العدد 117 -

السنة العاشرة – شوال 1417هـ – شباط 1997م

فصل من كتاب حمل الدعوة الإسلامية واجبات وصفات

فصل من كتاب

حمل الدعوة الإسلامية

واجبات وصفات

النصر لحامل الدعوة

قلنا من قبل إنّ حامل الدعوة يعمل عمل الأنبياء إلا ما استثنيناه، وقلنا إن الأنبياء هم القدوة والأسوة في أصل الدين والعقيدة، وهذا القول ينسحب على موضوع نصر اللـه سبحانه لأنبيائه ورسله، فكما أن اللـه سبحانه ينصر الأنبياء والمرسلين، فإنه جل جلاله ينصر حملة الدعوة كذلك، أما كيف ينصر اللـه الأنبياء والرسل ومتى يكون النصر، فهذا ما يحتاج إلى استعراض الآيات المتعلقة بهذا الموضوع.

باستعراض قصص الأنبياء والمرسلين في القرآن نجد أن نصر اللـه لهم له ثلاثة أوجه: إما نصر النبي نفسه على قومه ومعارضيه ومعانديه، وإما نصر الدعوة أو الفكرة التي حملها النبي والرسول، وإما نصر النبي ونصر الدعوة معاً.

فنبي اللـه نوح، ونبي اللـه هود، ونبي اللـه صالح، ونبي اللـه شعيب، ونبي اللـه لوط قد نصرهم اللـه على أقوامهم بأن أهلك أقوامهم ودمّرهم بأصناف شتى من العذاب والتدمير، وهذا النصر هو الوجه الأول، أي هو نصر النبي نفسه على قومه. ونبي اللـه يونس ونبي اللـه موسى قد نصر اللـه فكرتهما ودعوتهما، فآمن قوم يونس، وآمن بنو إسرائيل، وهذا النصر هو الوجه الثاني. ونبي اللـه محمد صلى الله عليه وسلم قد نصره اللـه على أعدائه من قرشيين ويهود وسائر العرب في الجزيرة ومن حولهم، ونصر اللـه فكرته ودعوته ودينه فآمن العرب وغير العرب بدين الإسلام، وهذا النصر هو الوجه الثالث.

فاللـه سبحانه إما أن ينصر نبيه، وإما أن ينصر شريعة نبيه، وإما أن ينصر النبي وشريعته معاً، وهذه مسألة واضحة لا تحتاج إلى إيراد الآيات الكثيرة الدالة عليها.

وهذا النصر للأنبياء والمرسلين إما أن ينسب إلى رب العالمين، وإما أن ينسب إلى فئة من الناس ينصرون هؤلاء الأنبياء والمرسلين، والأدلة على هذين الأمرين كثيرة نذكر منها للدلالة على الحالة الأولى قوله تعالى في سورة الأنبياء: (ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوْءٍ فأغرقناهم أجمعين) وقوله سبحانه في سورة العنكبوت على لسان لوط: (قال رب انصرني على القوم المفسدين) وقوله جل جلاله في سورة يوسف: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا فنجِّيَ من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين)، وللدلالة على الحالة الثانية نذكر منها قوله تعالى في سورة الأنفال: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللـه والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من وَلايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق واللـه بما تعملون بصير)، وقوله سبحانه في سورة الأعراف: (…فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) وقوله جل جلاله في سورة آل عمران: (وإذ أخذ اللـه ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنُنّ به ولتنصُرُنّه…)، ففي الآيات الأولى جاءت نسبة النصر إلى اللـه سبحانه، وفي الآيات الثانية جاءت النسبة إلى الناس.

وكما ينصر اللـه الأنبياء والرسل فإنه كذلك ينصر المؤمنين بهؤلاء الأنبياء والرسل الذين يطيعون اللـه سبحانه وينصرونه، بمعنى أن من آمن بشرائع الأنبياء والتزم أحكامها وأطاع أوامرها واجتنب نواهيها فإن نصر اللـه ينزل عليه هو الآخر، وبمعنى ثانٍ فإن حامل الدعوة -وهو موضع البحث هنا – هو الآخر منصور ينزل عليه نصر اللـه سبحانه، قال تعالى في سورة غافر: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) وقال سبحانه في سورة محمد: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اللـه ينصركم ويثبت أقدامكم)، فرتب سبحانه نصره للمؤمنين على نصرتهم إياه، أي على التزامهم أحكام الدين، كما يفعل حامل الدعوة، لأنه في القمة من حيث الالتزام والطاعة.

نخلص مما سبق إلى أن اللـه سبحانه ينصر أنبياءه ورسله عليهم السلام إما مباشرة كما نصر نوحاً وهوداً وصالحاً وشعيباً ولوطاً، وإما بتسخير آخرين لنصرتهم كما حصل مع رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، إذ سخر اللـه له أهل المدينة لنصرته فسُموا الأنصار، وإن اللـه سبحانه ينصر الأنبياء أنفسهم كما نصر نوحاً وهوداً وصالحاً وشعيباً ولوطاً، أو ينصر شرائعهم كما نصر شريعة موسى وشريعة عيسى، أو ينصر النبي وشريعته معاً كما نصر رسولنا صلى الله عليه وسلم، وإن اللـه جلّت قدرته قد ينصر أنبياءه ورسله في حياتهم كحال معظم الأنبياء والرسل، وقد ينصرهم بعد وفاتهم كما حصل مع عيسى عليه السلام، فقد انتصرت شريعته بعد أن رفعه اللـه إليه، وكذلك الحال مع حملة الدعوة، فربما نصرهم اللـه مباشرة، وربما نصرهم بتسخير آخرين لنصرتهم، وربما نصرهم في حياتهم، وربما نصر دعوتهم بعد موت الرواد منهم، وهكذا، ولا يصح القول أو الادعاء باقتصار نزول النصر على حملة الدعوة بواحدة بالذات من هذه الأحوال، ونفي ما سواها، لايصح هذا القول وهذا الادعاء ولا يجوز، لأن تخصيص نصر حملة الدعوة بأي منها تخصيص دون مخصّص، وهو تشريع عقلي وليس تشريعاً شرعياً، فليحذر حامل الدعوة من مخالفة هذا الحكم الشرعي، والأخذ بالهوى في اختيار حالة معينة دون غيرها واستبعاد ما سواها، وليعلم أن النصر من عند اللـه ينزله على المؤمنين إن هم نصروه بالطاعة والالتزام والتقيد بعيداً عن اتباع الهوى والتشريعات العقلية.

وحيث أن النصر بيد اللـه وحده، وأنه من عند اللـه وحده لقوله تعالى في سورة آل عمران: (وما جعله اللـه إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند اللـه العزيز الحكيم) ولقوله سبحانه في سورة البقرة: (…حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اللـه ألا إن نصر اللـه قريب)، ولقوله جل جلاله في سورة النصر: (إذا جاء نصر اللـه والفتح)، وحيث أن النصر لا يأتي من دون أمر اللـه لقوله تعالى في سورة الملك: (أمّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إنِ الكافرون إلا في غرور) ولقوله سبحانه في سورة الكهف: (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون اللـه وما كان منتصراً) ولقوله جل جلاله في سورة القصص: (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون اللـه وما كان من المنتصرين)، ولقوله عز وجل في سورة البقرة: (ألم تعلم أن اللـه له ملك السموات والأرض وما لكم من دون اللـه من وليّ ولا نصير)، نقول حيث أن النصر بيد اللـه وحده، وأن النصر لا يأتي من دون أمر اللـه، فهل يملك المسلمون أسباب هذا النصر، أم يملكون شروطه فحسب؟ وبعبارة أخرى: هل يستطيع المسلمون إنزال النصر متى شاءوا وكيف شاءوا بأن يأتوا بأسباب هذا النصر، أم أن الأمر غير ذلك، فلا يملك المسلمون تقدير وقت نزوله، ولا كيفية هذا النزول مهما فعلوا ومهما حاولوا، وإنما يملكون فحسب تحقيق الشروط الواجبة واللازمة عليهم حتى يكرمهم بنصره في الوقت والكيفية اللذين يقدرهما هو سبحانه؟

إن المدقق في آيات اللـه المتعلقة بالنصر يستنبط منها أن النصر كالرزق هو قضاء، وأن النصر كأمر الرزق بيد اللـه وحده، وأن قضاء اللـه بيد اللـه وليس بيد الناس حتى ولو كانوا انبياء ورسلاً، فكما أن الرزق قضاء، وكما أن الأعمار قضاء، وكما أن نزول الغيث قضاء، فكذلك نزول النصر قضاء، والقضاء بيد اللـه وحده وليس بيد أحد من خلقه، فكما أن الإنسان لا يملك تحديد رزقه وقتاً وكمية، ولا يملك تقدير عمره طولاً وقصراً، ولا يملك إنزال الغيث وقتاً وكمية، فكذلك النصر لا يملك أحد إنزاله توقيتاً ومقداراً، وإنما كل ذلك قضاء، وحيث أن النصر قضاء كسائر ما قضى ويقضي اللـه فإن أحداً لا يملك أسبابه التي تنتجه فلا يتخلف، ولو كان النصر في مقدور أحد صنعه بالإتيان بأسبابه التي تنتجه فلا يتخلف، لصنعه الأنبياء والرسل، ولأنزلوه فور حاجتهم إليه، وما دام الأنبياء والرسل لا يملكون أسباب النصر فإن من سواهم من المؤمنين لا يملكونه قطعاً، قال تعالى في سورة القمر: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصِر)، فلو كان النصر في مقدور نبي اللـه نوح يأتي به متى شاء لما قال ما قال، وقال سبحانه في سورة البقرة: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اللـه ألا إن نصر اللـه قريب) فلو كان النصر في مقدور رسول اللـه الكريم صلى الله عليه وسلم وفي مقدور صحابته لما قالوا ما قالوا، وقال جل جلاله في سورة يوسف: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا فنجّيَ من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) فلو كان صنع النصر مقدوراً عليه من قبل الرسل لما يئسوا ولما ظنوا أنهم كذبوا دون أن يتمكنوا من فعل أي شيء، إذ اليائس المكذَّب لا يصنع نصراً، ولهذا جاء القول ـ جاءهم نصرنا ـ، فمن ادّعى أنه يملك أسباب النصر فليأتنا بالبينة الشرعية، أو البينة الكونية على ادعائه. إن قوله تعالى في سورة محمد: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اللـه ينصركم ويثبت أقدامكم) ليس دليلاً على دعوى تملك الأسباب، ثم إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لو كان يملك أسباب إنزال النصر لأنزله في معركة أحد لشدة حاجته إليه، ولأنزله في معركة الخندق عندما ضُيّق عليه الحصار فزُلزل المؤمنون وظنّوا باللـه الظنون، يقول تعالى في سورة الأحزاب: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون باللـه الظنونا* هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)، ولولا أن اللـه سبحانه قد أرسل على الأحزاب الريح وقذف في قلوبهم الرعب ففروا لا يلوون على شيء لما ملك المسلمون من أمرهم شيئأً، فالحق الذي لا مراء فيه، والصواب الذي لا ينبغي العدول عنه هو أن النصر قضاء، وأنه بيد اللـه وحده تماماً كالرزق والأعمار ونزول الغيث. وقضاء اللـه بالنصر للمؤمنين لا يقضيه اللـه كيفما اتفق، وحاشا للـه أن يكون كذلك، وإنما اشترط رب العزة على المؤمنين كي ينزل نصره عليهم أن ينصروه بمعنى أن يلتزموا أحكام دينه ويطيعوه في كل ما أمر، فإن حقق المسلمون هذا الشرط الذي شرطه اللـه عليهم أنزل نصره عليهم، وإلا خذلهم اللـه وحجب نصره عنهم ولم يعد في مقدورهم نوال النصر لا بأنفسهم ولا بنصرة آخرين لهم، قال تعالى في سورة آل عمران: (إن ينصركم اللـه فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى اللـه فليتوكل المؤمنون).

وإذن فإن المسلمين حتى ينزل اللـه نصره عليهم يجب عليهم أن يحققوا الشرط اللازم لنزول هذا النصر، فإن تحقق الشرط تحقق وعد اللـه بالنصر، وإن تخلف الشرط خذلهم اللـه ولم ينصرهم، وعلى هذا يجب حمل قوله تعالى في سورة محمد: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اللـه ينصركم ويثبت أقدامكم) فإن اللـه سبحانه حتى ينصرنا قد اشترط علينا أن ننصره، فإن نصرناه نصرنا، وإن لم ننصره خذلنا وحجب نصره عنا، وذلك أن حرف «إن» حرف شرط كما هو معلوم لغة، فقوله: (إن تنصروا اللـه) معناه يشترط عليكم أن تنصروا اللـه، هذا هو معنى الآية ولا يصح تحميلها معاني لا تحتملها.

وكما قلنا فإن نصرتنا للـه سبحانه تعني تقيدنا بأوامره ونواهيه والتزامنا بطاعته والاجتهاد في الطاعة، فإن نحن نفذنا أوامره كلها ومن الأوامر الإعداد بقدر الاستطاعة نصرنا اللـه، وإن قصّرنا في تنفيذ شيء منها لا ينصرنا سبحانه، وهكذا جميع العوامل التي يجب توفرها قبل النصر كلها شروط للنصر وليست أسباباً له.

فعلى حملة الدعوة إن هم أرادوا نزول النصر عليهم من عند اللـه أن يحققوا الشروط اللازمة لنزول النصر، ولا يتهاونون في شيء منها وإلا فلا نصر، فالنصر له شروط يجب توفرها إن أريد إنزاله، وبدونها لا يتحقق نزول النصر، وتتوفر الشروط بالتقيد بالإسلام عقيدة وأحكاماً، والعمل بما يرضي اللـه، أي القيام بنصرة اللـه، ثم يأتي بعد ذلك أو يأتي ضمن ذلك الإعداد الصحيح للمعركة، أو الاجتهاد قدر الوسع من قبل حَمَلَة الدعوة في حملهم للدعوة، وصحة هذا الاجتهاد، ولا يكفي الجيش الإسلامي القيام بالواجبات الشرعية دون أن يقوم بشكل صحيح وبقدر الطاقة بالواجبات العسكرية في الحروب، كما لا يكفي حملة الدعوة أن يخلصوا العمل للـه ويتقيدوا بالأوامر والنواهي الشرعية دون أن يقوموا بشكل صحيح بحمل الدعوة كما حملها رسول اللـه صلى الله عليه وسلم، فالعبادة لا تكفي، والإخلاص للـه لا يكفي، واجتناب المحرمات لا يكفي، بل لا بد معها وفوقها من توفر حسن العمل، واتباع الوسائل والأساليب المؤدية إلى بلوغ الغاية، لأن كل ذلك من الشروط الواجب توفّرها إن نحن رجونا اللـه سبحانه أن يكرمنا بنصره، سواء في إقامة الخلافة أو في خوض المعارك، وليعلم حملة الدعوة أن اعتبار النصر قضاء وأن له شروطاً لنزوله، وليس هو مسبباً عن سبب أو أسباب يجعلهم أكثر نشاطاً وأعلى همة، وأشد تمسكاً بالواجبات وتركاً للمحظورات، لأننا عندما ندرك أن نصر اللـه ليس بأيدينا، وإنما هو بيد اللـه وحده يعطيه لمن يحقق الشروط كل الشروط، فإن ذلك يجعلنا شديدي الخشية من التقصير المفضي إلى حجب النصر، سواء كان التقصير في العبادات والطاعات، أو كان في اتباع الطرق والوسائل والأساليب الصحيحة المفضية إلى بلوغ الغاية، فكل ذلك تقصير، وكل ذلك يحول دون تحقيق الشروط التي يجب توفرها قبل نزول النصر.

وكمثال على الحالة الأولى – أي التقصير في العبادات والطاعات – قوله تعالى في سورة التوبة: (لقد نصركم اللـه في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رَحُبَتْ ثم وليتم مدبرين) فالاغترار بالكثرة المؤدي إلى الظن بأنها تجلب النصر مخالفة شرعية ومعصية تتنافى مع الطاعة والعبادة وأن النصر بيد اللـه يعطيه لمن ينصره بحق وصدق، وهذه المخالفة والمعصية تماثل ما عليه بعض حملة الدعوة من الظن بأن ما يملكونه من منهاج سليم وتنظيم محكم وأفكار بالغة الصحة كفيل بنفسه بإيصالهم إلى الحكم دون اعتبار النصر هبة من اللـه سبحانه يهبه لمن يتكل عليه ويرجو النصر منه، فمن قال من حملة الدعوة إنهم قد ملكوا أسباب النصر، وإنهم هم الذين يصنعون النصر، فقد خالف وعصى وحُق للنصر أن يتأخر عنه، تماماً كما تأخر النصر عن جيش صحابة رسول اللـه صلى الله عليه وسلم لأنهم اغترّوا بكثرتهم وحسبوها كافية لتحقيق النصر.

وكمثال على الحالة الثانية – أي التقصير في اتباع الطرق والوسائل والأساليب الصحيحة المفضية إلى بلوغ الغاية – قوله سبحانه في سورة آل عمران: (ولقد صدقكم اللـه وعده إذ تَحُسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم واللـه ذو فضل على المؤمنين) فمخالفة بعض الرماة في معركة أحد أمرَ رسول اللـه صلى الله عليه وسلم في الثبات على رأس الجبل وعدم مغادرته مهما كانت الأسباب ونزولهم لجمع الغنائم اعتبر تقصيراً ومعصية في اتباع الوسائل والأساليب المؤدية إلى بلوغ الغاية حجبت عن المسلمين النصر، وهذا التقصير الذي حجب النصر يماثل تقصير بعض حملة
الدعوة في تنفيذ أوامر المسؤولين والقيام بالواجبات المطلوبة منهم من حيث ترتيب الأعمال ووضع الوسائل والأساليب المؤدية إلى قبول الناس لما يحملونه إليهم من أفكار وآراء وأحكام، فكل تقصير في تنفيذ مثل هذه الأوامر والتعليمات والواجبات التي يتطلبها حمل الدعوة إلى الناس، يعتبر مماثلاً لما حصل من قبل بعض الرماة في معركة أحد مما أدى إلى حجب النصر.

فحتى يكرمنا اللـه بنصره، ويعجّل لنا نصره، لا بد من توفير الشروط اللازمة لهذا النصر سواء منها ما يتعلق بالعبادات والطاعات الشرعية، وما يتعلق بالواجبات والتعليمات والأوامر الصادرة عن المسؤولين، ولا يقل أثر إحداهما عن أثر الأخرى، فحتى ينصرنا اللـه لا بد من أن ننصره، ولا ننصره إلا بالقيام بالعملين معاً .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *