العدد 125 -

السنة الحادية عشرة – جمادى الآخرة 1418 – تشرين الأول 1997م

سـعـة الشـريـعـة وقـدرتـهـا وليـس التطـور والمـرونـة

سـعـة الشـريـعـة وقـدرتـهـا

وليـس التطـور والمـرونـة

يقول اللـه تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) يبين اللـه تعالى في هذه الآية الكريمة أن الإسلام هو الدين الذي رضيه اللـه لعباده، وهو الشريعة الكاملة والمنهج الصحيح الذي يعالج مشكلات البشر وما عدا ذلك من فهم فإنه يناقض الكمال الذي نصت عليه الآية ويتعارض مع رضا اللـه بالإسلام كدين والذي وضحته الآية الكريمة وضوحاً تاماً.

فالشريعة الإسلامية أحاطت بجميع أفعال الإنسان إحاطة تامة شاملة، فلم يقع للإنسان شيء في الماضي ولا يعترض الإنسان شيء في الحاضر ولا يحدث للإنسان شيء في المستقبل إلا وله حكم في الشريعة الإسلامية، قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على محجّة بيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك».

والشريعة الإسلامية عندما تعالج مشاكل الإنسان في جميع الأزمنة والأمكنة بأحكامها فهي إنما تعالج مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً ليس غير، ذلك أن الإسلام هو دين اللـه الذي أنزله لكل البشر وهو المنهج القادر على حل مشكلات كل البشر، مهما اختلفت ألوانهم وبيئاتهم وأجناسهم وأماكن عيشهم وأزمنتهم.

ذلك أن الإنسان هو الإنسان في كل مكان وزمان، في غرائزه وحاجاته، فكذلك أحكام معالجاته لا تتغير، أما ما يتجدد من مطالب الإنسان المتعددة فقد جاءت الشريعة بأحكام عامة تتسع لما يتجدد من المطالب، لذا كان ذلك سبباً في نمو الفقه وازدهاره.

فالإجارة عندما ترد في قوله تعالى: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فإن هذه الآية يستنبط منها حكم شرعي وهو أن المطلقة تستحق أجرة الرضاع، ويستنبط منها أن الإجارة عقد على المنفعة بعوض، وهي تنطبق على إجارة العامل أو الفلاح أو الموظف كما تنطبق على إجارة السيارة والطائرة وهكذا.

والآية عندما تقول (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو اللـه وعدوكم) فإن ما يستنبط من هذه الآية هو وجوب الإعداد لإرهاب أعداء اللـه، وكما كان الإعـداد فـي الماضي بالرماح والسهام والسيوف فإنه يجب أن يكون الآن بمصانع الأسلحة من طـائرات ودبابات وصواريخ وبوارج ونووية وإلكترونية وأدوات الحرب الحديثة وهكذا.

فهذا الاتساع بالنصوص لاستنباط أحكام متعددة لمشاكل متعددة، هو الذي جعل الشريعة الإسلامية وافية بمعالجة مشاكل الحياة في كل زمان ومكان وفي كل أمة وجيل.

وسعة الشريعة الإسلامية لكل مشكلات الإنسان الماضية أو الحاضرة أو المتجددة لا تعني أن الشريعة الإسلامية مرنة بحيث أنها تنطبق على كل شيء ولو ناقضها، فإن المرونة مفهوم خطِر ألصق بالإسلام ليجعل منه لباساً مهلهلاً يقبل أي فكر أو مفهوم أو رأي ولو ناقضه وخالفه.

ذلك أنه بعد أن نهض أهل الغرب بفصلهم الدين عن حياتهم وعزلهم للسلطة الكنسية عن واقع الحياة فإنهم التفتوا للإسلام والمسلمين وبدأوا يعرضون على المسلمين حلولاً لمشاكل الحياة المتجددة عندهم، ويطلبون من المسلمين أن يقدموا حلولاً من الإسلام لها، فما كان من المسلمين وهم في أشد حالات ضعفهم إلا أن قبلوا حلول الغرب على أنها من الإسلام، فقالوا بتحرر المرأة وقالوا بالاشتراكية والديمقراطية وحرية الرأي والحرية الشخصية، وجعلوا كل ذلك من الإسلام، مدعين أن الشريعة الإسلامية ليست جامدة بل هي مرنة تقبل كل شيء، ونسوا أو تنـاسـوا أن الإسـلام قـام علـى عقـيـدة راسـخـة وأنـه جـعـل هذه العقيدة مقياس كل الأفكار وجعل الـحـلال والحرام مقياس كل الأعمال فاللـه تعالى يقول: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللـه والرسول إن كنـتم تؤمنون باللـه واليوم الآخر) والرسـول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».

 وكون العقيدة مقياساً لكل شيء يعني أن تكون المعالجات مأخوذة من نصوص الشرع وليس من الهوى، فكل ما لم يأت به الإسلام من معالجات لمشاكل الإنسان فهو من غير الإسلام ولا يجوز أخذه، قال صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»، فمثلاً نجد أن المسلم مقيد بأحكام الشرع ولا يملك أن يعصي اللـه تعالى بحجة الحرية الشخصية، وهو إن فعل ذلك استحقّ العقوبة على معصيته في الدنيا بمعاقبة الحاكم له، وفي الآخرة بعقاب اللـه عز وجل. فلا يحل لمسلم أن يزني بحجة الحرية الشخصية، ولا يحل له أن يهزأ بالقرآن بحجة حرية الرأي، ولا يحل له أن يرتد عن دينه بحجة حرية العقيدة، ذلك أن مجرد الدخول في الإسلام يعني الانقياد للـه تعالى في كل شيء (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلّموا تسليما).

وكذلك المرأة مثلاً فإنه لا يحل لها أن تكشف عن عورتها بحجة تحرر المرأة، وهي إن فعلت ذلك استحقت التعزير من الحاكم والعقوبة من اللـه تعالى في الآخرة، وهكذا فكل تصرفات المسلم وآرائه وأقواله مقيدة بحكم الشرع، وكذلك غير المسلم، فالكافر الذمي تطبق عليه أحكام الإسلام مثل المسلم سواء بسواء فلا يحل له أن يرتكب المعصية بين المسلمين بحجة أنه غير مسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل الذمة حسب أحكام الإسلام، وفي حديث جابر بن عبد اللـه قال: «رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من اليهود وامرأة» لذلك فإن القول بمرونة الشريعة لتقبل كل شيء هو قول خطِر، ومن أسوأ عواقبه أن يضيع ديننا فنقبل ما ليس منه على أنه منه وفي ذلك خسران الدنيا والآخرة.

أما القول بتطور الشريعة فهو لا يقل خطراً عن القول بمرونتها، إذ أن التطور يعني الانتقال من حال إلى حال، ويعني التبدل مع الزمن، والقول بتطور أحكام الإسلام يعني أن أحكام الإسلام تتبدل وتتغير مع الزمن فهي تتطور، فالحرام يتطور فيصبح حلالاً، والحلال يصبح حراماً، لذلك وجد في المسلمين من جارى الغرب في أفكاره فقال بأن أحكام الإسلام تتغير بتغير الأزمان، فوجدنا في المسلمين من يقول بجواز تجزئة بلاد المسلمين، ومن يقول بجواز الاستعانة بالكفار، والتنازل لهم عن أرض المسلمين، ومن يقول بجواز الربا، وغير ذلك مما ألبس على المسلمين دينهم، في حين أن رسول اللـهصلى الله عليه وسلم  يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه» وغير ذلك من الأدلة التي تحرم تجزئة بلاد المسلمين وتأمر بوحدة المسلمين تحت راية خليفة واحد. كما وجد من يقول بأن قطع يد السارق وحشية فيستعاض عنها بالسجن. كما وجدت في القوانين الوضعية المعالجات التي تبيح الزنى وتقصر عقوبته على الأزواج، وغيرها وغيرها من المفاهيم والآراء والأفكار والمعالجات التي قلبت الحلال حراماً والحرام حلالاً وكل ذلك بحجة التطور والتجديد.

إن أحكام اللـه تعالى لا تتغير ولا تتبدل، فحكم اللـه في السارق هو قطع يده سواء أسرق السارق في سنة عشرة للهجرة أم سرق في سنة ألفين للهجرة، والزنا هو الزنا سواء أوقع في عهد أمير المؤمنين عمر رضي اللـه عنه أم وقع في عهدنا هذا. لا يغير من واقع حد السرقة أن تغيرت أشكالها وصورها ونظرة النّاس إليها، كما لا يغير من واقع حرمة الزنا رواجه لدى الغرب أو إباحته في بلاد المسلمين أو غير ذلك.

لذا يجب علينا بصفتنا مسلمين أن نفقه أحكام ديننا وأن نحفظها من التغيير والتبديل ولا يكون ذلك إلا بتطبيقها التطبيق الصحيح في الكيان الذي أخبر به رسول صلى الله عليه وسلم وهو كيان الخلافة.

إن السعة في الشريعة الإسلامية لا تعني أنها مرنة لتنطبق على كل شيء ولو خالفها، كما أنّها  لا تعني التطور لتتغير أحكامها وتتبدل مع الزمن، ولكنها تعني أنها الشريعة الكاملة الشاملة الحاوية لمعالجات كل المشاكل التي تطرأ للإنسان وذلك وفق طريقة ثابتة لا تتغير وهي أن تكون هذه المعالجات من الوحي أي قام الدليل الشرعي عليها سواء أكان هذا الدليل هو القرآن الكريم أو السنة المطهرة أو إجماع الصحابة الكرام أو القياس المبني على علّة وردت في النصوص التي جاء بها الوحي.

ولا يمكن تطبيق المعالجات الشرعية بشكل كامل إلا بوجود الراعي الذي يطبق أحكام الإسلام تطبيقا صحيحاً، وبوجود المجتهدين في الأمّة الذين يكون دورهم هو فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام الشرعية منها لما يستجد من مشكلات.

وهذا ما كان عليه المسلمون عندما كانت لهم دولة قائمة على الإسلام في قوانينها وسياستها ورعايتها للناس مسلمين كانوا أم غير مسلمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *