العدد 125 -

السنة الحادية عشرة – جمادى الآخرة 1418 – تشرين الأول 1997م

سياسة الاحتواء (5)

سياسة الاحتواء  (5)

أميركا تستخدم سياسة الاحتواء

بقلم: سعيد عبد الرحيم

إن الأفكار التي تطرحها الدول الكبرى لاحتواء الأخطار المحدقة بمصالحها المبدئية وغير المبدئية متعددة ومتجددة منها: فكرة الديمقراطية، والحريات، النظام العالمي الجديد، مكافحة الإرهاب، الاقتصاد الحر، التعددية، الحوار أو التعايش، المعارضة، الرأي والرأي الآخر، حقوق الإنسان، حفظ السلام والأمن، الشراكة من أجل السلام، المشاركة الإقليمية، تطوير هيئة الأمم، الاستقلال، التحرر، حق تقرير المصير، الحياد، الوصاية والانتداب.

حقيقة هذه الأفكار أن منها ما يتصل بأفكارها المبدئية، ومنها ما تتخذه الدول الكبرى كشعارات وذرائع للتدخل في شؤون الدول الصغرى، ودرء الأخطار عن مصالحها الاستعمارية، وجميع هذه الأفكار يراد منها تكريس الاستعمار والهيمنة على العالم، واستغلال كنوزه وثرواته البرية والبحرية، وكذلك طاقـات شـعوبه لخدمة المصالح الرأسمالية، وتبديد الأخطار المحدقة به، والحيلولة دون انعتاق شعوب العالم من الاستعمار الجديد، وذلك عن طريق السـيطرة على دوله من الداخل بشكل يضفي الشرعية على هذه السيطرة، فهي أفكار خبيثة ذات دوافع مادية بحتة لا تعرف إلا الاستغلال هدفاً.

إن الواقع الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أضحى واقعاً أمريكياً، فكل ما تريده أمريكا دولياً يتم جبراً عن الدول على المستوى الدولي(1)، وخصوصاً أن أمريكا تسعى جاهدة لتهيئة الظروف الدولية المناسبة لتحقيق ما تريد، فيصبح ما تصبو إليه مطلباً دولياً، كفكرة الإبقاء على الحلف الأطلسي وتوسيعه ولا يستبعد العمل على تطويره وفق ما تريد أمريكا، وفكرة تطوير هيئة الأمم، وفرض العقوبات الدولية على الدول، والعمل على احتواء خطر الاتحاد الأوروبي ومعاهدة ماستريخت، ونحو ذلك.

والواقع الدولي يختلف كل الاختلاف عن الوقائع الإقليمية والمحلية، وبالتالي فإن مسرحه يختلف ويتميز عن المسارح الإقليمية والمحلية، فهو يتعلق بالدول الكبرى وبالوقائع التي تتصل بها وبالمسرح المتعلق بها، بخلاف الوقائع الإقليمية والمحلية فإنها موضع الاستغلال والاستعمار من قبل الدول الكبرى وبالتالي لا تتعلق بالصراع والاحتواء الدولي أو بالعلاقات الدولية وإنما تتعلق بالصراع والتنافس الاستعماري بين الدول الكبرى للسيطرة عليها، وبما أن الواقع المحسوس أن أمريكا هي الدولة الأولى بلا مصارع دولي، فهي إذن القوة الدولية الوحيدة المؤثرة في المسائل والقضايا والقرارات الدولية، والمعارضة الدولية في مجلس الأمن وخارجه، هي معارضة عرضية، لا تؤثر في نهاية الأمر على ما تريده أمريكا، فرأيها هو الرأي الدولي، وآراء الدول الأخرى التي كانت كبرى يمثل الرأي الآخر الذي لا قيمة له دولياً، لأن الرأي الأمريكي هو النافذ.

والتـدقـيـق فـي هـذا الواقـع ومـا يكتنفه من ظروف وأوضاع دولية يري أنه مهدد بخطرين دوليين متوقعين:

الأول: خطر بروز قوة دولية أخرى تنافس أمريكا وتصارعها دولياً، بل قد تعمد على زحزحتها عن مركزها الدولي، وهذا الخطر مصدره الدول التي كانت كبرى في الماضي.

الثاني: خطر زج أمريكا بحرب عالمية أو إقليمية تضعف من قوتها الدولية، وبالتالي تفقدها الهيبة والمكانة الدولية وتزعزع مركزها الدولي، وهذا الخطر مصدره بريطانيا.

ولاحتواء هذه الأخطار الدولية المتوقعة، عمدت أمريكا إلى رسم سياساتها الدولية لاحتواء هذه الأخطار، ولتكريس الزعامة الأمريكية ليس فقط دولياً بل أيضاً إقليمياً ومحلياً، وهذه السياسات وغيرها قد رسمت وفق الأسس والحقائق والقواعد السياسية الأمريكية. فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز وثيقة واضحة للبنتاغون في 8 آذار عام 1992: «إن وزارة الدافع تجزم بأن الرسالة السياسية والعسكرية للولايات المتحدة، في فترة ما بعد الحرب البادرة، هي عدم السماح بقيام قوة عظمى في أوروبا الغربية، وفي آسيا، أو على أراضي الدول الأوروبية المشتركة. وستكون مهمة الولايات المتحدة هي إقناع المنافسين المحتملين بأنه لا داعي للحلم بلعب دور أكبر أهمية ولا تبني موقف أكثر عدائية، وبالعدول عن تحدي تفوقنا أو البحث عن قلب النظام السياسي والاقتصادي الموجود». وورد في صحيفة هيرالد تربيون في 9 آذار عام 1992: «نحن يجب أن نبحث عن إعاقة ظهور أنظمة أمنية أوروبية بالدرجة الأولى تعمل على الحلول محل الحلف الأطلسي».

وقد نجحت أمريكا بذلك فعمدت إلى احتواء خطر معاهدة ماستريخت والاتحاد الأوروبي، فقد ورد في المعاهدة النصوص الآتية: «يتحرك الاتحاد الأوروبي طبقاً للقرارات المتبناة في حلف الأطلسي» وورد أن هذه الاتفاقية «هو تطوير الاتحاد الأوروبي الغربي، باعتباره وسيلة لتقوية الثقل الأوروبي في الحلف الأطلسي». ومعاهدة ماستريخت تعني تجمعاً إقليمياً لا دولياً على أساس اقتصاد السوق الحرة التي لا حدود لها، مما سوف يؤدي إلى فرض الهيمنة الاقتصادية والصناعية والتجارية الأمريكية على أوروبا، فالاقتصاد الإقليمي لا يستطيع منافسة الاقتصاد الدولي، أي: الاقتصاد الأمريكي، فأمريكا عن طريق شركاتها الضخمة في أوروبا ستعمل على السـيطرة عليها من الداخل، ونقل كنوز وثروات أوروبا إلى أمريكا.

ومن السياسات الأمريكية لاحتواء الأخطار الدولية، سياسة دفع أوروبا واليابان والصين وروسيا للسير في ترهات الاقتصاد، والمنافسة الاقتصادية غير المتكافئة، أي: بين اقتصاد دولي واقتصاد إقليمي، فأمريكا تدرك حقيقة القوة العالمية والقوة الذاتية الدولية، كما أنها تدرك أن اندفاع هذه الدول نحو الاقتصاد وخصوصاً الاقتصاد الحر، سيجعل من هذه الدول وشعوبها خدماً لأمريكا في بلادهم، وان بلادهم ستصبح تحت الهيمنة الأمريكية على المدى البعيد، وخاصة إذا تبنت هذه الدول سياسة خصخصة الاقتصاد، وسياسة فتح اقتصادها وأسواقها أمام الاقتصاد الأمريكي والشركات والاستثمارات الأمريكية، فأمريكا ستبقى تطبع الأوراق التي تسمى دولارات، وتنهب عن طريقها كنوز وثروات هذه الدول، وتستورد المواد الخام من دول العالم، وتستهلك ما يقومون بإنتاجه من الأمور الاستهلاكية، وتسيطر على اقتصاد الدول من الداخل، ولا تتأثر أمريكا من ناحية فعلية بالزعم بأن هذه الدول عملاقة من ناحية اقتصادية وأنها تنافس أمريكا اقتصادياً، وأن بعضها كان السبب في إيجاد عجز في الميزان التجاري لصالحها وضد مصلحة الولايات المتحدة، ولا ضير لدى أمريكا من الزعم بوجود عجز في الميزانية الأمريكية، وأنها غير قادرة على دفع التزاماتها تجاه هيئة الأمم -من أجل توفير الظروف لتطويرها لخدمة المصالح الأمريكية وحمايتها- وأنها غير قادرة على تحمل الأعباء المالية للحلف الأطلسي لإبراز وَهْمٍ عالمي أنها تنحدر اقتصادياً، إن هذه الخزعبلات وغيرها تبرزها أمريكا وتستغلها بهدف دفع هذه الدول إلى تبني سياساتها القاضية بالسيطرة على العالم ولتبقى هي القوة الدولية الوحيدة بلا منازع. فسياسة العولمة، وخصخصة الاقتصاد، وتكوين التكتلات الاقتصادية الإقليمية ذات الأسواق المفتوحة، ونحوها، ما هي إلا سياسات تدمر هذه الدول من حصنها الداخلي، عن طريق الشركات والاستثمارات الأمريكية، وتجعل لأمريكا السيطرة على هذه الدول من الداخل والتحكم بها، والعمل على تفتيت الدول القابلة لذلك وفق حقائق التاريخ إن أضحت هذه الدول تشكل خطراً على مصالحها وأهدافها كالصين وروسيا وأوروبا. وحقيقة الأمر أن الاقتصاد الأمريكي سيبقى القوة الاقتصادية الدولية بلا منافس ما دام الدولار عملة دولية، وما دامت أمريكا تستعمر آسيا وإفريقيا وسائرة في استعمار روسيا والصين وأوروبا -لتذيق أوروبا من الكأس الذي تجرعته في الماضي بسببها- وهي تصطنع أجواء الجفاء مع هذه الدول، وتبرز الأزمات، وتفرض العقوبات، وتثير المشاكل، لتتمكن من الهيمنة عليها من الداخل، ولجعلها تدور في حلقات مفرغة، وتنشغل بدوامة الاقتصاد وترهاته. وهي حين عمدت إلى تشكيل مجلس اقتصادي قومي إنما أرادت أحكام سيطرتها الاقتصادية على العالم، ودفع الدول نحو السراب لتخدعهم وتحول دون انعتاقهم من سيطرتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبالتالي تتمكن من درء خطر بروز قوة دولية منافسة لها.

ومن السياسات التي رسمتها أمريكا لاحتواء هذه الأخطار، سياسة توسيع الحلف الأطلسي، وسياسة تطوير هيئة الأمم.

أما سياسة توسيع الحلف فإن أمريكا تريد منها احتواء خطر القوة النووية لدى الدول النووية في الاتحاد السوفياتي السابق، وفرض سيطرتها على أوروبا، والحيلولة دون تشكيلها قوة أوروبية منافسة لأمريكا، عن طريق التحكم بالقنابل الموقوتة داخل أوروبا والقابلة للانفجار بسبب القومية والوطنية والخلافات الحدودية، والعداوات القديمة، وعن طريق تكثير سواد عملائها من الحكام في أوروبا، ودعم حركات اليمين فيها، وهي قد أشعلت الحرب في يوغسلافيا السابقة كرسالة لأوروبا لكي لا تفكر بلعب دور أكبر مما تريد أمريكا، وهددت أوروبا بإشعال الحرائق فيها إن تجاوزت الخطوط الحمراء التي رسمتها أمريكا لأوروبا. ومع أن سياسة الإبقاء على الحلف وتوسيعه، هي سياسة تشكل خطراً حقيقياً دولياً على أمريكا على المدى البعيد، وذلك لأن حقائق التاريخ تؤكد أن سياسة الأحلاف، هي سياسة حروب، لأن الدول التي كانت كبرى ستعمد إلى بناء قوتها سراً، وسوف تشكل أحلافاً سرية بينها لتتقوى بها. إلا أن أمريكا تريد من الحلف الأطلسي أن يستمر كما كان عليه بعد عام 1961، حلفاً سياسياً لأغراض سياسية، لا حلفاً عسكرياً يتعلق بتوازن القوى الدولية. وهي تسعى لتشكيل موازين قوى إقليمية داخل أوروبا، عن طريق تقوية ألمانيا بالشكل والحجم الذي لا يشكل خطراً على مصالحها في أوروبا، بل بالشكل والحجم الخادم لها، لإثارة الخوف لدى فرنسا. ومع ذلك فإن سياسة أمريكا في إيجاد توازن للقوى علـى المسـتـوى الإقـلـيـمـي داخل أوروبا لا يتصل بالحلف الأطلسي، وإنما يتصل بالأمن الأوروبي الخادم لأمريكا ومصالحها، وهي تتخذ من الحلف أداة للضـغـط على أوروبا لتـنـفـيذ سياساتها ومنها سياسة التوازن الإقليمي للقوى داخل أوروبا.

ولاحتواء خطر زج أمريكا بحرب عالمية أو إقليمية عمدت أمريكا إلى تبني سياسة توازن القوى على المستوى الإقليمي في المسارح الإقليمية في العالم. وأحجمت عن ضم إسرائيل للحلف، وعن مسؤولية الدفاع عنها عسكرياً، لكي لا تزجها بحرب عن طريق استخدام بريطانيا لها، كما أنها غضت الطرْف عن (بل شجعت) خطة فرنسا وألمانيا المتعلقة بتشكيل فيلق عسكري خارج نطاق الحلف، ليكون هذا الفيلق في المقدمة للدفاع عن أوروبا حال حصول تهديد لها. ولا يستبعد أن تتخلى أمريكا عن مسؤولية الدفاع عن اليابان، وتعمد إلى تحويلها إلى مسؤولية يابانية دفاعية بحتة لا تشكل خطراً على مصالحها بل أداة لخدمة هذه المصالح في الشرق الأقصى وفق قاعدة توازن القوى.

وهي تعمل على تقليص قواتها البرية في العالم، وتركز على القوات الجوية والبحرية. ومع كل هذه الإجراءات وغيرها فإن الخطر على أمريكا بأن تزج في مثل هذه الحروب ما زال ماثلاً، ما دام لبريطانيا نفوذ وعملاء في المسارح الإقليمية والمحلية، وما دامت بريطانيا تثير فرنسا بالخفاء والعلن، وتجد آذاناً صاغية توسوس لها لتشكيل قوة تنافس أمريكا ولو عن طريق سياسة الأحلاف المؤدية إلى الحروب غالباً، وهي البارعة في فن تكتيل القوى لتسخيرها من أجل عظمتها.

فالسياسات الأمريكية وإن كانت تتسم بالعمق إلا أنها لا تنطلي على اليابان والصين وروسيا، ولا تنطلي على من كان لهم باع طويل في استعمار الشعوب ومص دمائهم كالإنجليز والفرنسيين والألمان. وإنجلترا لن تعدم الوسيلة لكشف خطط أمريكا لهذه الدول والعمل على تكتيلها بالتعاون مع فرنسا وألمانيا.

أما سياسة تطوير هيئة الأمم فهي سياسة مرسومة قبل عقد من الزمن كسياسة توسيع الحلف، إلا أن أمريكا لم تباشر السير بها حتى هيأت الظروف الدولية والإقليمية لجعلها مطلباً عالمياً، لكي تجبر الدول الأخرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن على عدم معارضة هذه الفكرة، وهذه السياسة تهدف إلى إضعاف مركز الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن عن طريق ضم دول صغرى إلى عضوية المجلس، على أن تكون من الدول التابعة لها أو التي تدور في فلكها كاليابان وألمانيا والبرازيل أو المكسيك، ولا يستبعد أن يطرأ تغيير أو تطوير (حسب الزعم الأمريكي) على ما يسمى بحق النقض الفيتو، وذلك عن طريق إلغاء هذا الحق، وجعل القرارات الدولية تصدر بالأغلبية، فتضمن تنفيذ قراراتها بدون معارضة على المدى البعيد. وهذا إن حصل سوف يعني جعل الهيئة على المدى البعيد هيئة أمريكية بثوب دولي يضفي الشرعية على سيطرتها الدولية، وبذلك تتمكن أمريكا من احتواء خطر بروز قوة دولية منافسة لأمريكا على المدى البعيد، وتكرس سيطرتها وقوتها الدولية وتضفي الشرعية الدولية عليها .

(يتبع)

(1) «الوعـي»: هذا ليس دقيقاً، فأميركا عجزت عن فرض قانون «داماتو» الذي يمنع العقود الكبيرة مع إيران وليبيا. وأميركا عاجزة عن إخضاع حكام إسرائيل. وأميركا عاجزة عن الهيمنة على دول الاتحاد الأوروبي، وعاجزة عن أخذ تركيا والخليج…الخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *