صراع الحضارات في القرن العشرين
1994/12/31م
المقالات
2,894 زيارة
بقلم: أبو عمر – بخارست
تميز هذا القرن، والذي قدّر لنا أن نشهد أواخره، بأنه شهد ثلاثة أنماط رئيسية للعيش اتخذتها دول شملت أغلب المعمورة.
أولها: النمط الإسلامي والذي شملت دولته ثلاثة أرباع العالم القديم، واستمر متحكماً في الحالم منذ القرن السابع وحتى نهاية القرن الثامن عشر الميلاديين، ثم أخذ بالانحسار منذ بداية القرن التاسع عشر حتى سقطت دولته (الخلافة الإسلامية) سنة 1924م.
والثاني: النمط الرأسمالي والذي تركز في أوروبا وأميركا، حيث أخذ تأثيره بالاتساع والتحكم بعد بزوغ الثورة الفرنسية، وما زال قائماً، بل وأصبح متفرداً في تحكمه في العالم منذ بداية العقد الأخير من هذا القرن.
والثالث: النمط الاشتراكي والذي خرج من طي الكتب إلى أرض الواقع مع نشوب الثورة البلشفية والتي حصلت سنة 1917 من هذا القرن في روسيا وامتد إلى الصين وبعض دول شرقي آسيا بالإضافة إلى دول أوروبا الشرقية وتركز فيها؛ ثم تراجع وانهار بانهيار دولته الأمّ وانفراط عقد المنظومة الاشتراكية في السنوات القليلة الماضية.
نظراً لضخامة الرقعة التي امتدت إليها هذه الأنماط الرئيسية الثلاثة بالإضافة لطول الفترة الزمنية التي عمرها اثنان منهما، فلا بدّ إذن من تسليط الأضواء على ماهية هذه الأنماط التي غطّت الجانب الحضاري من هذا القرن للكشف عن حقيقتها من ناحية فكرية ومن زوايا ثلاث:
الزاوية الأولى: الأساس الذي قام عليه كل نمط منها.
الزاوية الثانية: كيف صوّر هذا النمط الحياة؟.
الزاوية الثالثة: كيف كان مفهومه للسعادة في هذه الحياة؟
وحتى يتكامل هذا البحث من ناحية فكرية – وهي سياقه – فلا بد من اختصار الناحية التاريخية، ما أمكن، مستعيضين عنها باستقراء نشأة هذه الأنماط وتحولها من حالة التنظير إلى الطابع العملي بتجسدها في دولة أو دول، خاصة وأن هذه الأنماط المشارة إليها تميّزت جميعها بأساس عقائدي لكل منها كان هو السبب الرئيسي في نشوء الصراع بينها.
وقبل الخوض في كل ما سبق وما يليه من باقي عناصر الموضوع، أرى أنه لا بدّ من الحديث المختصر الذي يحدد بعض المصطلحات الرئيسية والتي بدون تحديد واقعها سيفقد الموضوع كثيراً من أهميته؛ فالبلورة والوضوح هامان في أي بحث لتكتمل الفائدة منه.
وهذه المصطلحات هي مصطلح (نمط العيش)؛ (الحضارة)؛ (المدنية).
أما مصطلح (نمط العيش) في مجتمع من المجتمعات، فالمقصود منه هو منظومات السلوك (السلوكيات) التي ينتجها ذلك المجتمع في معالجة مشاكله الفكرية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية (الاجتماعية).
والحقيقة الثانية هي أن الإنسان يحدد سلوكه في الحياة حسب مفاهيمه عنها. وما دام السلوك مرتبطاً بالمفاهيم فمنظومات السلوك في مجتمع معيّن تكون ناتجة عن المفاهيم الموجودة عند ذلك المجتمع.
إذن فمنظومات السلوك (السلوكيات) لدى مجتمع يملك إرادته والسلطة لتنفيذ تلك الإرادة هي قطعاً ناتجة عن مفاهيم ذلك المجتمع. ومجموع مفاهيم ذلك المجتمع عن الحياة هي بالضبط ما نطلق عليه مصطلح (الحضارة).
ولئن كانت الحضارة هي مجموعة المفاهيم عن الحياة وينتج عنها أنماط السلوك في مجتمع ما، فإن (المدنية) هي الأشكال المادية الصناعية للأشياء المحسوسة في الحياة.
فالعلوم المتعلقة بدراسة خواص المواد وتشكيلها: كالكيمياء والفيزياء والهندسة والعلوم الملحقة بها كالرياضيات ينتج عنها صناعات يدوية وميكانيكية وإلكترونية، وتقدم في وسائل الاتصال والقتال والرفاهية وفي الطب والفلك. كل ذلك هو من المدنية أي الأشكال المادية المحسوسة المصنوعة للحياة.
العلوم المذكورة آنفاً والصناعات بطبيعتها عالمية لا تختص بحضارة من الحضارات، فلا نستطيع أن نقول إن هناك خواص للحديد الرأسمالي أو رياضيات اشتراكية أو فيزياء إسلامية، أو نقاط الارتكاز في الهندسة عند الرأسماليين تختلف عنها عند المسلمين أو الاشتراكيين.
وهذا الشق من العلم والمدنية هو شق عام، وهناك شق خاص ناتج عن وجود أشكال مادية ولكنها متأثرة بمفاهيم حضارة من الحضارات؛ فشكل لباس المرأة المسلمة متأثر بمفاهيم الإسلام الذي حدد لباس المرأة مثلاً بخلاف شكل لباس غير المسلمين، ولو كان كلا اللباسين من نسيج مادة واحدة وإنتاج مصنع واحد. وطبيعة بناء البيت عند المسلمين [من حيث تنظيمه الداخلي مثلاً] يختلف عن مثيله عند غيرهم لمراعاته فصل الرجال عن النساء. ولعدم كشف العورات ببناء سور حوله مثلاً [من حيث التنظيم الخارجي].
إذن (فالحضارة غير المدنية) وأنماط السلوك البشري النابعة من مفاهيم الحياة غير البحث في ذات المادة وتشكيلها. حين جاءت الرسالة الإسلامية وأحدثت في العالم ثورة فكرية دخلت شعوب كثيرة في الإسلام، شكلوا الأمة الإسلامية حصل لديهم تقدم مادي عظيم في مختلف مناحي الحياة.
إن الثورة الفرنسية بعدما اندلعت؛ حصلت في أوروبا الثورة الصناعية، بسبب تبني شعوب أوروبا لأفكار تلك الثورة. وحين حصلت الثورة البلشفية تبعها تقدم مادي مثير. وإن المجتمعات التي لم تحصل لديها ثورات فكرية بقيت متخلفة من ناحية التقدم المادية وظلت تابعة للغير ومقلدة له.
وإذا أردنا أن نحلل ما سبق بتبعية التقدم المادي (المدنية) للثورة الفكرية التي تنتج نمطاً معينا من العيش نابعاً عن مفاهيم عن الحياة استقرت لدى أمة معينة (الحضارة) فلا بد أن نتعرض لكيفية نشأة الحضارات حتى تتضح الصورة وتكتمل عناصر التحليل من خلالها.
نشأة الحضارات:
إن أي مجتمع تفشّت فيه أفكار معينة عن الحياة، تحدد له نمط عيش يقبله، وصَدّق ذلك المجتمع هذه الأفكار تكون حينئذٍ الإرادة الصادقة قد تحققت في ذلك المجتمع لتحديد نمط عيشه؛ ولم يبق إلا أن تنسأ فيه سلطة تطبق عليه ما أراده، فإن حصل ذلك يكون المجتمع قد امتلك طريقة للعيش نتجت عن مفاهيمه عن الحياة.
وإن الأمة أية أمة إذا امتلكت مفاهيم عن الحياة، وأصبحت تفكر على أساسها، وتعيش بحسبها، فإنه سرعان ما تنفر من محاكاته الغير وتقليد نمط عيشه؛ ومن الطبيعي أن يولّد ذلك الشعور لديها الثقة بالنفس؛ وبالتالي الشعور بالمسؤولية ليس تجاه نفسها فحسب بل تتعداه إلى الشعور بالمسؤولية عن الغير لتصورها أن الآخرين بحاجة إلى أن يعيشوا كما تعيش لتتحقق لهم السعادة كما تفهمها.
إن شعور الأمة بثقتها يُحقق لها طبيعياً الاستقرار، ويدفعها بالتالي للمحافظة عليه؛ ولا يكون ذلك إلا إذا امتلكت قرارها بيدها وحافظت على ملكيتها لهذا القرار.
وإذا أرادت أمة المحافظة على استقرارها، والدفاع عن طريقة عيشها؛ وأرادت أن تعطي أنموذجاً تعتز به أمام الأمم الأخرى؛ وكانت عقائدية وشعرت بالمسؤولية عن غيرها كان امتلاك قرارها بيدها أمراً حتمياً ولازماً لها لزوم عيشها.
لذا فإن كل ما يساعد تلك الأمة على امتلاك قرارها والمحافظة عليه يصبح ضرورياً أن توفره بأفضل صورة فهي تحاول إذن أن تمتلك كل ما يلزمها من وسائل مادية لازمة للحياة دون الحاجة لتحكم الآخرين بها، فينشأ لديها تعطش لتوفير ما يلزمها في كافة مجالات الحياة؛ وبناء عليه تتفجر الطاقات الفردية وتعمل بحماسة، ليس بدافع الربح فقط، ولكن بدافع فكري كذلك أشعرها بأنها تتحمل جزءاً من المسؤولية من أجل الحفاظ على طريقة العيش؛ وإعطاء أفضل أنموذج عنها أمام الآخرين؛ وبالتالي الحفاظ على امتلاك قرارها بيدها.
إذن فحصول الثورة الفكرية وامتلاك مفاهيم الحياة لدى أمة من الأمم، أي وجود (حضارة) لها، يدفعها طبيعياً نحو (المدنية) أي التقدم المادي وبتسارع، وإذا ما حصل أن فقدت الأمة ثروتها المادية وبقيت محتفظة بثروتها الفكرية فإنها سرعان ما تستعيدها؛ ولكن إذا فقدت ثروتها الفكرية أي (حضارتها) فإنها تغدو متخبطة لا تعرف كيف تتصرفن فتفقد ثروتها المادية. ومن هنا يتضح بعد التحليل العلاقة السببية بين الحضارة والمدنية وهي العلاقة الرئيسية بينهما.
وإدراكنا للفرق بين الحضارة والمدنية يلزم أن يلاحظ دائماً كما يلزم أن يلاحظ التفريق بين الأشكال المادية الناجمة عن الحضارة، وبين الأشكال المادية الناجمة عن العلم والصناعة.
فالمدنية الناجمة عن العلم والصناعة لا يوجد ما يمنع من أخذها عن الغير. وذلك لأنها عالمية لا تختص بحضارة من الحضارات، أما الحضارات الأخرى والأشكال المادية المتأثرة بها فيه خاصة ويمنع من أخذها إلا إذا أرادت الأمة تغيير نمط عيشها لرؤيتها لنمط عيش آخر أفضل منه.
أما (الصراع) فإنه ينشأ عادة بين ضدين أو مختلفين،ومدلول الصراع بين الحضارات لا يستلزم الصراع المادية العسكري إبتداءاً، بل هو صراع فكري هو الأساس للصراع السياسي الذي قد يتبعه صراع مادية عسكري عند اللزوم؛ فمادة الصراع بين الحضارات هي الفكر وذلك لأنه الأساس الذي تقوم عليه الحضارة.
والآن وبعد أن استعرضنا ماهية مدلول مصطلح الحضارة، وبعد أن تصورنا كيفية نشأتها باختصار، ووضح أمامنا أن مادة الصراع بين الحضارات هي الفكر وهي سلاحها؛ فلا بد إذن من استعراض مفاهيم كل حضارة من حضارات القرن العشرين ومن الزوايا الثلاث التي أوردناها في مقدمة البحث، وذلك للتعرف على نقاط الالتقاء إن كان هناك ثمة التقاء بينها، وكذلك نقاط الاختلاف والتي على ضوئها يمكن لنا أن نتبين خلفيات الصراع وحيثياته.
أما (الحضارة الإسلامية) (فأساسها) العقيدة الإسلامية التي اعتبرت أن هذا الوجود لم يأت من ذاته، بل إن له خالقاً خلقه وهو الله الواحد الأحد، وأن هناك حساباً ينتظر الإنسان على أعماله في الحياة، وأن الله لم يترك الإنسان يسير في هذه الحياة دون هداية، بل أرشده إلى أفضل الطريق ليسير في عقيدته وسلوكه السير الصحيح. ووجهه إلى التفكير لتكون عقيدته مبنية على العقل وموافقة للفطرة. وحتم وجود دليل عقلي أو دليل نقلي ثبت أصله بالعقل لكافة المفاهيم سواء أكانت آراء أو أفكار أو أحكام.
أما (تصوير الحضارة الإسلامية للحياة) فقد جعلت أعمال الإنسان مسيّرة بأوامر الله ونواهيه، وبالتالي بالتشريع الذي تقوم الدولة على تنفيذه، ويقوم الإنسان بتنفيذه إجابة لأمر الله، أي الالتزام بالحلال والحرام الذي هو مقياس الأعمال.
أما (معنى السعادة في الحضارة الإسلامية) فالسعادة تعني شعور الإنسان بالطمأنينة الدائمة، ويتلخص مدلولها في الحضارة الإسلامية بالعمل على نوال رضوان الله تعالى.
أما (الحضارة الرأسمالية) (فأساسها) عقيدة فصل الدين عن الحياة وبالتالي عن الدولة، وهي عقيدة مبنية على حل وسط (ترضية) بين رجال الدين [الذين كانوا بالفعل مطايا لأمراء الإقطاع ومن بعدهم ملوك أوروبا وقياصرة روسيا حيث كانوا يسوّغون لهم ظلم الناس في أوروبا ويطفئون عند شعوب أوروبا جذوة التمرد على الحكام وظلمهم والثورة عليهم بحجة ضرورة إنكار الذات، وإعطاء الاهتمام للآخرة دون الدنيا. وقد تعاظمت سلطة أولئك البابوات لاستغلالهم تدين الأوروبيين ونظرتهم للكنيسة على أنها مثال للطهر والصفاء حتى قال البابا آنست الثالث (1198 – 1216) عن موقع البابا بأنه (دون الرب، وفوق البشر، وهو يحكم الجميع ولا أحد يحكمه). وبين المفكرين الذين طالب جزء منهم بإقصاء الدين نهائياً ثم كان الحل بحصر الدين في الكنيسة وإقصائه عن التحكم في الحياة.
فعقيدة فصل الدين عن الحياة هي الأساس الذي ارتكزت عليه الحضارة الرأسمالية واختارت بناء عليه مفاهيمها من إطلاق الحريات الأربع. (التملك، الرأي، الشخصية، العقيدة) إلى النظرية الديمقراطية كأساس لنظام الحكم.
أما (تصوير الحضارة الرأسمالية للحياة) فقد صورت الحياة بأنها قائمة على (المنفعة) المادية فقط، ولا تقيم هذه الحضارة لغير المنفعة أي وزن، أما الناحية الروحية فهي فردية لا شأن للجماعة بها؛ وهي محصورة في الكنيسة؛ لذلك لا توجد في الحضارة الغربية قيم أخلاقية أو روحية أو إنسانية، ولهذا جعلت الأعمال الإنسانية تابعة لمنظمات منفصلة عن الدولة كمؤسسة الصليب الأحمر، وأطباء بلا خدود وغيرها، وعزلت عن الحياة كل قيمة إلا القيمة المادية وهي الربح؛ ولذلك كانت المنفعة والمنفعة فقط هي مقياس الأعمال في الحضارة الغربية.
أما مفهوم (الحضارة الغربية للسعادة) فهو إعطاء الإنسان أكبر قسط من المتع الجسدية والمادية الصرفة وتوفير أسبابها له.
أما (أساس الحضارة الاشتراكية) فهو عقائدي كذلك؛ يرى أن الكون والإنسان والحياة مادة لا يوجد قبلها ولا بعدها شيء مطلقاً وعبّر عنها بالمادية الديالكتيكية والتي بنى عليها بدورها نظرته إلى الإنسان وحياته في الكون مفسراً سير هذه الحياة مع الطبيعة فيما أسماه (المادية التاريخية)… حيث صوّر في هذه الأخيرة المرحلة اللاحقة لحياة الإنسان والتي قال إنها حتمية الوقوع مدعياً أن نظريته قائمة على العلم وقوانينه.
أما (تصوير الحضارة الاشتراكية للحياة) فإنها اتبعتها للتطور المادي – وركزت على الجانب الاقتصادي بشكل شبه مطلق واضعة الوصول إلى حالة المشاع هدفاً لها؛ لذلك صاغت أنظمة الحياة في المجتمع بشكل تصورت معه مواكبة سنة التطور للوصول إلى الهدف المنشود حيث الجنة الموعودة على الأرض.
أما (نظرتها إلى السعادة) فهي متفقة مع نظرة الحياة الغربية في أنها نوال اكبر قسط من المتع الجسدية والمادية والتي سوف تصل بها في نهاية المطاف إلى تلك الجنة الموعودة حيث يتمتع بالسعادة كافة أفراد المجتمع دون استثناء.
حيثيات الصراع ودواعيه:
الذي يلاحظ مما سبق استعرضه حول طبيعة الحضارات الثلاث موضع البحث أنها قد التقت في ميزتين هما:
أولاً: إنها (أي الحضارات الثلاث) قد بُنيت على أسس عقائدية ثم التوصل إليها عن طريق العقل (وليس هنا مجال الحديث عن صوابية بحثها ونتيجته).
ثانياً: إن الحضارات الثلاث قد صاغت تصوراتها بقالب عالمي إبتداءاً بعيد عن النظرة العرقية أو الإقليمية الضيقتين.
ومن هنا استطاعت الحضارات الثلاث أن تُسهِّل طريق الانتماء إليها، وكانت النتيجة انتشارها الكبير فوق بقاع واسعة من المعمورة.
والحقيقة أن الميزتين الآنفتين الذكر واللتين اتفقت والتقت بهما الحضارات الثلاث موضع البحث كانتا من زاوية أخرى الحافز الحاد لإثارة الصراع بينهما.
فالتشابه في الطبيعة العقائدية قابلة التباين بل والتناقض التام في المضمون العقائدي وبشكل قاطع، لذلك كانت الطريق مسدودة تماماً من أجل الوصول إلى قواسم مشتركة للحيلولة دون بدء الصراع أن تخفيف حدته.
فالقناعة بعقيدة ما تعطى صاحبها المبرر ابتداءَ لتسفيه عقائد الآخرين ومهاجمتها، وذلك لآن مدلول العقيدة هو تغيير نظرة الإنسان للوجود والحياة؛ وهو أهم إجابة لأكبر تساؤل يواجه الإنسان في حياته، وهو فيما بعد يُشكل قاعدة تفكيره (مرجعيته) وقيادته (أيدلوجيته) فيها، ولأن هذا المدلول أصل مفاهيمه عن الحياة وأساسها؛ فهو ابتداءً لا يسمح بمهاجمته إذا كان مقتنعاً به وفي نفس الوقت لا يطيق أن يبقيه حبيس نفسه.
وعقائد الحضارات الثلاث انبثقت عن كل واحدة منها مفاهيم حددت تصرفات معتنقيها وتصوراتهم للحياة. وما ينبني على الأساس ينطبق على التصرفات وتصور الحياة، فالعقائدي يرى نمط عيشه هو الأصوب، والأحرى أن يعتنقه الآخرون.
وإذا ما أصبح عند صاحب العقيدة أن نظرته إلى الوجود من حيث تفسيره هي الأصوب، وأن تصوره للحياة وطريقة العيش فيها هي الأفضل فإن نظرته إلى توفير السعادة وأسبابها تكون قد تكاملت، ودعته إذا ما ناله حسب تصوره إلى دعوة الآخرين أو إرشادهم لطريق نوالها.
ولأن مفاهيم الحضارات الثلاث موضع البحث عالمية الصياغة كما أتسلفنا فإن الاندفاع لتعميمها ونشرها وبسط هيمنتها لإنقاذ سكان المعمورة يكون طبيعياً بل ويراه العقائديون واجباً لا يجوز التنصل منه.
إذن فإن الشعور بالمسؤولية عن الغير بل وعن العالم أجمع جاء بطريق طبيعي عند المجتمعات التي نشأت فيها الحضارات الثلاث ابتداءً، وما دامت تلك المفاهيم تنبض بالحياة ولم تدخل عليها عوامل التغشية أو التأويل والتحريف، أو الاصطلاء بناء فسادها إذا بان عوارها، إذا استثنينا ذلك كله فلا بد أن تبقى متحركة وتحرك أصحابها لمدّ أيديهم لإنقاذ من لم يصله دفؤها وضوؤها. وحتى لو أدى إلى جعل الآخرين يتحملون جزءاً من التضحية قسراً، كالمريض يتحمل ألم الجراحة أو تجرع المر ليصل إلى الشفاء.
وفوق ذلك فإن مفاهيم كل من الحضارات الثلاث تضغط على معتنقيها وتدفعهم بشكل واضح وصريح للعمل على نشرها وتعميمها، فقد بيّنت مفاهيم تكل الحضارات، بشكل لا يحتمل اللبس طريقة نشرها، بل واعتبرت عدم الاندفاع لنشرها بالطريقة التي تحددها تقصيراً وخلاف الواجب.
فالحضارة الإسلامية حددت طريقة نشر الإسلام بالدعوة له وبالجهاد من قِبَل الدولة، ومفهوم الجهاد في الإسلام هو «كسر الحواجز المادية التي تحول دون نشر الإسلام».
والحضارة الرأسمالية قالت (بحرب الإلحاق) واتخذت الاستعمار طريقة لنشر مفاهيمها الذي هو في ظاهره الرحمة (من العمران) وباطنه من قِبلِه العذاب ونهب خيرات الشعوب بعد أن طغى عليها طابع النفعية وانتشرت الأنانية عند الشعوب التي ادّعت حملها لمشاعل الحرية للعالم.
والحضارة الاشتراكية نادت بإذكاء التناقضات بين العمال والفلاحين من جانب، وأصحاب العمل من الجانب الآخر في المجتمعات التي لم تكن انضمت بعد للمنظومة الاشتراكية.
ومن نافلة القول أن تسعى الأمة الحية حاضنة الحضارة لأخذ زمام قرارها بيدها لذا فلا بد لها أن تصارع من أجل امتلاك هذا القرار.
لذلك كله فإن مقتضيات الصراع ودواعيه لا تحتاج إلى مزيد بيان؛ وما دامت مادة الصراع بين الحضارات قد وضحت وصعيدها الفكر، فإن الأرضية الصالحة للفكر السياسي بين الدول التي حملت ألوية حضارية قد بدت خصبة، بل جاهزة لتقبل ما قد يقتضيه ذلك الكفاح السياسي من إضافة الأعمال المادية العسكرية.
(يتبع)
1994-12-31