العدد 115 -

السنة العاشرة – شعبان1417هـ – كانون الثاني 1997م

فصل من كتاب حمل الدعوة الإسلامية واجبات وصفات

الثبات لحامل الدعوة

«حمل الدعوة» كلمتان ثنتان، «حمل» و «الدعوة»، فالحمل شيء والدعوة شيء آخر. أما الدعوة فهي مجموعة الأفكار والأحكام الشرعية، أو هي الإسلام كلّه، وأما الحمل فهو التبليغ، بمعنى أنه تبليغ الناس الأفكار والأحكام الشرعية، وقد سبق أن قلنا إن حمل الدعوة هو عمل الأنبياء والمرسلين، وعمل من تبعهم وسار على نهجهم، وإن حمل الدعوة هو أفضل عمل وأكرمه على الإطلاق، وحيث أن حمل الدعوة هو كذلك، فإنه ولا شك من أعظم الواجبات، بل إن جميع

 الواجبات الشرعية لا تتم إلا به ومحصّلة له.

إن المسلم مأمور أمراً جازماً بأداء الواجب والقيام به، وعدم تركه والتخلّي عنه، بمعنى أن المسلم مأمور أمراً جازماً بالثبات على فعل الواجب وإلا أثم، فالثبات على فعل الواجب واجب ولا شك، ومن الواجب حمل الدعوة، فحمل الدعوة واجب، والثبات عليه واجب كذلك، فإذا قلنا إن الثبات واجب على حامل الدعوة، فإننا نعني أنه واجب عليه في الحمل، وواجب عليه في الدعوة، ولا يصح قصر الثبات على أحدهما دون الآخر، فيجب على كل مسلم حمل الدعوة، ويجب بالتالي على كل حامل دعوة الثبات على الدعوة، أي الثبات على مجموعة الأفكار والأحكام الشرعية والتمسك بها والمحافظة عليها لأنها وحدها هي الحق، وهي من عند الله، وإن ما سواها باطل وهو من عند غير الله، وبالتالي لا يكون دعوة، ولا يكون إسلاماً، كما أن على حامل الدعوة أن يثبت على الحمل، أي يثبت على تبليغ مجموعة الأفكار والأحكام الشرعية ولا يتوقف عنه مهما كانت الظروف والعقبات، وإلا كان تاركاً لحمل هذه المجموعة وداخلاً في سخط الله سبحانه، فالثبات كما هو مطلوب في الدعوة هو كذلك مطلوب في الحمل، ولا فضل لمسلم ثبت على أحدهما دون الآخر، بل يصح القول إنه لا خير في مسلم ثبت على أحدهما دون الآخر، وويل لمسلم لم يثبت على كلا الأمرين، لأن عاقبته النار وبئس المصير.

إن أعداء الدعوة وأعداء الإسلام يعملون جاهدين لضرب الثبات على الدعوة بنفس القوة والعزم لضرب الثبات على الحمل، أما بخصوص ضرب الثبات على الدعوة فإنهم يعملون جاهدين على تشويه الدعوة وإلصاق التهم بها، وإدخال أفكار الكفر وأحكامه فيها، فتراهم مثلاً يُدخلون الديمقراطية -وهي نظام كفر- في الدعوة أي في الإسلام، ويُدخلون الحريات -وهي أفكار كفر- في الدعوة أي في الإسلام، ويدخلون العدالة الاجتماعية -وهي حكم كفر- في الدعوة أي في الإسلام، يريدون من ذلك أن يلبسوا على المسلمين دينهم، فلا يعودون يفرّقون بين الحق والباطل، ولا بين ما هو من عند الله وما هو من وضع البشر، وذلك حتى يفسدوا على حملة الدعوة دعوتهم، ويُنهوا ثبات المسلمين وحَمَلة الدعوة على دينهم ودعوتهم، وهذا كان حال أعداء الإسلام ولا زال، قال تعالى في سورة البقرة: (…ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا…)، فمن حمل الدعوة وجب عليه أن يثبت عليها، ويرفض هذه المحاولات من أعداء الدعوة وأعداء الإسلام، ووجب عليه أن يحافظ ويتمسك بكل ما لديه من أفكار وأحكام شرعية ويرفض ما سواها حتى تبقى أفكاره وأحكامه نقية صافية، فالثبات على المبدأ، والتمسك والمحافظة على الأفكار والأحكام الشرعية ورفض ما سواها يحبط مساعي أعداء الدعوة وأعداء الإسلام، ويرد كيدهم في نحورهم.

وأما بخصوص الثبات على الحمل، فإن الأعداء يفتحون المعتقلات والسجون، ويشهرون العصي والسياط، ويحاربون حَمَلة الدعوة بقطع الأرزاق وحتى بقطع الأعناق، يعلنون الحرب على حَمَلة الدعوة في كل المجالات ليحولوا بينهم وبين حمل الدعوة والثبات عليه والاستمرار فيه، فمن فتن في دعوته فقد فتن، ومن ترك حمل الدعوة استجابة لطلب الأعداء فقد سقط وحقّق المفتون والساقط لأعداء الدعوة وأعداء الإسلام ما يصبون إليه ويطمحون إليه.

إن الله سبحانه قد حذّرنا من عدم الثبات على الدعوة وعلى الإسلام تحذيراً بالغ الشدة، فقال في سورة الإسراء: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً* ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً* إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) فهذا تحذير بالغ الشدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان سيعذب ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة لو هو فُتن وصُرف عن شيء ولو قليلٍ من أفكار الرسالة وأحكامها، أي عن شيء قليل من الدعوة، راكناً إلى كفار مكة ملبياً لهم شيئاً مما يطلبون منه، وقال سبحانه في سورة الحاقة: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين* فما منكم من أحد عنه حاجزين) وهذا أيضاً تحذير شديد من التلاعب بالدعوة بالتقوّل على الله ما لم يقل، وإدخال فكر أو حكم في دين الله ليس منه، فمن فعل أذلّه الله وقتله دون أن يملك أحدٌ نصره وعونه، وهذان التحذيران بالغا الشدة موجّهان إلى حَمَلة الدعوة، فمن ركن منهم إلى أعداء الدعوة وأعداء الإسلام بأن أجابهم إلى ما طلبوا كأن وافق على مهادنتهم وتخلّى عن واجب ذم أفكارهم وأحكامهم ورموزهم ببيان زيفها ومخالفتها لشرع الله ومعاندتهم لدين الله، وتوقف عن كشف خططهم وكيدهم للإسلام والمسلمين، وأظهر رضاه وقبوله بفعالهم، وأقرّ ظلمهم وبرّره لهم، ورضي أن يتهم أفكاره هو وأحكامه هو بالبطلان وعدم الصلاح للعصر مثلاً، وأن الفكر الفلاني أو الحكم الفلاني غير صحيح أو غير مشروع استجابة لمطالبهم وخضوعاً لإرادتهم فقد فتن، لا فرق بين الافتتان عن فكر شرعي أو حكم شرعي واحد أو عن أفكار وأحكام شرعية عديدة، فكل ذلك فتنة وافتتان يوجب لصاحبه العذاب في الدنيا والآخرة ضعف ما يعذّب به المعذّبون والعياذ بالله.

إن حامل الدعوة معرّض لهذه الفتنة لدى اعتقاله، فسامع من الأعداء أمرين: اتهام أفكاره وأحكامه وتشويهها بصنوف الأباطيل والأكاذيب ليزعزعوا ثقته بها ويشككوه فيها، والثناء على أفكارهم هم وأحكامهم هم رغم بيان عوارها وفسادها، وإلباسها لبوس الإسلام والحق والصلاح، كل ذلك من أجل أن يلبسوا على حامل الدعوة دينه ودعوته، ويصرفوه عن حمل الدعوة، فليحذر حامل الدعوة من التعرّض لهذه الفتنة، وليتخذ لها أهبته واستعداده، فإن ما لدى الأعداء من صنوف العذاب الجسدي والنفسي، وألوان القهر والإذلال لهو أخف كثيراً من عذاب الضعف في الدنيا والآخرة إن هو فُتن وافتُتن، فلم يثبت على الدعوة ولم يتمسك بالمبدأ، ولم يحافظ على نقاء الأفكار والأحكام الشرعية وقَبِلَ أن يتخلى عن شيء ولو قليل منها، وأن يزيد فيها ما ليس منها.

وكما حاول أهل مكة أن يفتنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعوة أو عن شيء منها، فقد حاولوا أيضاً أن يصرفوه عن حمل الدعوة والثبات عليه كذلك، وبذلوا في ذلك جهدهم، وفاوضوه كثيراً، وعرضوا عليه المُلك والمال والشرف والجاه، وهي أسلحة أعداء الله في كل زمان ومكان، علّه يترك حمل الدعوة وما يصاحبه من شتم آلهتهم وتحقير دينهم وتسفيه أحلامهم وعقولهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم أبى أشد الإباء واستمر على موقفه المبدئي في حمل الدعوة والتبليغ عن ربه عز وجل، جاء في سيرة ابن هشام عن محمد بن كعب القرظي: «…فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منّا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع، قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به مُلكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّاً تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرّئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرّجل حتى يداوى منه، أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال فاسمع مني قال: أفعل، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم حم* تنزيل من الرحمن الرحيم* كذلك فُصِّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون* بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون* وقالوا قلوبنا في أكنّة مما تدعونا إليه)، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك»، وجاء في السيرة أيضاً قولةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهورة: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»، وجاء ما رواه الطبراني من طريق مسور ومروان وما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية قولته المشهورة أيضاً: «فما تظن قريش فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة».

إن حامل الدعوة معرّض لهذه المقاومة والصدّ له عن حمل الدعوة والاستمرار فيه، فقد يعرضون عليه التعاون معهم وجني الأموال الطائلة، وقد يعرضون عليه الوظائف العالية والجاه العريض، فإن لم ينجحوا واستمر حامل الدعوة على موقفه الثابت أعملوا في جسده العصي والسياط، وصبّوا عليه ألواناً من التعذيب الجسدي والنفسي، وأذاقوه فنوناً من الأذى، وسجنوه السنين والأعوام، فمن ضعف عندئذٍ فاستجاب لهم فقد سقط إلى غضب الله وعقابه، ومن ثبت ونجا وسلم فعند الله المثوبة له والمنزلة العالية.

إن الثبات على الدعوة، أي على مجموعة الأفكار والأحكام الشرعية التي يحملها ويدعو الناس إليها واجب عظيم يجب القيام به بكل طاقة مستطاعة، ولا يصح مطلقاً أن يحمل فكراً واحدا غير شرعي، ولا حكماً واحداً غير إسلامي، وليحاذر من أن يعلق بأفكاره وأحكامه ما يسرّ به أعداء الدعوة وأعداء الإسلام من أفكار وأحكام باطلة فاسدة ليست من شرع الله، وإن قال بها  العلماء والفقهاء الواقفون على أعتاب السلاطين، أو الذين أخذوا الأحكام ودرسوا الشريعة حسب المنهاج الذي وضعه الكفار وعملاؤهم ليحرفوا المسلمين عن الفهم الصحيح للإسلام، ويصرفوهم عن دينهم الحق. فإنما النصر مع الثبات على الحق ولو كان ثقيلاً، ولو كان شاقّاً، ولو رُمي بكل ما في قاموسهم القذر من وصفٍ جارح ونعتٍ قادح، فالحق أحق أن يتبع سيما ونحن في زمان سيطرة الإعلام وأجهزته وأدواته على عقول الناس، وقدرته على إلباس الباطل ثوب الحق، والفساد ثوب الصلاح.

وكما ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدعوة وعلى حملها، فقد ثبت صحابته رضوان الله عليهم ثباتاً لا نظير له، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً ومعروفة ومشهورة، وما قصة تعذيب بلال في بطحاء مكة وثباته على الحق، وما قصة آل ياسر وتعذيبهم برمضاء مكة وصبرهم بخافية على أحد، فعلى الشباب حَمَلة الدعوة أن يخلفوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانهم هذا، فيُحيوا ذكراهم ويعيدوا سيرتهم، ويجدّدوا تاريخهم بالاقتداء بهم في الثبات على الحق والاستمرار فيه حتى نصر الله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *