العدد 111 -

السنة العاشرة – ربيع الآخر 1417هـ – أيلول 1996م

الفكر السيّاسي في الإسلام 2)

الفكر السيّاسي في الإسلام 3)

 

بقلم. الأستاذ: فتحي عبد الله

قلنا في الحلقة السابقة من هذا الموضوع إنّ الفكر هو إصدار الحكم على واقع ما، وإنّ التفكير هو العمليّة الدماغيّة التيّ يجري بواسطتها إصدار الحكم على الواقع بعد نقل هذا الواقع بواسطة الحوّاس إلى الدّماغ ثمّ تفسيره بالمعلومات السابقة المختزلة في الدماغ… ويكون هذا الحكم صحيحا أو خاطئا وفقا لصحّة المعلومات السابقة أو خطئها… ووفقا لصحّة الإحساس بهذا الواقع أو عدم صحّته… وبناء عليه جرى تعريف العقل أو الفكر أو الإدراك بأنّه نقل الواقع الماديّ إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسّر بواسطتها هذا الواقع.

  فلا يمكن إذن وجود عقل بدون واقع ماديّ أو بدون إحساس بهذا الواقع أو بدون دماغ أو بدون معلومات سابقة، فلا بدّ من اكتمال هذه الشروط الأربعة حتّى يكون هناك فكر أو عقل أو إدراك. وهذا التعريف للعقل ملزم لسائر النّاس لأنّه مطابق للواقع ولا يتناقض معه، أي مطابق لواقع العقل أو الفكر أو الإدراك من حيث هو، إلاّ إذا جاء من يستطيع نقضه، وهيهات!

 وكذلك سائر التعاريف الفكريّة تكون ملزمة لسائر النّاس إذا كانت منطبقة على واقعها، كتعريف الحضارة بأنّها مجموع المفاهيم عن الحياة أي طراز العيش المعيّن عن وجهة نظر خاصّة في الحياة وكتعريف المدنيّة بأنّها الأشكال الماديّة للأشياء المحسوسة التّي تستعمل في شؤون الحياة وتكون المدينة خاصّة إذا كانت متأثّرة بوجهة نظر في الحياة كالرسم والموسيقى والنحت وطراز بناء البيوت واللّباس… وكتعريف الدولة بأنّها كيان تنفيذي لمجموعة المقاييس والقناعات والمفاهيم التي تقبّلتها مجموعة من النّاس، وكتعريف الحزب السياسي بأنّه تكتّل يقوم على مبدأ آمن أفراده به يريدون إيجاده في المجتمع أي جعله متحكّما في العلاقات العامة والخاصّة… وأنّ الذّي يجعله حزبا سياسيّا هو قيامه على فكرة هذا المبدأ بشكل تفصيليّ.

وكتعريف السياسة بأنّها رعاية شؤون النّاس داخليّا وخارجيّا وتكون هذه الرّعاية عمليّا من قبل الدولة بتطبيقها مجموعة المقاييس والقناعات والمفاهيم التّي تقبّلها هؤلاء النّاس، ومن قبل الأمّة بمحاسبتها للدّولة على هذه الرّعاية، ولتقويم اعوجاجها إذا انحرفت عن تطبيق النّظام الذّي تقبّلته الأمّة ورضيته معالجات لمشاكل حياتها. ولهذا فإنّ السياسة في الإسلام هي الإهتمام بشؤون النّاس جميعا لقوله تعالى:

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ). والإهتمام بشؤون النّاس فرض على جميع المسلمين بدليل الآية المتقدّمة وبدليل قولهصلى الله عليه وسلم (من لم يهتّم بشؤون المسلمين فليس منهم) ولقوله أيضا (كل مسلم على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتيّن من قبله) ولقوله كذلك عليه وآله الصلاة والسلام (كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته).

فالعقيدة الإسلاميّة التي يعتنقها المسلمون عقيدة سياسيّة إلى جانب كونها عقيدة روحيّة.. فـ(لا اله إلاّ الله) تعني أنّه لا معبود بحقّ في السماوات والأرض إلاّ الله وحده، فله وحده جلّ شأنه العبوديّة والطاعة والإنقياد. و(محمّد رسول الله) تعني أنّه لا يحكّم في هذه الدّنيا إلاّ شرع الله الذّي جاء به خاتم الأنبياء والرّسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فالرّسول صلى الله عليه وسلم كان مدركا من أوّل يوم تلقى فيه الرّسالة الإسلامية العظيمة من وحي السّماء أنّ قضيّته في هذه الحياة قضيّة سياسيّة عالميّة وليست قضيّة محليّة ولا قضيّة شعب بذاته لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) ولقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين )ولقوله أيضا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)… وعليه فإنّه اتّخذ في قضيّة الإسلام العالميّة إجراء واحدا لاغير هو إجراء الحياة أو الموت سواء عندما كان في دار الكفر بقوله “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لن أتركه حتّى يظهره الله أو أهلك دونه” أو عندما كان في دار الإسلام بقوله “والله لأمضيّن أجاهد على ما بعثني عليه ربّي حتّى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة” مشيرا إلى عنقه صلى الله عليه وسلم…ناهيك عن أحاديث أخرى صحيحة رويت عنه صلى الله عليه وسلم كقوله “أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لاإله إلاّ الله محمّد رسول الله، فإن قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها”.

فالقضايا السياسيّة العالميّة قضايا مصيريّة لا يتخذ فيها إلاّ هذه الإجراء وهو إجراء الحياة أو الموت. وقد فهم العرب ذلك وأدركوه حين عرض نفسه على القبائل يطلب نصرتها ليبلغ عن الله تعالى… فهذا يحي من بني عامر بن صعصعة يقول له بعد أن سأله ما إذا كان الأمر سيؤول إليهم من بعده إن نصروه ويجيبه صلى الله عليه وسلم أنّ الأمر لله يؤتيه من يشاء… يقول له يحي “أَفَنُهْدِفُ نحورَنا للعرب دونك ثمّ لا يكون لنا الأمر من بعدك! مالنا بأمرك من حاجة؟.. فقد أدرك يحيى أنّ الأمر جدّ وأنّ القضيّة قضيّة مصيريّة فيها الحياة والموت وفيها القتال والقتل…

وهاهم بنو شيبان يقولون له صلى الله عليه وسلم “نمنعك مما دون مياه العرب أمّ الفرس فإنّه بيننا وبينهم حبالا أي عهودا ومواثيق لانستطيع قطعها” فيجبهم صلى الله عليه وسلم بأنّه من أراد أن يمنع هذا الأمر وينصره عليه أن يحيط به من جميع جوانبه… وهذا هو البراء بن مسرور رضي الله عنه يخاطب قومه الأنصار من الأوس والخزرج في البيعة السياسيّة بيعة العقبة الثانية التي بايعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحموه ويمنعوه ممّا يمنعون منه نساءهم وأموالهم وأولادهم… يخاطبهم بقوله “أتدرون علام تبايعون الرّجل… إنّكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر من النّاس فإن كنتم ترون أنّكم خاذلوه فدعوه من الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنّكم مانعوه فخذوه فهو والله خير الدّنيا والآخرة”…

وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل بعد أن تحجّرت مكّة ولم تقبل الفكرة الجديدة وأبت إلاّ التمسك بالقديم البالي وبما وجدت عليه الآباء والأجداد لم يكن إلا عملا سياسيّا عظيما لأنّه كان يريد نقل الفكرة الإسلاميّة من فكرة تدرس في حلقات وبين أربعه جدران إلى فكرة سياسية تتحكّم في المجتمع والعلاقات، أي انّه كان يريد نقلها إلى مركز القوّة ليُبَلِغ من هناك عن الله تعالى دينه الذّي ارتضاه للعالمين.

ولا بدّ هنا من لفت النّظر إلى أنّ قضيّة الإسلام السياسيّة في دار الكفر تختلف في طريقة حملها في دار الكفر عن طريقة حملها في دار الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة الأولى والأخيرة في ذلك… فهو صلى الله عليه وسلم قد حمل الدّعوة إلى الإسلام في مكّة بطريقة معيّنة ثابتة هي أحكام شرعيّة من الله تعالى يجب الإلتزام بها في كلّ زمان ومكان، ولم تكن هذه الطريقة أسلوبا مبتدعا من البشر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم للأوس والخزرج حين طلبوا منه بعد بيعة العقبة الثانية أن يأمرهم ليميلوا غدا بأسيافهم على أهل منى أي على الحجيج أجمعه” ارجعوا إلى رحالكم لم نؤمر بعد”. فهو إذن قد حمل الدعوة إلى الإسلام في مكّة بالصّراع الفكري والكفاح السياسي فقط ولم يُرْوَ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قام بأيّ عمل مادي في مكّة مطلقا. فهو لم يهدم صنما ولم يزل أيّ ناحية من نواحي الظلم سياسيا كان أو اقتصاديّا أو اجتماعيّا ولم يقض على الفقر، وإنّما كان يقتصر على الصّراع الفكري والكفاح السياسي بمهاجمة العقائد الباطلة والأفكار الخاطئة والمفاهيم المغلوطة، وبمهاجمة الشخصيّات التي لها ثقلها ونفوذها في المجتمع المكي، وكان يمر على أصحابه صلى الله عليه وسلم وهم يعذّبون فيقول لهم “صبراً آل ياسر إنّي لا أملك لكم من الله شيئا إنّ موعدكم الجنّة”…

  وعندما انتقل إلى المدينة المنوّرة بعد أخذ نصرة الأوس والخزرج أنصارِ الله ورسوله ونقل فكرة الإسلام إلى مركز القوة بإقامة دولة الإسلام جعل العقيدة الإسلاميّة أساس هذه الدّولة وأساس المجتمع وأساس الفرد،بحيث لا يتأتى وجود شيء فيه يناقضها ولم تتنزل بعد آيات التشريع والأحكام الشرعية التّي تنظّم علاقات النّاس… هناك في المدينة ضمّ إلى الصّراع الفكري صراعا آخر هو الصّراع الدمويّ، فكان هذان الصراعات يسيران جنبا إلى جنب في المدينة: دار الإسلام حتّى أظهر الله دينه بنصر رسوله الكريم وأصحابه الكرام فدانت له الجزيرة العربيّة وخضعت لسلطان الإسلام بعد فتح مكّة وخيبر، وأسلم النّاس ودخلوا في دين الله أفواجا، فوحّد الجزيرة كلّها تحت لواء الإسلام وبيّن للنّاس أنّ الأمر ماض إلى يوم القيامة وهو تبليغ الإسلام للعالم عن طريق الدولة والأمة بطريقة تبليغه للحقّ وهي الجهاد في سبيل الله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير ) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِير).

 فالجهاد أي قتال الكفّار وهو الصّراع الدمويّ وما يسبقه من أعمال سياسيّة لافتة للنظر هو السياسة الخارجيّة للدّولة الإسلاميّة وللأمّة الإسلاميّة وهو الذّي بموجبه تنظّم علاقات الأمّة والدّولة بغيرهما من الأمم والدول…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *