيكون من خلال تجمع إقليمي على شكل منظومة جماعية.

وسيسهِّل حل القضايا الإقليمية وإيجاد توازن القوى تخفيف التواجد الأميركي العسكري في المنطقة، والانسحاب من كل من اليابان، وكورية الجنوبية مع الاحتفاظ بتسهيلات وحق العودة إذا ما دعت الحاجة لذلك، والإبقاء على قوات بحرية وجوية.

وتستلزم الترتيبات الأمنية في المنطقة حلاً مرضياً لقضية الأمن الياباني واحتواء أية توجهات يابانية نحو التسلح النووي، وهذا من أولويات السياسة الأميركية في الشرق الأقصى. ودخول اليابان إلى النادي النووي لا يحتاج إلا إلى قرار سياسي يحول دون صدوره معارضة شعبية داخلية، ومعارضة إقليمية ودولية.

لم تتح الظروف الدولية لليابان ما أتاحته لألمانيا، فقد أتاحت لألمانيا أن تثبت وجودها من خلال المنظمات الإقليمية، حلف الأطلسي والسوق الأوروبية المشتركة. أوجدت تلك المنظمات الغطاء لعودة مبكرة لألمانيا للمسرح فتفادت المعارضة الإقليمية والدولية وإن بقيت قوتها جزئية. تعلمت ألمانيا الدرس فحافظت على الغطاء ولا زالت، ومن المستبعد أن تتخلى عنه في وقت قريب، حتى وإن توحدت وأخذت تتخذ قرارات مستقلة. أما اليابان فنفذت إلى العالم اقتصادياً في وقت متأخر نسبياً من الإطار العالمي. فقد أوجدت لنفسها مصالح اقتصادية على مستوى العالم ومن غير أن تحل مشكلتها الإقليمية. وقد أصبحت اليابان في العقدين الأخيرين عملاقاً اقتصادياً وركناً أساسياً للاقتصاد العالمي. ويقتضي توسع المصالح والمركز الاقتصادي العالمي وجوداً دولياً على المسرح الدولي. لذلك لابد من إيجاد حل يحفظ اليابان ويحفظ مصالحها ويشبع هيبتها ومكانتها. قام أمن اليابان منذ الحرب العالمية الثانية على المظلة الأميركية فاحتوت أميركا العودة العسكرية لليابان. وحتى يستمر احتواء أميركا لأية عودة يابانية للعسكرة لابد من أن تستمر في إشعار اليابان بالأمن لوجودها ولمصالحها، وأن تشبع في الوقت نفسه هيبة اليابان الدولية. وهذا يقتضي أن تحتوي الولايات المتحدة الاحتكاك الناجم عن التنافس التجاري لا أن تصعّده وأن تسهل دخول اليابان إلى المؤسسات الدولية السياسية بالشكل الذي يرضى اليابان ويشبع طموحها، ويخدم في الوقت نفسه أميركا. وستكون خدمة الولايات المتحدة بالقيام بالإنفاق على أمور توفر على أميركا عبء القيام بذلك. فقد أصبحت اليابان أكبر مانح للقروض متحملة العبء عن أميركا ولصالح أميركا. وقد تدفعها لتحمل نفقات محاربة الإرهاب وأبحاث إنسانية مكلفة فتتزعم بذلك مؤسسات دولية، وقد تعمل على إدخالها لمجلس الأمن عضواً مراقباً، أو عضواً دائماً.

وكما عملت الولايات المتحدة على تحرير النظام الاقتصادي في الصين فإنها تعمل على تحرير النظام السياسي ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقد حررت الصين نظامها الاقتصادي وترفض تحرير النظام السياسي، بل وترفض تدخل الولايات المتحدة. فمن جهة فإن الحزب الشيوعي أراد الشيوعية لخدمة الصين، ولم يرد الصين لخدمة الشيوعية، ولذلك فليس عجيباً التخلي عن النظام الاقتصادي الشيوعي في الصين إذا لم يعمل لمصلحة الصين، ومن جهة أخرى فإن الصين تتعظ مما حصل للاتحاد السوفياتي جراء قبوله تدخلات الدول الغربية وسماعه نصائحها، ولا يريد الحزب الشيوعي أن يقع ضحية المؤامرة الغربية.

مسرح الشرق الأوسط

يمثل الشرق الأوسط أهم المسارح للقضايا الإقليمية، وهو يمثل الحديقة الأمامية لأوروبا، فمنه مخرجها إلى الهند وإلى الشرق الأقصى، وأفريقيا، وهو مصدر لكثير من ثرواتها، ومستودع لإمداد الطاقة لها.

لذلك كان صراع الولايات المتحدة مع أوروبا عليه، خاصة بريطانيا وفرنسا مبكراً ومريراً ودرامياً، فكثرت فيه الانقلابات والانقلابات المضادة، والحروب الدموية. ومع أن أميركا تمكنت من الهيمنة على هذا المسرح دولياً واستراتيجياً، وصار لها نفوذ وهيمنة على كثير من دوله كمصر والسعودية، وسورية، وكذلك لبنان، وان كان لفرنسا نفوذ فيه، والسودان وتركيا وإيران وباكستان، وأخيراً فرضت هيمنتها على منطقة الخليج، رغم بقاء دوله على ولائها للإنجليز. فإن بريطانيا مع ذلك لا زال لها نفوذ في مواقع عديدة فيه، وان كان بنسب متفاوتة، كالأردن والعراق واليمن ودول الخليج رغم فرض الهيمنة الأميركية على منطقته، ودول الشمال الأفريقي، وان كان لفرنسا نفوذ كبير فيها، وتصارعهم أميركا لفرض هيمنتها عليها، وإذا كان صوت بريطانيا قد خبا بفعل ضعفها وتراجعها أمام الولايات المتحدة فإنه من الممكن أن تعود إلى الظهور بعد أن أخذت تتقوى بأوروبا، خاصة بعد أن بدأت أوروبا بالسير في طريق وحدتها الاقتصادية والنقدية، وفي مزاحمتها لأميركا لإنهاء تفردها، ولتشاركها في الموقف الدولي.

وإذا ذكر الشرق الأوسط ذكر الإسلام باعتباره الفكرة المحركة فيه. وقد أخذ الإسلام يبرز كقوة وكمبدأ سياسي فاعل بعد أن كان كامناً، وزاد من قوة تأثيره حملهُ حملاً سياسياً لإعادته إلى مركز الحكم والسيادة، وموضع التطبيق والتنفيذ من أحزاب وتكتلات سياسية، وزاد من قوة تأثيره تراجع المدّ الوطني والقومي والعلماني، واختفاء أو تضاؤل رموزه. وإذا كانت الدول الغربية الرأسمالية تتصارع على الشرق الأوسط فإنها تجمع على أن الإسلام قد عاد إلى واجهة الأحداث، وكمبدأ فاعل على المسرح الدولي. ومع إجماع تلك الدول على محاربة ظهور الإسلام في حركات سياسية فاعلة، أو في شكل دولة فإن الولايات المتحدة من منطلقها الذرائعي يمكن أن تستعين بحركات إسلامية، أو تستخدمها، وهي إن استطاعت فعل ذلك فإنها تعمل على حرف تلك الحركات عن مسار الإسلام الصحيح لتحارب الإسلام بهذا التحريف والاستخدام.

وتعمل الولايات المتحدة على الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط ـ فضلاً عن تركز قوات لها فيه ـ من خلال عملاءها من الدول فيه مثل مصر والسعودية وتركيا، ومن خلال تسخير المنظمات الإقليمية كمنظمة المؤتمر الإسلامي.

وفي منطقة الشرق الأوسط أزمتان قابلتان للاشتعال بالرغم من خمود النار فيهما، وهما : أزمة القضية الفلسطينية، وأزمة الخليج .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *