العدد 360 -

السنة الواحدة والثلاثين – محرم 1438هـ – تشرين الأول 2016م

مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

مقتطفات من كتاب  التيسير  في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) ).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

يبين الله في هذه الآيات ما يلي:

  1. بعد أن ذكر الله سبحانه أمور الحج في الآية السابقة ذكر في هذه الآيات بعض أمور القتال، ثم أعاد الله سبحانه ذكر الحج بقوله ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) إلى آخر آيات الحج بعدها.

وقد قرن الله سبحانه في كثير من الآيات ذكر الحج وذكر الجهاد، فبعد ذكره سبحانه ( وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)   ) البقرة/آية154-157 ذكر سبحانه الحج والعمرة ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ     ) البقرة/آية158.

وبعد أن ذكر الله سبحانه آيات الحج في سورة الحج ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) ) الحج/آية26-37. بعد ذلك ذكر الله سبحانه آيات في القتال (  إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)

  أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) ) الحج/آية38-41.

وكأن المشقة الحاصلة في أداء مناسك الحج وبخاصة كلما ابتعد الحاج في مسكنه ببلده عن أماكن الحج، كأن هذه المشقة مع المشقة الواقعة في الجهاد تبين الحكمة من ذكر الحج والجهاد متتابعين في معظم الآيات التي ذكرت الحج.

وكأن تكفير السيئات بالحج المبرور والشهادة في سبيل الله تبين العلاقة المهمة بين الحج والجهاد.

حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته عائشة رضي الله عنها عن عدم فرض الجهاد على النساء بل على الرجال، وفي هذا مَزِيَّة للرجال قال صلى الله عليه وسلم: “إن عليكن جهادًا لا قتال فيه: حج إلى بيت الله الحرام[1].

ولما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم السنة العاشرة للهجرة(حجة الوداع) وبعد أن أكمل صلى الله عليه وسلم وبيّن للمسلمين مناسك الحج ورجع صلى الله عليه وسلم،كان من أوائل الأعمال التي قام بها في المدينة أن جهز جيش أسامة لقتال الروم أي كان الجهاد من أوائل أعماله صلى الله عليه وسلم لمّا رجع من الحج إلى المدينة.

وقد حج أبو بكر رصي الله عنه السنة الثانية عشرة للهجرة، ولما أكمل حجه ورجع إلى المدينة، كان من أوائل أعماله أن سيّر الجيوش لقتال الفرس والروم، ثم كانت معركة اليرموك التي توفي أبو بكر رصي الله عنه خلالها.

ثم حج خالد رصي الله عنه خلال معاركه في العراق، وبعد أن أكمل نسكه عاد فأكمل جهاده.

وحج عمر السنة الرابعة عشرة للهجرة وخلال حجه استنفر المسلمين لقتال الفرس في القادسية.

وهكذا كان يصنع بعض الخلفاء الأتقياء بعد الخلفاء الراشدين، فكان بعضهم يغزو عامًا ويحج عامًا وكأن الحج والجهاد فيهما تقابل وتواصل.

هذا هو الحج في كتاب الله والجهاد في كتاب الله وفي سنة رسول الله وفي سيرة الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من الخلفاء الصالحين، كانت زحوفهم إلى حجهم تتواصل مع زحف جيوشهم إلى قتال عدوهم، ثم (  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا   ) مريم/آية59 ففصلوا أحكام الإسلام عن بعضها فسمحوا، بقدرٍ ما، بالدعوة إلى العبادات ولكنهم اشترطوا الصمت المطبق عن الدعوة للخلافة والجهاد، ففصلوا الصلاة عن الخلافة، والذهاب للحج عن زحف الجيوش للقتال، بل بلغت بهم الجرأة على دين الله فقالوا بتعطيل الجهاد، وبالجهاد السلمي، وأخيرًا لم يستحيوا فألغوه في مؤتمراتهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون.

إنّ الإسلام كلّ لا يتجزأ، أحكامه آخذ بعضها برقاب بعض، لا تُفصل العبادات عن المعاملات، ولا الأخلاق والمطعومات والملبوسات عن الخلافة وبيعة الخليفة وتحريك جيوش المسلمين للقتال، ولا ينفصل حسن المعاملة مع الجار وبِرّ الوالدين عن السياسة الحربية والعلاقات الدولية.

هكذا في كتاب الله وسنة رسوله صلوات الله عليه وسلامه، وهكذا صنع وعمل الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون بإحسان، حشرنا الله معهم في جنات النعيم في الفردوس الأعلى ورضوان من الله أكبر  ( فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا   ) النساء/آية69.

  1. يأمر الله سبحانه أن نقاتل في سبيل الله الذين يقاتلوننا، وهم الذين عندهم القدرة على قتالنا من الكفار المحاربين دون الذين لا قدرة لهم على قتالنا كالنساء والأطفال والشيوخ وأحبارهم ورهبانهم، فإن قاتل هؤلاء قاتلناهم. أما في الحكم العام فنحن مأمورون بقتال الأعداء القادرين على القتال كما ذكرنا.

وينهانا الله سبحانه أن نعتدي في قتالنا فلا نقتل طفلًا أو شيخًا أو امرأةً، أو نتجاوز أوامر الله في القتال كالغدر والغلول والمثلة أو قطع الشجر إلا ما اقتضته السياسة الحربية بنص شرعي.

فقد كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش الذي يرسله للقتال: “اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلُّوا ولا تغدروا ولا تُمَثِّلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع[2].

  1. ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) أي قاتلوا في سبيل الله المقاتلين من الكفار وليس فقط الذين يبدءونكم بالقتال، بل الذين عندهم المقدرة على قتالكم لأن الجهاد هو مبادأة الكفار بالقتال وليس حربًا دفاعية، بمعنى أن لا نقاتلهم إلا إذا قاتلونا.

فإن آيات الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبين أن الجهاد هو مبادأة الكفار بالقتال لنشر الإسلام وفتح البلاد وإعلاء كلمة الله.

  • ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) التوبة/آية123.

  • ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) البقرة/آية193.

  • ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة/آية29.

وغيرها كثير… وكلّها تدلّ على مبادأة الكفار بالقتال لنشر الإسلام.

وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

  • اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر …[3].

  • والحديث “ادعهم إلى ثلاث خصال فأيهن أجابوك فاقبل منهم…[4].

والفتح الذي تمّ في عهد رسول الله وعهد الخلفاء الراشدين شاهد على ذلك، وكله مبادأة للكفار بالقتال لإعلاء كلمة الله.

ويكون معنى الآية ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ):

قاتلوا في سبيل الله مُقاتِلةَ الكفار أي المقاتلين منهم ولا تعتدوا فلا تقتلوا الذين لا يقاتلونكم من النساء والولدان والشيوخ والأحبار والرهبان الذين في صوامعهم فإن قاتلوا فعندها يُقتَلون، فقد مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة فقال صلى الله عليه وسلم: “ما كانت هذه لتقاتل[5] وأنكر قتلها، ومفهوم هذا الحديث أنها لو قاتلتْ تقتل.

ومعنى ( وَلَا تَعْتَدُوا ) أي لا تتجاوزوا أحكام الشرع في قتال العدو، فلا تفعلوا ما حرّم فعله في القتال، وليس معناه أن لا تبدءوا عدوكم بالقتال بحال من الأحوال.

ولذلك فإن قول الذين قالوا إن الآية تعني أنه في أول الإسلام كان القتال فقط إذا اعتُدِيَ على المسلمين، ثم نسخت فيما بعد بالآيات الدالة على مبادأة القتال. هذا القول مرجوح لأن النسخ لا يُعمد إليه إلا إذا وُجد التعارض من كلّ وجه، وهنا لا تعارض؛ فالآية لا تعني أن لا نبدأ الكفار بالقتال بل أن لا نعتدي بتجاوز الحدّ في قتالهم، فلا نزيد عما أجازه الشرع في قتالهم كما بينا، وليس معنى ( وَلَا تَعْتَدُوا )أي لا تبدءوا القتال بل أن لا تتجاوزوا حدود الشرع في قتالهم كالتمثيل وقتل الأطفال… إلخ، ولذلك فلا تعارض بين آيات القتال وبالتالي لا نسخ.

  1. القتال في سبيل الله هو القتال لإعلاء كلمة الله وليس لمصلحة أو سمعة أو رياء، يقول صلوات الله وسلامه عليه وقد سئل عن الرجل يقاتل سمعة ورياء… فقال: “سئل النبي عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[6].

فالذي يقاتل رياء أو وطنية مجردة أو مصلحة دنيوية فليس في سبيل الله، ولذلك فالنية تعتبر في الجهاد وهو كالعبادات، النية شرط صحة فيه: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) آل عمران/آية142.

  1. يبين الله سبحانه في كثير من آياته وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلمأمور القتال والسياسة الحربية، وفي الآية التالية ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ) يبين الله سبحانه أمرين من أمور القتال:

أ – إنه يصح قتال الكفار المحاربين في كل مكان إلا مكانًا واحدًا استثنته الآية الكريمة وهو ( ﭠ  ﭡ  ﭢ     ) بشرط أن لا يقاتلونا فيه فإن قاتلونا فيه قاتلناهم، كما هو مبين في ما بعد.

( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) أي في كل مكان وجدتموهم فيه لأن (حيث) ظرف للمكان.

ب – إنه يجب إخراج الكفار المحاربين من كل مكان أخرجوا المسلمين منه، ولا يصح إقرارهم على البقاء فيه، وكل اتفاق معهم لإقرارهم يعتبر باطلًا ( وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ).

( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) أي حيث وجدتموهم. والثقف: الوجود على وجه الأخذ والغلبة.

( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) أصل ( وَالْفِتْنَةُ  ) في لغة العرب عَرْضُ الذهبِ على النار لتنقيته من الغش، ثم استُعمِل في معنى الابتلاء للمؤمنين بتعذيبهم، ومحاولة صرفهم عن دينهم، وصدهم عن سبيل الله، ونشر الشرك بينهم، وهي هنا كذلك فإنها بيان من الله للمؤمنين أن لا يتقاعسوا عن قتال الكفار، فهم قد حاولوا فتنتهم عن دينهم بشتى أنواع العذاب، والفتنة أشدّ من القتل، فكأنهم قتلوا المؤمنين مرارًا بمحاولة فتنتهم تلك، فلينشط المؤمنون في قتالهم دون هوادة.

  1. ويبين الله للمؤمنين أن لا يقاتلوا الكفار عند المسجد الحرام إلا إن قاتلوهم فيه ( وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ). قرأ حمزة والكسائي: (ولا تقتلوهم… حتى يقتلوكم… فإن قتلوكم…) أي دون ألف. وقرأ باقي القراء السبعة بالألف.

أما قراءة (ولا تقتلوهم) فهي نهي عن القتل وعن القتال، لأن القتل لا يتم دون قتال. والقراءة الأخرى (ولا تقاتلوهم) فهي نهي عن المقاتلة سواء أحدث القتل أم لم يحدث.

فالقراءة الأولى لها معنيان (القتال، والقتل). والقراءة الثانية لها معنىً محكم واحد (القتال)، والقراءتان متواترتان، والمحكم قاضٍ على غير المحكم، فيكون النهي عن القتال سواء أحدث قتل أم لم يحدث. أي أن مجرد القتال عند المسجد الحرام (حرام)، إلا ان يبدأ الكفار بقتالنا فنقاتلهم.

أما ما حدث من حوادث قليلة من القتال عند الفتح، وقتل بعض من أهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمهم لأنهم كانوا يؤذون الإسلام والمسلمين، ولم يخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم ويقتلهم خارج مكة، فذلك حكم خاص بساعة من نهار أُحِلَّتْ للرسول صلى الله عليه وسلم بنص الحديث الذي أخرجه البخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

أي أن النهي لا يشمل قتالنا للكفار إن هم بدءوا قتال المؤمنين في الحرم، فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن الله غفور رحيم ( فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).

  1. ثم يأمر الله سبحانه المسلمين أن يقاتلوا الكفار ليُقضى على ما يسببونه من فتنة للمسلمين: الشرك والصدّ عن سبيل الله وتعذيب المؤمنين ومحاولة صرفهم عن دينهم، وكذلك حتى يكون الدين لله خالصًا. فإن انتهى الكفار عن شركهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الله فليوقف المسلمون القتل عنهم، لأن القتل لا يكون إلا للظالمين، وما داموا قد تركوا الكفر ودخلوا في الإسلام فلم يعودوا ظالمين.

( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أي حتى ينتهي الشرك والصدّ عن سبيل الله وتعذيب المؤمنين لصرفهم عن دينهم.

( يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) أي يصبح الدين خالصًا لله ليس فيه شرك، وهذا تُشعر به (اللامُ) الداخلةُ على (الله) سبحانه وهي تفيد الملك الخالص. ولم يذكر هنا ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) الأنفال/آية39 كما في الأنفال، فتلك للكفار عمومًا ( ) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ   ) الأنفال/آية38-39… لأن آية البقرة هذه في مشركي العرب أي في جزء من الكفار، وآية الأنفال في الكفار عامة فناسب لفظ (كلُّه) في آية الأنفال ( الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) على غير وضعه في الآية هنا ( الدِّينُ لِلَّهِ ﭾ  ).

( فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) عقوبة الظالمين هي ليست في الحقيقة عدوانًا ولكنها استعملت هنا استعمالًا مجازيًا على نحو قوله تعالى ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) الشورى/آية40 وقوله سبحانه ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) البقرة/آية194 أي تسمية عقوبة السيئة بالسيئة وعقوبة المعتدي بالاعتداء.

[1]           البخاري: 1423، 1728، أحمد: 6/165، ابن ماجه: 2892

[2]               أحمد: 4/240، 5/352

[3]               أحمد: 4/240، 5/352

[4]               مسلم: 3261

[5]               أبو داوود: 2295، أحمد: 4/178، 3/488

[6]               البخاري: 120، 2599، مسلم: 3525

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *