العدد 96 - 97 -

السنة الثامنة – ذو القعدة وذو الحجة 1415هـ -نيسان وأيار 1995م

لا إله إلا الله تعني أنه لا معبود إلا الله

بقلم: الدكتور توفيق مصطفى

إن الشهادة الأولى في الاسلام وهي المدخل للاسلام المراد منها ليس شهادة بوحدانية الخالق فحسب كما يتوهم الكثيرون وإنما المراد منها هو أن يشهد الإنسان أنه لا معبود إلا الله الواجب الوجود، حتى يفرد وحده بالعبادة والتقديس، وينفي نفياً قاطعاً العبادة عن أي شيء غير الله. و”إله” في اللغة ليس لها معنى واحد هو المعبود، وليس لها أي معنى شرعي غير ذلك، فـ “لا إله” معناها في اللغة والشرع “لا معبود”، و “إلا الله” معناها في اللغة وفي الشرع الذات الواجبة الوجود وهو الله تعالى.

ولذلك كان الاعتراف بوجود الله غير كاف في الوحدانية بل لا بد من وحدانية الخالق ووحدانية المعبود، لأن معنى لا إله إلا الله الذي ذكرنا هو لا معبود إلا الله. ولذلك كانت شهادة المسلم بأنه لا إله إلا الله ملزمة له قطعاً بالعبادة لله، وملزمة له بإفراد العبادة بالله وحده، فالتوحيد هو توحيد التقديس بالخالق أي توحيد العبادة بالله الواحد الأحد.

وهذا الموضوع هو جد خطير لأنه متعلق بأصل الدين وليس بأمر جزئي من فروع الشريعة كالنص على أمر واجب أو مندوب، أو الزجر عن فعل محرم أو مكروه.

ومعنى العبادة هو الطاعة الكاملة من قبل العبد للسيد في كل أمر من الأمور، فإن العبد لا رأي له بوجد السيد. والاسلام معناه الاستسلام لله جل وعلا والإذعان له تصديقاً بخبره وانقياداً لأمره. والإيمان الذي يثب فيه تحقق الاسلام هو تصديق الخبر والانقياد للأمر، والكفر الذي يوجب الخلود في النار هو التكذيب أو الإباء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم بإسناده عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد رسولاً»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال رضيت بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد نبياً وجبت له الجنة» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال.

ومعنى الرضى بالله رباً لا يتحقق بمجرد الإقرار بوجود الرب جل وعلا، أو الإقرار له بصفات الخلق والرزق والتدبير الكوني، فلقد أقر بهذه المعاني الكفار والمشركون قبل الاسلام، ويقر ذلك أصحاب الديانات الأخر، ولكن هذا الإقرار لا ينفعهم في النجاة من الكفر والشرك.

قال تعالى: (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ  *بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) وقال تعالى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) وقال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أقرار الكفار بالربوبية.

إن حقيقة الرضا بالله رباً تتمثل في الإقرار بالأمر بقسميه الكوني والشرعي لله عز وجل، وأن يقر له بالتفرد في كليهما فيرضى بشرع الله كما يرضى بقدره، ويسكن إلى تدبير الشرعي كما يسكن إلى تدبيره الكوني.

ذلك أن الخلق والأمر من أخص خصائص الربوبية وأجمع صفاتها. قال تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) وقال تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى).

ومنذ خلق البشر لم يعرف أن أحداً نازع الله في جانب الخلق أي الأمر الكوني، فقد أقر الكفار لله عز وجل بخلق الكون، أي أقروا بالأمر الكوني، ولكن المنازعة حصلت ولا تزال حاصلة في جابن الأمر الشرعي، فوجد من قال: سأنزل مثل ما أنزل الله، ومنهم من قال: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، ومنهم من قال: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، ومنهم من قال بأن القوانين الوضعية خير من الشريعة الاسلامية لأن الأولى تمثل الحضارة والمدنية والثانية تمثل البداوة والرجعية.

ولا يتحقق معنى لا إله إلا الله، أي توحيد الربوبية إلا فإفراد الله جل وعلا بالخلق والأمر بقسيمه الكوني والشرعي. وإفراد له وحده بالسيادة العليا والتشريع المطلقين، فلا حلال إلا ما أحل الله ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، ومن سوغ للناس اتباع شريعة غير شريعته فهو كافر مشرك. قال تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً). وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ) قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلو لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم».

إذاً فتحقيق الرضا بالربوبية لا يتمثل في إفراد الله سبحانه وتعالى بالخلق والتدبير الكوني فحسب، تمتد لتشمل إفراده تعالى بالأمر والقضاء الشرع، وقبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدي والشرائع.

إن المنازعة في الأمر الشرعي كالمنازعة في الأمر الكوني، ولا فرق لأن الذي أوجب الرضا بقدره هو الذي أوجب التحاكم إلى شرعه وهو القائل: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ)، وهو القائل: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ).

إن الرضى بالربوبية يعني الرضى بالحاكمية لله تعالى والتسليم المطلق بما بعث به رسوله بالهدى والشرائع، وإن الإخلال بذلك قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً هو منازعة في الربوبية. قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالاسلام تضمن الاستسلام له وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستلم له كان مستكبراً عن عبادته كافر. والاستسلام له وحده تضمن عبادته وحده، وهذا دين الإسلام الذي يقبل الله غيره إنما يكون بأن يطاع في كل وقت وكل مكان في كل ما أنزل.

فهل أدرك المسلمون حقيقة هذا الرضا، والحد الأدني الذي يتحقق إلا به؟ إن الاجابة على هذا السؤال تتوقف على معرفة حقيقة الدين لأن كثيراً من الناس في هذا العصر يخطئ فهم حقيقة الدني الذي أنزله الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويظنونه لا يتجاوز ما يقام من شعائر العبادات، وما يهتف به الوعاظ والخطباء من الدعوة إلى مكارم الأخلاق، أما ما وراء ذلك من شؤون الحياة فلا علاقة للدين به طبقاً لمقولة.. ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فالدين هو جملة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من عقائد وعبادات وشرائع، كل ذلك داخل في مسمى الدين، ومقصود بقوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) وقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً). ولا يخفى أن في القرآن الكريم والسنة النبوية أحكاماً كثيرة كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد، وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والوصايا والمواريث، وأحكام القضاء وقطع يد السارق وجلد الزاني وجزاء الساعين في الأرض فساداً، وأحكام المعاهدات والسياسة الحربية وأحكام الذمي والمستأمن والمعاهد، إلى غير ذلك من الأحكام.

وهذا يدلنا على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسية إنما يدعو إلى ترك الكثير من أحكام الشرع، ليأخذ من شرع غير شرع الله فيجعل لله أنداداً. والذي يفصل الدين عن السياسة إنما يدين ديناً آخر ويسميه زوراً وبهتاناً الإسلام. فالرضا بالاسلام ديناً هو ا لرضا والتسليم بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من العقائد الغيبية والشعائر التعبدية والأحكام الشرعية الأخرى، لا فرق بين ما يتعلق بعبادة من العبادات أو بحكم من أحكام القضاء والسياسة، ما دام قد صح الخبر به عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين قوله تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) وقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) إلى غير ذلك من الآيات. كل ذلك قرآن يتلى، وكل ذلك دين واجب الاتباع يقول ابن القيم رحمه الله: [وأما الرضى بدينه، فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضا، ولم يجد في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليماً، ولو كان مخالفاً مراد نفسه أو هواها].

إن الرضا بالله رباً يعني كما ذكرنا أن يكون وحده هو الحكم، وأن يكون هداه وحده هو الهدى، وأن تكون كلماته وحدها هي ا لحجة القاطعة والحكم الأعلى لا غير.

وإن الرضا بالاسلام ديناً يعني الرضا بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والالتزام المطلق بذلك.

إن الرضا بنبوة محمد هو المدخل إلى الإسلام، فإن الشهادة له بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة هي أول واجب على المكلف، وأول ما يخاطب به الناس عند الدعوة إلى الإسلام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أو ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله… ].

يقول ابن القيم رحمه الله: وأما الرضى بنبيه رسولاً فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدي إلا من مواضع كلماته ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم غيره عليه ولا يرضى بحكم غيره من البشر.

قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) قال ابن كثير رحمه الله: يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكام به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولذا قال: (ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)، أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن ويسلمون له تسليماً كلياً.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به». فالله سبحانه وتعالى أقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يرتفع الحرج عن نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً، وهذا حقيقة الرضا بحكمه.

ويقول الجصاص رحمه الله: وفي هذه الآية (فَلاَ وَرَبِّكَ…) دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة رضوان الله عليهم في حكمهم بارتداد من امتنع عن أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم، لأن الله عالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان.

أين هذا من ترك التحاكم إلى شريعته ابتداء، أو اتهامها بالبداوة والرجعية، أو الجمود وعدم الصلاحية للتطبيق. وهذا هو ما حصل في أيامنا هذه. يقول الله سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) يقول ابن كثير “أطيعو الله” أي اتبعوا كتابه، و”أطيعوا الرسول” أي خذوا سنته، “وأولي الأمر منكم” أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) أي إلى الكتاب والسنة، وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء يتنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: (إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ).

يقول جل من قائل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً). هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل على الرسول وعلى الأنبياء من قبل على نبينا وعليهم والصلاة والسلام، وهو مع ذلك يتحاكم إلى غير الكتاب والسنة. وهكذا فإن هذه الآية ذامة لمن عدل عن حكم الله ورسوله، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت، فالطاغوت هو كل حكم لم يأت في كتاب ولا سنة.

إن آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الدالة على وجوب التحاكم إلى الشرع كثيرة جداً، يقرأها المسلمون صباح مساء دون أن يدركوا واقعها. وكذلك فإن أصول الإسلام وهي الرضا بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً تقتضي إفراد الله جل وعلا بالحاكمية العليا والسيادة المطلقة. وأن تكون كلماته وحدها هي الحكم الأعلى والحجة القاطعة، كما تقتضي الإقرار المطلق بجميع ما صح أنه من الدين تصديقاً وانقياداً لا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات، وإن قصر الدين على جانب العقائد والعبادات فحسب باب من أبواب الردة.

إن الإيمان بالله عز وجل وطاعته وطاعة نبيه تقتضي أن تكون السيادة العليا للشرع لا غير، وإن الحق في التشريع المطلق لم يجعله الله لأحد دونه، وإن ما تدعو إليه العلمانية من تحكيم إرادة الأمة بدلاً من تحكيم الكتاب والسنة هو منازعة للرب في أخص خصائصه وأجمع صفاته وهو خروج عن الإسلام. ولذلك كانت الديمقراطية نظام كفر لأنها تجعل السيادة للناس، والإرادة للأمة مع أن الإسلام يجعل السيادة أي الحاكمية لله وحده، والارادة له وحده، فهو السيد المطلق ونحن عبيده، والعبد لا يملك إرادة، ولذلك يقول تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) فقد خص الحكم به سبحانه وتعالى.

ونقول في صلاتنا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي إياك نطيع، ولا يكون لذلك معنى إن نحن رددنا حكم الله سبحانه وتعالى ولو في مسألة واحدة وبذلك ينطبق علينا قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ) والطاغوت هو كل حكم غير حكم الله عز وجل وكل أمر غير أمره.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث متواتر: «كل شيء ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد اختلط الأمر على جهلة المسلمين فلم يفرقوا بين السيادة والسلطان إذ أن السيادة هي لله وحده، ولكن السلطان هو للأمة بمعنى أنها هي التي تختار حاكمها وتعطيه صلاحية رعاية شؤونها بأحكام الشرع، فالسلطان لا علاقة له بالتشريع وإنما هو معلق بالتطبيق، فالمسلمون جميعاً مكلفون بتطبيق أحكام الشرع.

ويقول تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ويقول تعالى: (وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً) أي الذي إذا حرم شيء فهو الحرام وما حلل فهو الحلال، فلا يتغير حكمه ولا يتبدل، وما شرعه اتبع وما حكم به نفذ. قال صلى الله عليه وسلم: «الحلال ما أحله الله والحرام ما حرّمه الله».

والذي عليه الحال الآن هو تحاكم إلى الطاغوت وهجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإثبات حكم غير حكمه وتعطيل لشريعة رب العالمين، بل بلغ الأمر ببعضهم الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع من قبل البشر على أحكام الله المنزلة بأن أحكام الشريعة إنما أنزلت لزمان غير زماننا.

إن الله سبحانه وتعالى أكمل هذا الدين فلا توجد مشكلة لانسان في أي مكان أو زمان إلى قيام إلا ولها حكم، أو محل حكم في الشريعة، ومن قال غير ذلك فقد رد على الله سبحانه وتعالى قوله وخالف القطعي لأن آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ…) هي آية في القرآن الكرين أي أن ثبوتها قطعي لا شك فيه. ولو لم تكن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان لاتقضت حكمة الله عزم وجل أن يبعث رسولاً بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، ولكنه سبحانه وتعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً للبشرية جمعاء وجعله خاتم النبيين، فقامت الحجة على الناس إلى يوم القيامة.

قال تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) وهذا يعني أن شريعته جاءت لجميع البشر إلى يوم القيامة. يقول تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) ويقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، ويقول صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي: …وكان كل رسول يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة».

ولذلك فإن الدعوة إلى الديمقراطية هي دعوة كفر، فالديمقراطية تجعل السيادة للشعب وتجعل الحاكمية للشعب وتجعل الارادة للشعب أي تجعل التشريع للشعب. والاسلام يجعل السيادة والحاكمية والارادة لله وحده (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ)، فكيف يجوز لمسلم بعد ذلك أن يقول بالديمقراطية وكيف يجوز للمسلم أن يكون عضواً في مجالس النواب في بلاد المسلمين ويشترك مع غيره في سن القوانين أي التشريع، والله سبحانه وتعالى نهانا أن نجعل له أندادا. وكيف يجوز لمن يدعي الإسلام والعمل للاسلام الاشتراك في وزارات الدول القائمة في العالم الاسلامي وينفذ أحكاماً ليست من كتاب الله ولا سنة رسوله.

إن الإسلام أوجب علينا التحاكم إلى شرعه ولذلك لا بد من العمل الجدي والجاد بالطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحويل بلاد المسلمين إلى دار إسلام حتى نتمكن من تطبيق شرع الله وحمل رسالة الإسلام رسالة الهدة والرحمة إلى الناس كافة. ولذلك يحرم على المسلمين أن يقبلوا بالواقع الموجود في بلاد المسلمين، ويحرم عليهم طاعة هؤلاء الحكام، فلا بد من العمل على إزالة الأنظمة القائمة في العالم الاسلامي وإزالة الحدود، وإعادة حكم الإسلام إلى الأرض حى تكون السيادة لله وحده ويكون الحكم لله وحده فنخلص أنفسنا من الظمل والطاغوت ومعصية الله عز وجل، ونخرج أمتنا مما هي فيه من هوان وضعف وانحطاط، لتعود كما كانت وكما يجب أن تكون عليه خير أمة أخرجت للناس، فالله سبحانه وتعالى يقول: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) ويقول عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). وشهادتنا على الناس لا تتأتى إلا بحمل الرسالة لهم، وحمل الرسالة لا يتأتى إلا بإقامة الخلافة لتطبق شرع الله.

إن الأمل بقرب التغيير أصبح موجوداً، وإن الأمة الإسلامية بدأت تصحو وتفيق من غفلتها، ولذلك نجد تكالب الكفار عليها لمنعها من الانعتاق والنهوض وتطبيق أحكام الشرع، ولكن (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).

من خطب رسول الله صلى الله عليه في الحج

أخرج ابن النجار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخَيف بمنى فقال: «نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فعمد بها يحدث بها أخاه. ثلاثة لا يُغِلُّ عليهن فلب مسلمَ: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط مِن ورائهم» كذا في الكنز [8/228].

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *