العدد 108 -

السنة العاشرة – المحرم 1417هـ – أيار 1996م

من الفكر الإسلامي: خواطر بين الحج والهجرة

من الفكر الإسلامي:

خواطر بين الحج

والهجرة

بقلم.م. عبد الرحمن

عرّف الله مكان البيت الحرام لإبراهيم عليه السلام وملّكه أمره ليقيمه على هذا الأساس (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) فهو بيت الله وحده دون سواه، أنشئ البيت لهؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ثم أمر الله إبراهيم عليه السلام بأن البيت إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به، أن يؤذن في الناس بالحج وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبي الناس دعوته فيتقاطرون على البيت من كل فج رجالاً ويسعون على  أقدامهم وركوباً قال تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).

وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم عليه السلام إلى اليوم والغد وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت الحرام، وترف إلى رؤيته والطواف به. ومئات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم عليه السلام منذ آلاف الأعوام تأتي إلى موسم عبادة تصفو فيه النفوس وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام وهي ترف حول هذا البيت وتتروح الذكريات التي تحوم عليه وترف كأطياف من قريب ومن بعيد. كيف كان إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يُودع البيت فلذة كبده إسماعيل وأمه، ويتوجه بقلبه الخافق الراجف إلى ربه: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.)

وكيف كانت هاجر وهي تستروي الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرة الملتهبة حول البيت وهي تهرول بين الصفا والمروة وقد نهكها العطش وهدها الجهد وأضناها الإشفاق على الطفل… ثم ترجع في الجولة السابعة وقد حطمها اليأس لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع وإذا هي زمزم ينبوع الرحمة في صحراء يابسة مجدية.

وكيف كان إبراهيم عليه السلام وهو يرى الرؤيا فلا يتردد في التضحية بفلذة كبده ويمضي في الطاعة المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ) فَتُجيبه الطاعة الراضية الصادقة في إسماعيل عليه السلام (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ )وإذا رحمه الله تتجلى في الفداء (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ثم كيف إبراهيم وإسماعيل عليها السلام يرفعان القواعد من البيت في إنابة وخشوع (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

وتتوالى الأطياف والذكريات حتى تأتي ذكرى أكرم خلق الله على الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدرج في طفولته وصباه فوق هذا الثرى حول هذا البيت. وهو يرفع الحجر الأسود بيديه الكريمتين فيضعه موضعه ليطفئ الفتنة التي كادت أن تنشب بين القبائل. وإن خطواته عليه الصلاة والسلام لتبقى حية في الخاطر وتتمثل شاخصة في الضمير نعم تتمثل حركة الإسلام الأولى في الدعوة والهجرة وفي الصبر على المحن والمعاناة التي عاشتها أول طائفة من المؤمنين، فيذوب الزمن وأنت تشعر وترى هنا كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم تلك الدار التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مركزاً للكتلة المؤمنة ومدرسة لهذه الدعوة الجديدة فقد كان يجمع فيها المسلمين يقرؤهم القرآن ويبينه لهم ويأمرهم باستظهاره وفهمه، وكلما أسلم شخص ضمه إلى دار الأرقم. ومكث ثلاث سنين وهو يثقف هؤلاء المسلمين ويصلي بهم ويتهجد بهم ليلاً فيتهجدون فيبعث فيهم الروحانية بالصلاة والتلاوة ويثير فيهم الفكر بالتأمل في آيات الله والتدبر في مخلوقاته، ويثقف عقولهم بمعاني القرآن وألفاظه، ومفاهيم الإسلام وأفكاره ويأخذهم بالصبر على الأذى ويروضهم على الطاعة والانقياد حتى خلصوا لله العلي القدير وكانوا خير القرون.

ويتجول الحاج في مكة فيرى دار الندوة حيث كانت تحاك المؤامرات والدسائس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللفئة المؤمنة. هنا كان يقف رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم يسفه أحلام قريش ويحقر آلهتهم ويندد بحياتهم الرخيصة، وينعى عليهم وسائل عيشهم الظالمة، ينزل عليه القرآن فيهاجم ويقول بصراحة (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)، ثم يهاجم الربا الذي يعيشون عليه مهاجمة عنيفة قال تعالى (وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُواْ عِنْدَ اللَّهِ) ويتوعد الذين يطففون الكيل والميزان قال تعالى ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).

نعم أمام دار الندوة يقف أُبَيْ بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. بعظمٍ بالٍ فقال يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعدما أَرَمَّ ثم فته في يده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: نعم أنا أقول ذلك يبعثه الله وإياك بعدما تكونان هكذا ثم يُدخلك الله النار. وجاء القرآن مصدقاً ومؤيداً رسوله فأنزل الله تعالى (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) فكهذا كان يدعو للإسلام بكل صراحة لا يُكَني، ولا يلوح ولا يلين ولا يستكين ولا يحابي يداهن رغم ما لاقاه من قريش من صنوف الأذى ورغم ما يصيبه ويصيب أصحابه من مشقات.

وقريباً من دار الندوة تقفز إلى الذاكرة صورة آل ياسر ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَمُرُّ بهم وهم يُعذَّبون فقال لهم: “صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة. إني لا أملك لكم من الله شيئاً” فما كان من سمية زوجة ياسر رضي الله عنها إلا أن قالت حين قال لها إن موعدكما الجنة: “إني أراها ظاهرة يا رسول الله”. هكذا كان الإيمان واليقين، وهكذا يجب أن يكون حملة الدعوة الإسلامية اليوم متسمين بالصراحة والوضوح والجرأة والقوة وتحدي كل من يخالف الإسلام فيجب أن يُقتدى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواقفه الرائعة وتحديه العظيم متذكرين دعاء المصطفى صلوات الله عليه وسلامه حين عودته من الطائف حينما خرج باحثاً عن النصرة له ولدين الله فهو يقول: “اللهم إليك أشكوا ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سُخْطَك. لك العُتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك” نعم إن الأمر لله فقط، وما يجب أن يحرص عليه حامل الدعوة هو رضوان الله.

وحين ينتقل الحاج من مكة المكرمة على ربوع طِيبَة سيدة المدن وموطن الخير فإنه بطريقه يتذكر الهجرة وأحداثها العظيمة التي غيرت وجه التاريخ وكانت الخطوة الحاسمة نحو إعلان دولة الإسلام، فتلك الهجرة لم تكن فراراً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال العباس رضي الله عنه مخاطباً أصحاب بيعة العقبة الثانية “يا معشر الخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده وإنه أبى إلا الانحياز إليكم…”. فإذاً المنعة والعصمة كانت متوفرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا خوفاً من القتل فإن الله قد عصمه من الناس قال تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ولذلك لم تكن الهجرة إلا رحيلاً لاستلام زمام الحكم والسلطان في المدينة المنورة لإقامة أول دولة للإسلام. تلك الدولة التي أتاحت للمسلمين لأول مرة في حياتهم أن يعيشوا طريقة الحياة الإسلامية التي تتميز بأمور ثلاثة:

أحدهما: أن الأساس الذي بنيت عليه هو العقيدة الإسلامية.

ثانيهما: أن مقياس الأعمال في الحياة هو أوامر الله ونواهيه، وبعبارة أخرى هو أن تصوير الحياة في نظرها هو الحلال والحرام.

وثالثهما: أن معنى السعادة في نظرها هو نوال رضوان الله وبعبارة أخرى هو الطمأنينة الدائمة، وهي لا تحصل إلا بنوال رضوان الله. وهذه هي الحياة التي يأنس فيها المسلمون ويسعون إليها ويسيرون في منهجها.

ويتذكر المسلم في المدينة بطولات المسلمين ومواقف العزة مواقف الجهاد والبذل والعطاء, فيتذكر المسلمون في الحج لك الكلمات المضيئة التي صنعت أول انتصارات الإسلام وثبتت الدولة الإسلامية الأولى ومَدتْها بالثقة واليقين بنصر الله وعونه، فكأن الحاج هو على مشارف المدينة يستمع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخاطب لمسلمين “أشيروا علي أيها الناس”.

فيتقدم المقداد بن عمرو فيقول:

“يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى “اذهب أنت وربك فقاتلا أنا ها هنا قاعدون” بل نقول لك “اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة بالحبشة) لسرنا معك حتى تبلغه ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك حتى يفتح الله لك”

ويقول سعد بن معاذ سيد الأوس:

“يا رسول لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثقنا على السمع والطاعة ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها ألا ينصروك إلا في ديارهم وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فأظعن (ارحل) حيث شئت وصِلْ حبل من شئت واقطع حبل من شئت، وسالم من شئت, وعاد من شئت, وخذ من أموالنا ما شئت، وما أَخَذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا وإنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله”.

هذه هي الذكريات التي تبعثها الأماكن الطاهرة المقدسة التي يعيش الحجاج بها أطيب الأيام وأفضلها عند الله، فعسى الله أن يجعل المفاهيم الإسلامية الصادقة التي تتبادر لذهن كل مسلم في أيام الحج حقائق حية في حياة المسلمين كما كانت بالأمس. فيفيقوا من غفوتهم ويهيبوا من رقدتهم لينفضوا عن أنفسهم وأمتهم غبار الذل والهوان وأحكام الكفر والضلال، فيُعيدوا نمط الحياة الإسلامية الصادقة إلى حياتهم وحياة الناس، حيث تعمل دولتهم دولة الخلافة الراشدة على تطبيق أحكام الإسلام وحمل دعوته بالجهاد إلى ربوع الدنيا، لتهنأ الحياة من جديد ويظهر دين الله على كل دين.

لم تكن الهجرة إلا رحيلاً

لاستلام زمام الحكم والسلطان

في المدينة المنورة لإقامة أول

دولة للإسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *