العدد 262 -

العدد 262- السنة الثالثة والعشرون، ذو القعدة 1429هـ، الموافق تشرين الثاني 2008م

العـولمـة وآثارها الاقتصادية المدمرة على البلاد الإسلامية والعالم

العـولمـة

وآثارها الاقتصادية المدمرة على البلاد الإسلامية والعالم

 

المهندس أبو بكر عساف

عندما نرى العالم يشهد ارتفاعاً عالمياً للأسعار فاق كل التوقعات، فأضر بكل فقراء العالم، بل وزاد من نسبتهم في المجتمعات حتى بات الوقوف في طوابير الخبز شيئاً عادياً في مصر. وعندما يصبح الانتحار وقتل الأبناء خياراً للفقراء في باكستان، وعندما نسمع شكوى وبكاء الرجال على شاشات التلفاز من شدة الفقر وقلة ذات اليد… يحق لنا أن نتساءل: ما السبب في ذلك؟ وما الذي أدى إلى تطور الأوضاع الجنوني؟ ولماذا أصبحت المشكلة عالمية؟ فما دخل مصر بأزمة حصلت في أميركا؟ وما دخل الشرق الأوسط بغلاء الأسعار في أوروبا؟ ومن الذي حول أزمة الرهن العقاري الأميركية إلى مشكلة عالمية؟

كل هذا يقودنا إلى بحث سياسة العولمة التي كثر الحديث عنها في العالم في الآونة الأخيرة بشكل واسع.

معنى العولمة

العولمة لغة مشتقة من العالم وذلك على تفصيل مذكور في كتب اللغة.

ولكن الذي يعنينا هنا المعنى الاصطلاحي للعولمة، فالعولمة التي هي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية Globalization كثرت التعريفات لها.

فقال بعضهم: «العولمة هي الحركة الاجتماعية التي تتضمن انكماش البعدين: الزماني والمكاني، ما يجعل العالم يبدو صغيراً إلى حد يُحتّم على البشر التقارب بعضهم من بعض».

وقال آخرون: «العولمة هي التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسية والثقافة والسلوك، دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة، أو انتماء إلى وطن محدد، أو لدولة معينة، ودون حاجة إلى إجراءات حكومية».

في حين يعرف الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي العولمة بأنها «نظام يُمكّن الأقوياء من فرض الدكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق».

والحقيقة أن مفهوم (العولمة) ليس مجرد شعار اقتصادي رأسمالي فحسب، بل هي فكرة رأسمالية  سواء على الصعيد السياسي أم الاقتصادي أم الاجتماعي أم الثقافي أم الإعلامي، ولكن الوجه الاقتصادي أبرزها، وهو السبب وراء نشوء فكرتها، فالوجه الاقتصادي هو الأبرز والأهم؛ ولذلك سأقصر الحديث في هذا الموضوع على الجانب الاقتصادي.

 فالعولمة إفراز من إفرازات النظام الرأسمالي، وقد جاءت كنتيجة لما خلفه تطبيق هذا النظام من آثار سيئة، أهمها:

سوء التوزيع الذي جرّ إلى تركز رأس المال بيد حفنة من الرأسماليين لا تتجاوز نسبتهم 2% في المجتمعات، وما تبع ذلك من تناقص الأرباح في الأسواق الداخلية مع تصاعد وتيرة المنافسة المحلية. وكذلك الأزمات الاقتصادية التي تتكرر بشكل مستمر نتيجة تطبيق النظام الرأسمالي، كل ذلك دفع القائمين على هذا النظام  إلى تشكيل لجان من علماء الاقتصاد ورجال الأعمال والسياسة للقيام بالبحوث والتوصيات اللازمة لتجنب هذه الأزمات الاقتصادية ولتحصيل الأرباح بشكل مستمر، فكانت بحوثهم وتوصياتهم أول رؤيا للعولمة وباكورتها.

ولكن خلال الحرب الباردة كان الاتحاد السوفيتي هو العائق أمام العولمة الشاملة، وبعد انهياره ومع توفر أدوات ووسائل اتصال أفضل أصبحت أدوات السيطرة المالية والسياسية اللازمة للسيطرة على العالم جاهزة للعمل، خاصة بعد أن نجحت أميركا في إنشاء منظمة التجارة العالمية إضافة إلى صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة، ما يعني أننا نستطيع القول أن عقد التسعينات من القرن الماضي هو الذي شكل البدايات الفعلية للعولمة.

متطلبات العولمة وأدواتها

لتحقيق العولمة وتطبيقها كان لابد من متطلبات سابقة وأدوات، أما المتطلبات فكانت

1-الترويج لثقافة العولمة لدى الشعوب والدول، وذلك بالدعوة إلى الديمقراطية بدلاً من الدكتاتورية، ودولة المؤسسات بدلاً من دولة الرئيس، والتعددية الحزبية بدلاً من دولة الحزب الواحد، كل ذلك من أجل الوصول إلى خلخلة المجتمعات، وتغيير بنية الدول على نحو يسمح للشركات الأجنبية عابرة القارات ومتعددة الجنسيات بالنفاذ إلى الأسواق المحلية للدول النامية.

2- تدمير بنية الدول الاقتصادية لإفقاد الدولة سيطرتها على مواردها الوطنية، عن طريق استغلال حاجاتها الاستهلاكية وقتل المبادرات المحلية، وتوجيه ثرواتها وهيكلة اقتصادها بتدخل مباشر من المؤسسات المالية والتجارية الخاضعة لها؛ فتصبح بلدان العالم سوقاً لأميركا والدول الكبرى، وخاصة بلدان العالم النامي ومنها بلدان العالم الإسلامي .

3- إزالة القيود وتحرير الطريق أمام حركة رأس المال الغربي بحيث يُسمح لرأس المال بالتنقل بحرية بين البلدان وبالتالي المتاجرة به في الأسواق المالية المحلية والعالمية والمضاربة به على نحو يحقق الأرباح الباهظة بتجارة وهمية غير حقيقية.

أما عن أدوات العولمة فهي كثيرة ولولاها لبقيت فكرة خيالية تحلم بها أميركا والدول الكبرى.

وأبرز هذه الأدوات :

1- منظمة الأمم المتحدة، والتي تأسست رسمياً عام 1945م، والتي تتدخل بدورها في كل الدول النامية وتحت ذرائع عدة تمكن الدول الكبرى من السيطرة عليها، فاحتلال العراق مثلاً يتم تحت غطاء الأمم المتحدة والذي تحولت بسببه العراق إلى محمية اقتصادية لأميركا.

2- صندوق النقد الدولي، الذي يعمل على إغراق الدول المستهدفة بالديون لتصبح عاجزة أو شبه عاجزة عن ملاحقة خدمة الديون وفوائدها المتراكمة، فتكون بالتالي وسيلة لبسط النفوذ على البلاد، وتصبح الدولة الممولة أو المقرضة هي المتحكمة بالدولة المدينة، فتفتح لها سوقها وتقدم لها كل التسهيلات فتمتص خيراتها وتستنـزفها.

3- البنك الدولي، فقد أخذ البنك الدولي بتوجيه من الولايات المتحدة بإجبار دول العالم الإسلامي على إعادة هيكلة اقتصاداتها على ضوء مفاهيم العولمة، فاتجهت لخارج دولها لجذب رأس المال الأجنبي، وتبني مفهوم القطاع الخاص وما يتطلبه ذلك من تحجيم واضح في الملكية العامة.

4- منظمة التجارة العالمية، والتي لديها الكثير من الصكوك والاتفاقيات القانونية الملزمة للدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، وأبرزها:

– الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارة (جات) GATT، والتي أنشأت تحت ذريعة تحرير التجارة العالمية من القيود التي وضعت بعد الحرب العالمية الثانية؛ وذلك بخفض الجمارك، والحد من القيود الكمية والنوعية المفروضة على السلع من قبل الدول الأطراف في الاتفاقيات.

– الاتفاق العام للتجارة في الخدمات (الجاتس) [GATS] الذي يطبق على تجارة الخدمات، والذي نص على قاعدة «التغطية الشاملة» بخصوص الخدمات، والمقصود شمول جميع الخدمات المتاجر بها دولياً في الاتفاق، بغضِّ النظر عن طريقة توصيل الخدمة.

– اتفاق الجوانب المتصلة بالتجارة في حقوق الملكية الفكرية (تريبس) [TRIPS]. والتي تتبلور في 1 -حقوق التأليف 2 -حقوق براءات الاختراع 3 – حقوق النماذج الصناعية

فعلى سبيل المثال الحد الأدنى لمدة حقوق الملكية الفكرية هو 50 سنة في حالة حقوق الطبع، و 20 سنة في حالة براءات الاختراع، و 7 سنوات في حالة العلامات التجارية.

وهناك اتفاقيات أخرى في منظمة التجارة العالمية ملزمة للأعضاء الموقعين عليها فقط.

5- المنتدى الاقتصادي العالمي (منتدى دافوس) الذي يعتبر “العقل المفكر” للشركات الاحتكارية ولسياسات العولمة.

6-  مجموعة الدول الصناعية G8 التي تجتمع بشكل مستمر،  فتقر الاتفاقيات التي تؤثر على العالم كله، وطبعاً قراراتها لا  تخرج عن كونها تسهيل لمصالحها في العالم.

ولكن يمكن القول إن (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) هذا الثالوث هو السلاح الفتاك بيد أميركا للتفرد بالعالم ولفرض العولمة.

آثار سياسة العولمة الاقتصادية

إن تطبيق فكرة العولمة أدى إلى مصائب وكوارث اقتصادية، ولا سيما على البلدان النامية ومنها البلاد الإسلامية، والتي يمكن تلخيص أبرزها بما يلي :

1- أول هذه الأخطار وأعظمها فقدان السيادة وتفكيك بنية الدول:

إن العولمة تحتاج إلى السيطرة على الدولة الوطنية وإخضاع قوانينها لحركتها وحريتها في العمل حتى لا يبقى أي عائق أمام الاحتلال الاقتصادي وصولاً إلى مفهوم جديد للدولة يتمثل في دولة المؤسسات التي تحل محل الدولة التقليدية المعتادة، حيث تتحول الدولة في ظل العولمة، كأنها إدارة عامة جديدة، أي أنها تتحول إلى حكومة أعمال. وهو ما يترتب عليه وهن الدولة وشرعيتها، خاصة وأن هذه الشركات العالمية عادة ما تهدد بهروب رؤوس أموالها إذا لم تستجب الحكومات لمطالبها، وهي مطالب عديدة، مثل منحها تنازلات ضريبية سخية، وتقديم مشروعات البنية التحتية لها مجانًا، وإلغاء وتعديل التشريعات التي كانت تحقق بعض المكاسب للعمل والطبقة الوسطى، مثل: قوانين الحد الأدنى للأجور، ومشروعات الضمان الاجتماعي والصحي وإعانات البطالة، وبما يقلل مساهماتها المالية في هذه الأمور وخصخصة كثير من الخدمات العامة التي كانت تقوم بها الحكومات، لكي يضطلع بها القطاع الخاص، مثلما حدث في الأردن مع شركة الاتصالات.

ففي ظل العولمة، تتحول الشركات متعددة الجنسيات إلى دول حقيقية تقوم بتفكيك الدول وإعادة بنائها من جديد، وجعلها تتنازل تحت ضربات الرأسمالية الاحتكارية عن حقوقها وحدودها الجغرافية وواجباتها تجاه مجتمعاتها، كي تقيم دولة عالمية، قادتها ورؤساؤها رؤوس الاحتكارات العالمية؛ كي تمتص دماء الكادحين في المجتمعات الإنسانية.

2- تفاقم التفاوت في الثروة بين المواطنين:

 فعندما تصبح الشركات عابرة للقارات ومتعددة الجنسيات يعني أن ثروتها ستصبح أكثر من بعض الدول، ويعني أنه لن تقوى الشركات العادية المحلية على منافستها، وهذا يؤدي بالتالي لإغلاق الشركات الصغيرة واضمحلالها مع الوقت، وهذا يترتب عليه أن المجتمع سيتحول إلى طبقتين وهما الأغنياء الذين يملكون أكثر من 90% من رأسمال البلد في حين لا يتجاوز نسبتهم من المجتمع أكثر من 10%، والعكس صحيح بالنسبة للطبقة الأخرى وهي الفقراء.

فعلى سبيل المثال هناك 350 شركة كبرى تستأثر بما نسبته 40% من التجارة الدولية. هذا وقد بلغت الحصة المئوية لأكبر عشر شركات في قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية 86% من السوق العالمي، وبلغت هذه النسبة 85% من قطاع المبيدات وما يقرب من 70% من قطاع الحاسبات و60% من قطاع الأدوية البيطرية و35% من قطاع الأدوية الصيدلانية و34% من قطاع البذور التجارية.

وحسب إحصائية لعام  2002م فإن الشركات متعددة الجنسية تمتلك 44% من قيمة الإنتاج العالمي فيما تبلغ حصة أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية 4.6% من مجمل الإنتاج العالمي.

3-  تدهور مستوى المعيشة وانخفاض الأجور وارتفاع معدل البطالة:

إن الشركات متعددة الجنسيات نادرًا ما تدخل في شكل استثمارات مباشرة طويلة الأمد، وإنما تدخل بما يعرف بالأموال الطائرة، في استثمارات قصيرة الأجل وسريعة الفوائد والتي تحقق لها عوائد هائلة، دون أن يكون لذلك مردود على التنمية المحلية. وإن حدث وقدمت استثمارات مباشرة طويلة الأمد، فإنها قبل ذلك تأخذ ما يكفيها من التسهيلات والضمانات السياسية والاقتصادية التي لا تحظى بها رؤوس الأموال المحلية، وهو ما يعرقل الاقتصاد المحلي، زيادة على ذلك، فإن معظم أنشطتها تقتصر على السلع الاستهلاكية ذات العائد الأسرع نتيجة للنمط الاستهلاكي السائد.

وبما أن النظام المعولم سيخفض نسبة الحاجة إلى العمال إلى 20% أي سيظل 80% منهم عاطلون. وهذا هو الذي يسميه دعاة العولمة بمجتمع الخمس؛ لأن بعض القطاعات في مجال الإلكترونيات والإعلاميات والاتصال، وهي من القطاعات الأكثر رواجًا في العالم، لا تحتاج إلا إلى عدد قليل من العمال. فالتقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمة إلى ارتفاع البطالة  وانخفاض مستوى الأجور نظراً لقلة الطلب على العمال.

4- تقلص الخدمات التي تقدمها الدولة وقصر دورها على حراسة النظام.

بما أن الدول النامية ستخضع لسلطة البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية، فهذا يعني أنها سوف تضطر للتخلي عن إدارة وتقديم الخدمات للمواطنين والتوجه نحو خصخصة المصالح والشركات العامة إرضاء للمقرضين من ناحية ومحاولة للتخلص من عبء ملقى عليها، وهذا ما شهدناه في الآونة الأخيرة في البلاد الإسلامية من خصخصة الشركات العامة وتمليكها لمستثمرين أجانب من أصحاب الأموال الطائلة، ما يعني أنه سوف تتقلص الخدمات التي تقدمها الدولة لأنها ستصبح خدمات مدفوعة الأجر، وحينها سيقتصر دور الدولة على حراسة النظام والتوفيق بين جشع الشركات المالكة وبين بؤس المواطنين.

5- تراجع الاقتصاد المحلي  وتحول البلاد إلى سوق للسلع المستوردة.

عادة ما تنتهي العولمة الاقتصادية في البلدان النامية إلى فتح الأسواق العالمية أمام المنتجات الغربية بدون عوائق أو ضوابط مثلما حدث في سوق العقبة التجاري بالأردن وسوق دبي الدولي، وعليه فلن تستطيع المنتجات المحلية مواجهة المنتجات المستوردة ومنافستها، ما يعني تعثر العديد من الأنشطة الاقتصادية المحلية. ويكون البديل المتاح حينها هو إما الاقتصار على الاستيراد، وهذا البديل قصير الأمد حيث ستنضب أرصدة السيولة المالية، ويزداد التضخم نتيجة للركود الاقتصادي، أو الخيار الثاني وهو بيع الأصول الاقتصادية إلى الشركات العالمية بحجة الإصلاح الاقتصادي وهو المطلوب، لأنه سيؤدي إلى الاستسلام النهائي لسياسات العولمة وبالتالي تخلف الدولة.

وبما أن الشركات متعددة الجنسيات عادة ما تأخذ ما يكفيها من التسهيلات والضمانات السياسية والاقتصادية التي لا تحظى بها رؤوس الأموال المحلية فهذا سيؤدي إلى عرقلة الاقتصاد المحلي وإضعافه.

6- إهمال القيم الأخلاقية والإنسانية

بما أن الشركات العالمية ومتعددة الجنسيات دخيلة على المجتمعات والدول فهي تكون خالية من القيم الأخلاقية والإنسانية بحيث لا تنظر إلى المجتمعات سوى نظرة جشع واستغلال ومص لدماء وخيرات البلاد. فالشركات الكبرى لا يهمها سوى الربح المادي بعيداً عن مشاكل البلاد أو الظروف التي تمر، فمثلا نرى إصرار وتعنت الدول الكبرى الراعية لهذه الشركات في وجه كل الدعوات المطالبة بالمحافظة على البيئة، فضربت بالمطالبة المتنامية عرض الحائط وضحت بالبيئة من أجل المكاسب المادية.

والحقيقة أن الحديث عن المخاطر  والآثار السيئة للعولمة يطول، فهناك العديد من المشاكل والمصائب الأخرى التي اكتوت بنارها البلاد النامية، ولكن يكتفى بما ذكر.

وهنا نتناول مثالاً نسلط من خلاله الضوء على دور العولمة في صناعة وتصدير الأزمات

ففي الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية لعبت العولمة دوراً بارزاً فيها، حيث إن الذي أدى إلى ازدهار سوق الرهن العقاري عالمياً هو عولمة سوق رأس المال، فلولا السوق المفتوحة والمضاربات المالية التي وفرتها سياسية العولمة لما تطورت المشكلة إلى مشكلة عالمية.

فبسبب سياسة العولمة وانفتاح الشركات على بعضها أقبلت الشركات العالمية والبنوك الخاصة والمركزية وكذلك الأفراد على شراء الأسهم في شركات الرهن العقاري الأميركية سعياً وراء الربح… فأخذت قيم العقارات وبالتالي أسهم الشركات العقارية المسجلة بالبورصة بالارتفاع بصورة مستمرة في جميع أنحاء العالم خاصة في الولايات المتحدة، ولكن عندما توقفت أميركا عن إعطاء قروض ميسرة لشركات الرهن العقاري وللمصارف, بل وطالبتها بسداد القروض التي أخذتها سابقاً عند حلول مدتها… هبطت قيمة العقارات. ونتيجة لتضرر المصارف الدائنة نتيجة عدم سداد المقترضين لقروضهم هبطت قيم أسهمها في البورصة.

وهكذا انهارت أسهم الشركات العقارية في البورصة، حتى إن العدوى أصابت القطاعات التي لا تتعامل في الأنشطة العقارية, ولكن بسبب العولمة وتداخل أعمال القطاعات الاقتصادية فقد حصل التأثر فيها، وبدأت الأزمة العالمية.

وملخص القول إن العولمة أداة للدول الكبرى لمص دماء الشعوب ونهب ثرواتهم والعيش على ظهورهم، وهي إفراز طبيعي للرأسمالية العفنة، وهي كما وصفتها بعض المقالات بأنها الأمركة، والتي من خلالها تخسر الأمم الضعيفة في مواجهة العولمة كل شيء. وأما الأمم القوية فهي التي تربح كل شيء.

موقف الإسلام من العولمة الاقتصادية وموقع الدولة الإسلامية القادمة منها

هنا يتبادر إلى الذهن التفكير في البديل والحل، فما هو موقف الإسلام من العولمة الاقتصادية؟ وما هو موقع الدولة الإسلامية القادمة منها؟ وللإجابة على ذلك نقول:

أولاً: إن للإسلام نمطه الاقتصادي الخاص به والذي ينافي تماماً النمط الاقتصادي الرأسمالي، فمبدأ الإسلام وبكل ما فيه قائم على أساس الرحمة والهداية والرأفة بالبشرية وليس الجشع والاستغلال كما هو التفكير الرأسمالي، ولكن هذا النمط لا يمكن أن نرى تكامله ونجاحه إلا بعد أن تتبناه دولة فتطرحه كنظام عالمي بديل.

فالإسلام يملك أحكامه الخاصة للسياسة الخارجية والتجارة الدولية وأحكاماً للجمارك والضرائب التي لا تشابه النظام الرأسمالي مطلقاً، كما ويملك الإسلام نظامه النقدي القائم على قاعدة الذهب والفضة، ونظامه المصرفي الخاص به، كل ذلك يحول بين تحول الاقتصاد الإسلامي إلى اقتصاد وهمي زائف.كل هذا وغيره يجعل الإسلام نمطاً فريداً خالياً من كل دواعي الأزمات والكوارث الاقتصادية، والأهم من ذلك أنه خالٍ من دواعي الجشع والاستغلال.

فالقيم الرأسمالية هي قيمة واحدة هي المنفعة وتعظيم المنفعة إلى أبعد حد مستطاع، وهي تجعل من الإنسان غولاً مفترساً يلهث وراء المادة في صراع مسعور مع منافسيه، صراع تسقط فيه كل القيم الإنسانية ما دام ذلك يحقق الربح والثراء.

بينما في الإسلام القيمة المادية هي إحدى القيم، والقيم الأخرى تحكمها، فالإسلام يربي في المسلم الإيثار والنجدة والصدق والمسؤولية عن الغير:

فالله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر 9]، ويقول تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين 1-3]، ويقول: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان 9].

وجاء في الحديث: «أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسول الله» رواه أحمد.  وفي الحديث: «ما آمن من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهويعلم به» رواه الطبراني. وفي الحديث: «من دخل في شيء من أسعار المسلمين يغليه عليهم كان حقاً على الله أن يقذفه في جهنم رأسه إلى أسفله» رواه الحاكم. وفي الحديث «من احتكر فهو خاطئ» أخرجه الإمام مسلم، وفي الحديث «زن وأرجح» رواه الترمذي،

وقصة سيدنا عثمان (رضي الله عنه) عنه عام القحط عندما تبرع بتجارته للفقراء ولم يستجب لإغراء التجار بالربح الوفير، قصة معروفة ومشهورة في حسن رعوية الإسلام.

كل هذا وغيره يلفت النظر إلى القيم الرفيعة الموجودة في الإسلام والتي تتنافى تماماً مع الرأسمالية.

ثانياً: بما أن العولمة الاقتصادية ليست مجرد فكرة تسري في البلاد والأمم كسريان النار في الهشيم، بل هي فكرة لها أدواتها وركائزها والتي بدونها لا يمكن أن يكون هناك عولمة، فلا بد إذاً من إعطاء رأي الإسلام في التعاطي مع هذه الأدوات والركائز.

فموقف الإسلام من منظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والمنتدى الاقتصادي العالمي (منتدى دافوس) و مجموعة الدول الصناعية G8 أنها منظمات قائمة على أساس خطأ ويخالف الإسلام، وهي من أدوات الجشع والاستغلال والظلم في العالم؛ لذلك فمن الغني عن القول إن الدولة الإسلامية لن تقدم على التعاون أو العضوية أو الاتفاق مع هذه المؤسسات، بل ستعمل على محاربتها لإنهاء وجودها.

فالمسألة عندنا مسألة فكر ومبدأ وليست أساليب ووسائل، فالوسائل العلمية والتكنولوجية من جهة، والفكر الاقتصادي والنظام والتشريع الاقتصادي من جهة أخرى، أمران مختلفان بينهما برزخ لا يبغيان. والإعلام الرأسمالي (إعلام العولمة) يركز على الجانب العملي الذي لا خلاف عليه من أجل تصدير وتسريب الجانب الفكري التشريعي عن طريق الخداع، فكأن الجانب الأول هو حصان طروادة يحمل خبيئة خبيثة، ولغماً قاتلاً.

وهذا ما لم ينطل علينا ولن ينطلي علينا، لذلك فإن ركائز العولمة لن يكون لها مكان في دولة الخلافة، وما دامت الركائز ستكون معدومة في دولة الخلافة فإن العولمة لن يكون لها وجود في كيانها لأننا واعون تماماً على فكرتهم.

ثالثاً: من الخطأ أن يخطر بالبال أو يتبادر إلى الذهن حينما تذكر الدولة الإسلامية أنها كالدول العربية أو الدول النامية، بل دولة الخلافة ستكون الدولة الأولى في العالم، وقبل ذلك فهي ستكون في طريقها المتسارع لتكون دولة كبرى، وبذلك لن تهدد العولمة اقتصادها ولن تغزوها، بل إن دولة الخلافة ستصبح من الدول الفاعلة والمؤثرة في المسرح الدولي مثلما كانت أختها الدولة الإسلامية السابقة منارة للعلم والتقدم بشهادة علماء الغرب ومؤرخيه، حيث إنه من الحقائق التاريخية أن أوروبا كانت عالة على المسلمين علمياً، وإن علماءها وأبناءها كانوا يحجون إلى الدولة الإسلامية لطلب العلم. ومن جميل ما يروى أنه في الوقت الذي كان عند المسلمين نظام لوصول مياه الشرب إلى كل بيت ونظام للصرف الصحي محكم مغطى تحت الأرض، كان الأوروبيون يحتفلون باختراع غريب في ذلك الوقت، وذلك الاختراع هو الكعب العالي الذي كان يجنبهم أن يدوسوا في الأوساخ ومياه الصرف الصحي التي كانت تملأ الشوارع.

فالدولة الإسلامية ستكون في مقدمة العالم في العلم ووسائل  الاتصال والتكنولوجيا المتقدمة، وسترحب بكل جديد في هذا المضمار تصنعه أو تشتريه بحسب مصلحتها.

ولكن هذا يختلف اختلافاً جوهرياً عن العولمة، فالعولمة فكر ونظام وتشريع أما تلك فوسائل، فكون العالم قرية صغيرة وهناك بريد إلكتروني  وأس أم أس، إلخ… لا علاقة له بفتح الباب أمام الشركات الأجنبية تنهب خيرات البلاد وتُفقر العباد، ولا علاقة له بالخصخصة ولا بتخلي الدولة عن واجباتها التي أناطها الله سبحانه وتعالى بها، وهذا التقدم العلمي لا يؤدي إلى قتل المنشآت الصغيرة في دولة الإسلام ولا إلى تركز الثروة في يد فئة قليلة،

فليكن لنا كل التكنولوجيا في العالم وكل السرعة في نقل الأخبار في طرفة عين، ولكن في الوقت نفسه فإن سيادة الدولة وعدم وجود سلطان للكافر عليها لا تُمس، وأصحاب المشاريع المحلية أهل البلاد هم الذين يحظون بالدعم والمساندة من الدولة حتى يكونوا ذخراً للدولة وخيراً للمجتمع، وليس الشركات اللاأخلاقية الماصة لدماء الشعوب، بل تلك  الشركات إن سمحنا لأصحابها بالعمل عندنا فإن ذلك يكون ضمن أحكام الإسلام عامة، وعلى أساس أن لا تضر مطلقاً بالصناعة المحلية أو بأي أمر من أمور المسلمين.

وفي الختام نقول: إن العولمة شر فتحت بابها أميركا، وشرورها باتت تتسارع حتى طالت العالم كله، فكانت اسماً على مسمى في الشر. والله نسأل أن يقيم لنا خلافتنا الراشدة لتنقذ العالم كله، وليس المسلمين فقط من هذا الرجس. اللهم آمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *