تفـسـير سـورة العـصـر (هي مكية)
2016/10/19م
المقالات
4,393 زيارة
تفـسـير سـورة العـصـر (هي مكية)
قال تعـالـى: (والعـصـر * إن الإنسـان لفـي خـسـر * إلا الذيـن آمـنـوا وعمـلـوا الصـالـحـات وتواصــوْا بالـحــقِّ وتواصــوْا بالـصــبـرِ)
أولاً: الدلالة الإجمالية للسورة
(والعصر): أقسم سبحانه بالزمان مطلقاً، (إن الإنسان لفي خسر): أجاب عن قسمه بأن عموم الإنسان في حالة شقاء بسبب الإعراض عن الإسلام، إيماناً وعملاً.
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) : استثنى اللـه تعالى من جنس الإنسان عن الخسران، الفئة الرابحة، وهي عموم من يجمع بين الإيمان والعمل الصالح عن طريق الالتزام بمبدأ الإسلام.
(وتواصوْا بالحق): يوصي بعضهم بعضاً بالإسلام. (وتواصوْا بالصبر): أي على المصائب وعلى الالتزام برسالة الإسلام.
ثانياً: دلالات الألفاظ
1- العصر: الدهر، والدهر هو الزمان، لأن اللفظ عام، والأصل حمله على العموم.
2- الإنسان: الكائن الحي العاقل من جنس الإنسان، لأن اللفظ عام، وتخصيصه بالكافر أو بجماعة من الكفار تخصيص من غير مخصص، وقرينة الاستثناء تؤكد العموم.
3- خسر: أصل الخسر في اللغة النقصان وذهاب رأس المال، والمعنى من الآية الشقاء في الدنيا والهلاك في الآخرة بسبب الإعراض عن دين اللـه.
4- الإيمان: التصديق، والمعنى في الآية هو المعنى الشرعي: وهو التصديق الجازم المطابق للواقع عن دليل.
5- العمل الصالح: العمل المسير بالأحكام الشرعية من أجل الفوز بمرضاة اللـه.
6- الحق: أصل الحق في اللغة الثابت اللازم، وهو نقيض الباطل، ويقال حقيقة الشيء: ذاته الثابتة اللازمة، والحق شرعاً وهو المقصود في الآية: الإسلام، والقرينة الشرعية في قوله تعالى: (آمنوا وعملوا الصالحات) تؤكد المعنى الشرعي، لأن الأصل حمل اللفظ على المعنى الشرعي.
7- الصبر: لغة حبس النفس عن الجزع، وشرعاً وهو المعتبر في الآية: حمل النفس على الرضى بقضاء اللـه في المصائب والبلايا، وحملها على الالتزام بالإسلام والانصهار به.
ثالثاً: الدلالة التفصيلية
1- أقسم سبحانه بالزمان، لما فيه من دلالة على وجوده، فالزمان هو مقياس لتغير الأشياء والحوادث، فالتفكير بها مقروناً بالزمان، يدل دلالة قاطعة على أنها محدودة، أي: مخلوقة من قبل الخالق الأزلي، ودلالة التركيب وإن كانت تفيد الإخبار عن قسم اللـه، ولكنها تستلزم الإنشاء، أي: إنشاء حكم شرعي، وهو وجوب التفكير بالزمان وما يتصل به من أشياء وحوادث متغيرة – كالحياة والموت – وتعاقب الليل والنهار، وحركة الكواكب بهدف الوصول إلى وجود اللـه، والإيمان به، والخضوع إليه.
أما بالنسبة لقول الرسول عليه السلام: «لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو اللـه».
فالمعنى: هو تحريم سب فاعل الدهر وما يتعلق به من أشياء وحوادث، لأن الفاعل هو، وتجدر الإشارة ههنا إلى أن هذا المعنى قد فهم من قرينة الحال، وهي أن العرب في الجاهلية، كانوا يسندون المصائب للدهر على سبيل الحقيقة لا المجاز، فقيل لهم لا تسبوا فاعل ذلك بكم فإن ذلك هو اللـه، ويؤكد هذا الفهم قوله سبحانه: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) فقد أسندوا هلاكهم للدهر، مع أن الحياة والموت بيد اللـه سبحانه، لذلك نفى اللـه عنهم العلم، وأوضح أنهم واهمون في زعمهم هذا. وعليه فالدهر هو عموم الزمان بوصفه مقياساً لتغير الأشياء والحوادث.
2- أكد سبحانه جواب قسمه بحرفي التوكيد «إن»، و«اللام» ليؤكد حقيقة ما أخبر عنه، وما يوجبه من أمر للاندفاع نحو الاستقامة على دين اللـه، فهماً والتزاماً، دعوة وصبراً. ودلالة التركيب وإن كانت خبراً يصحح مفهوم الربح والخسارة، ولكنها تستلزم إنشاء حكم شرعي، وهو تجسيد هذا المفهوم في الفكر والعمل والغاية. فمفهوم الربح والخسارة في الإسلام لا يتصل بالذهب والفضة زيادة ونقصاناً، ولا يتعلق بالجماعات والدول والأشخاص والحرص عليهم على حساب الإسلام، وإنما يتعلق بالإسلام وحده التزاماً أو انحرافاً، فالربح هو التمسك والتقيد بالدين، والخسارة هي الانحراف عنه كلياً أو جزئياً، فالإسلام قبل كل شيء، وعليه يعتمد كل أمر، فلا عذر للحيد عنه.
3- عَدَلَ سبحانه عن الغيبة بقوله: (والعصر* إن الإنسان لفي خسر) إلى الخطاب فقال: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وهذا العدول الذي يسمى الالتفات، ينبئ عن بلاغة عظيمة في كلام اللـه. والإيمان في الإسلام يوجب الإيمان بكل ما ورد الإيمان به صراحة أو دلالة، من أمور العقيدة التي ثبتت بدليل قطعي، كالإيمان باللـه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر. وهذا الإيمان بالنسبة للمؤمن يعني التصديق الجازم الذي لا يتطرق إليه ريب أو ظن بكل أمر من أمور العقيدة الإسلامية، وأن يكون هذا التصديق الجازم في الذهن والحس مطابقاً في واقعه لما ورد الإيمان به في القرآن والسنة المتواترة، فمن يزعم أن الشمس كوكب ثابت مخطئ، لأن هذا الزعم يتناقض مع قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم). وعليه فالإيمان شرعاً هو التصديق الجازم المطابق للواقع عن دليل، فلا بد من توفر هذا في عقل المسلم وقلبه حين يعتقد بأمور العقيدة الإسلامية حتى يتصف بالإيمان. والعمل الصالح من وجهة نظر الإسلام هو العمل المقيد بأحكام الإسلام سواء أحكام التكليف أم الوضع، فوجوب التواصي بالحق وبالصبر، حكم تكليفي، يجب القيام به، وهذا الحكم له حكم من أحكام الوضع، وهو شرط في صحته، وهذا الحكم يتعلق بالنية، أي: أن يكون القصد من القيام بالواجب وجه اللـه، وهذا الحكم شرط في صحة حكم التكليف فلا بد من تحقيقه حتى يوصف المسلم الذي يقوم بالتواصي بالحق وبالصبر، أنه عمل عملاً صالحاً، وعليه فلا يكفي المسلم معرفة أحكام التكليف المتعلقة بأعماله، بل لا بد أن يعرف أيضاً أحكام الوضع حتى يكون قيامه بالعمل وفق الحكم الشرعي، وحتى يتصف عمله بالصلاح.
4- التواصي بالحق عمل من الأعمال الصالحة، أفرده اللـه سبحانه بالذكر لعلو قدره، ورفعة منزلته، فهو منبع الخير، وصِمام الأمان للاستقامة على دين اللـه في الأمة وفي الدولة الإسلامية، ولا يكون هذا الأمر بالصورة المطلوبة، وبالشكل الذي يحقق الغاية، إلا عن طريق الالتزام بالحزب الإسلامي الصحيح القائم على فكرة الإسلام بالتفصيل، ويحمل الدعوة الإسلامية لاستئناف الحياة الإسلامية، ويحملها إلى العالم.
5- التواصي بالصبر من أعمال التواصي بالحق، وهو لازم لحامل الدعوة لزوم الماء والهواء للحياة، لأن الصبر يعني الثبات على الإسلام ودعوته مهما كانت المصائب والعواقب والصعوبات، وانعدام الصبر يعني الانحراف والهلاك، فاللـه عز وجل قد أفرده بالذكر لبيان حيويته، وعظم ثوابه. والنصوص في هذا الأمر كثيرة. إن حياة الإنسان كلمح البصر ولكنها تحتاج إلى صبر لا حد له، وهذا يتطلب جعل الصبر، سجية من السجايا، وصفة راسخة في أعماق النفس، فإذا كان ثواب الصبر بغير حساب، وهو لا يترسخ إلا بحمل الدعوة الإسلامية، فإن ثواب حمل الدعوة الإسلامية عن طريق الحزب السياسي الصحيح يفوق ثواب الصبر بكثير، وعليه فالربح الكامل – ضمن حدود الإنسان – لا يتحقق للمسلم إلا من خلال الالتزام بالجماعة الإسلامية الصحيحة، التي تتفهم الإسلام وتجسده في أفرادها، وتريد تجسيده في الحكم، وتكون قوّامة على الأمة الإسلامية في أفكارها ومشاعرها وعلى الدولة في تطبيقها للإسلام عن طريق محاسبة الحاكم، وتحمل دعوة الإسلام إلى العالم بالقيادة الفكرية.
2016-10-19