العدد 261 -

العدد 261- السنة الثالثة والعشرون، شوال 1429هـ، الموافق تشرين الأول 2008م

التجديد… بين سبيل الرشد وسبيل الغيّ

التجديد… بين سبيل الرشد وسبيل الغيّ

 

إن مصطلح التجديد، شأنه شأن كثير من المصطلحات، تعرض لكثير من الخلط والعبث الفكريّ، وجعله أعداء الإسلام، والجهلة منه سهماً مسموماً يوجهونه لدين الإسلام العظيم، واستغلّه العلمانيون الملاحدة، والعصرانيون المنهزمون أمام الحضارة الغربية، استغلالاً غير نزيه، بتفريغه من مضمونه الشرعي، وجعله غطاء لتحريف الدين وإبطال الشريعة. حتى إن مصطلح التجديد أصبح مثيراً للقلق والريبة والتوجس عند المسلم الصادق،فما مفهوم التجديد شرعاً؟ وما مفهومه عند الغرب ومن سار على نهجهم؟ وما المراد من ذلك؟

التجديد لغة: جدّد الشيء صيَّره جديداً،وأعاده إلى حالته الأولى.

فالمعنى اللغوي يرشدنا إلى ثلاثة أشياء:

1- أن الشيء كان.

2- أن هذا الشيء قد طرأ عليه التغيير، أو بلي.

3- أن هذا الشيء أعيد إلى حالته الأولى.

التجديد شرعاً: يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (رواه أبو داود).

وهذا الحديث لا يعطي معنى شرعياً جديداً، وإنما قصر المعنى على صيرورة الشيء إلى ما كان عليه في الدين. فالمعنى الممدوح شرعاً هو الرجوع إلى أصل الإسلام الكتاب والسنة، بعد فساد الأفهام، وفساد العمل بما أنزل الله. ويجمع السلف والخلف على هذا المعنى.

والتجديد في الإسلام يقوم مقام تتابع النبوات في الأمم السابقة، فالمجددون هم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه، وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه “لن تخلوَ الأرضُ من قائم لله بحجته”. ويؤيد هذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يرث هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين» وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» فالتجديد في الدين هو الرجوع إلى الأصل أي إلى الوحي دون تبديل ولا تغيير، ولا انتقاص ولا زيادة، بعيداً عن تأويل المنحرفين الجاهلين، وتحريف الغالين.

وليس شرطاً أن يكون المجدد واحداً بل قد يشترك عدد في التجديد، بل إن الجماعة أو الحزب هو أقدر على التجديد من الأفراد، ولذلك يطلب من الأحزاب أن تكون المجددة في هذا الزمان.

والتجديد يكون في دين الأمة: عقيدتها وشريعتها. فالتجديد في العقيدة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «جددوا إيمانكم. قيل: يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله» والمقصود العودة إلى الأصل الناصع الذي تنبثق منه كل الفروع ،فيجب إزالة ما على العقل من ران وغفلة وصدأ. حتى لا يصدق فينا قوله تعالى: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد 16].

فمن التجديد في العقيدة أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخروالقدر خيره وشره إيماناً جازماً يقوم على الدليل القطعي عقلياً أو نقلياً، وتصور بعض المفاهيم تصوراً يجعلها مؤثرة على سلوك الفرد، كالأجل بيد الله، والرزق بيد الله، والهدى والضلال، والقضاء والقدر، وعصمة الأنبياء، والرسول ليس مجتهداً…

والتجديد يكون في شريعة الأمة برد كل أمر إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم). فمثلاً نجد اليوم من يفرض نفسه بالقوة حاكماً على الأمة، والرد إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين أن السلطان للأمة،أي أن الأمة هي التي تختار الحاكم ثم تبايعه على كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكرسلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا» (رواه مسلم وغيره). والسلطان للأمة يشمل ثلاثة أمور: البيعة والشورى والمحاسبة.

أما فلاسفة التجديد الذين يرونه تصرفاً في الأصل، وتغييراً للدين تحت شعارات كثيرة كالتحديث ومجاراة العصر، وموافقة العلم وغيرها. يمارسون ممارسات منحرفة لمصطلح التجديد، ويمكن تقسيم هذه الممارسات إلى أربعة أقسام:

1- فصل الدين عن الدولة.

2- محاربة الإسلام من خلال التوفيق بين الإسلام وما يناقضه. كقولهم: «الإسلام ديمقراطي» و«اليسار الإسلامي» و«الاشتراكية الإسلامية».

3- كثرة التبرير: كالسعي لتأويل النصوص الشرعية الظنية وحتى القطعية لتوافق القوانين الغربية ،وتنسجم مع الواقع، ولإخضاعها للعلوم والاكتشافات،ولتوافق العادات والتقاليد… واتخذوا من بعض المقولات سلماً لهم من مثل أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وأينما توجد المصلحة فثم حكم الله، وأن الشريعة قامت على الرفق والتيسير…

4- الإسلام الليبرالي أو الإسلام الأميركي: وهو -في نظرهم- إسلام معتدل يدعو إلى تغيير المفاهيم التي لها علاقة بالحكم والجهاد، ومهاجمة الإسلام الذي ينادي بذلك، ومدح الإسلام المعتدل المكتفي بالعبادات، وهذا ظهر جلياً بعد الحادي عشر من سبتمبر من خلال الخطاب الديني الجديد المعتدل، والمطالبة بتغيير المناهج، ومحاربة الفهم الصحيح للإسلام، وضرب مفهوم الجهاد ومفهوم الخلافة والحكم.

ومع كثرة القول بأن فلاناً من  المجددين، ولأن الأخطاء الفاحشة قد وقعت من بعضهم، كان لا بد للمسلم أن يحذر من أمور منها:

1- الانخداع بالمظاهر: فلا يؤخذ الحكم الشرعي من منصب المفتي، أو العالم صاحب العمامة العريضة، أو حامل الشهادة العالية، أو من يلبس لباساً خاصاً انخداعاً بمناصبهم أو بمظاهرهم أو شهاداتهم، فقد ينطبق على بعض هؤلاء قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «شرّكم من باع دينه بدنياه، وشر منه من باع دينه بدنيا غيره». وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان” وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أكثر منافقي أمتي قراؤها». فالحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال يعرفون بالحق.

2- التجديد على أساس العاطفة: فيجب الاستماع إلى القول أيا كان بالعقل الذي يرد الأمور إلى الشرع رداً صحيحاً لا بالعاطفة، فالانقياد إلى العمل المسلح لأن أنفسنا تطلبه لا يعتبر تجديداً، فالدين والشرع لا يقوم على خطب رنانة، ولا شعارات برّاقة، ولا على إثارة المشاعر. فالتجديد يكون بناء على الفهم العميق للشرع، والتنفيذ الدقيق له.

3- ردة الفعل: يجب التفكير بالإسلام كحل تفكيراً جذرياً على أساس أنه دين الله الواجب الاتباع في كل زمان، وعلى أساس أن فيه معالجات لكل شيء لا كرد فعل على ما يواجهه المسلم.

4- التأثر بالفلسفات الأخرى: فالعودة يجب أن تكون للوحي، دون الخلط والأخذ من الفلسفات، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأخذ من فلسفات فارس والروم ولا من الأديان السابقة, قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمر «لقد جئتكم بها بيضاءَ نقيةً، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذّبوا به، أو بباطل فتصدقوا به, والذي نفسي بيده, لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني» (رواه أحمد).

5- الترقيع: التجديد لا يكون ببعض الفروض الشرعية، لمعالجة بعض الأمور، كمن يجمع الزكاة لمعالجة الفقر، أو يعلم المسلمين الأخلاق الحسنة لتستقيم أعمالهم عليها… فالتجديد يجب أن يشمل الإسلام ليعالج كل مشاكل الإنسان.

6- كثرة الناس الذين يسيرون على الفكرة: لا تعني الكثرة أن هؤلاء مجددون، وأن القلة ليست مجددة، فالقلة ممدوحة غالباً “فطوبى للغرباء”، والرسل جميعاً شكوا ضعف القوة وقلة الأنصار.

7- الحذر من الدمج في الأخذ بين (الشرع) وبين (المدنية)، فليس من التجديد تغيير الأحكام لقبول المدنية على علاتها، وليس من التجديد رفض كل ما هو جديد كمن حرم لبس الطربوش والبن والدخان وطباعة القرآن وحرم استعمال التلفون.

8- الأخذ من المذاهب المختلفة ،ومن العلماء الأفاضل والدمج بين ما يقولون، بعيداً عن الاستدلال الشرعي المعتبر، بل بناء على المصلحة، أو موافقة العصر، أو الهوى…

ومع ذكر التجديد لا بد من ذكر مرحلة هبوط الفقه الإسلامي، إذ عني العلماء بالانتصار لمذهبهم، وتأييد أصوله وفروعه بكل الوسائل، فلم يُعنوا بتتبع صحة الدليل وترجيح الدليل الراجح على المرجوح، ثم جاء إغلاق باب الاجتهاد، ثم خلطت الأحكام الشرعية بالقوانين المدنية، وظهرت مدارس الحقوق، فوضعت المجلة سنة 1286هـ، لتكون هذه العوامل هبوطاً للفقه وأيَّ هبوط، مما يستدعي التجديد، ويستدعي من يقوم بتجديد دين الأمة كما أشار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «… من يجدد لها دينها».

فلا بد من مجتهدين ومفكرين يزيلون عن الدين ما التصق به مما ليس منه، ويحيون ما اندرس منه. فالمجتهد مهمته أن يحقق التفاعل الخلاق بين النص الشرعي وحركة الواقع الذي نعيشه.

   والاجتهاد هو بذل الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية، على وجه يحس المجتهد من نفسه العجز عن المزيد عليه.

وللاجتهاد شروط تتمحور كلها حول أمرين هما :توفر المعارف اللغوية والشرعية. والأصل في عامة الناس أن لا يقلدوا تقليداً أعمى، فلا تقديس للشيوخ، ولا عصمة لإمام..

أما فلاسفة التجديد الذين يرونه تصرفاً بالأصل، فكيف يستقيم فهمهم للتجديد بأنه الابتداع والاختراع والإتيان بالجديد… مع قول الله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) [الأعراف 170] ومع قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب 36] وقوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء 65] وقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات 1] ومع قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي».

إن قضايا التجديد وأمثلته كثيرة، كفهم الشورى ونبذ الديمقراطية، وأن للمسلمين دولة واحدة وخليفة واحد بعد أن استساغ الكثير منهم الدول المتعددة… ولكن يجب أن يكون واضحاً أن أعظم تجديد يكون من الكتلة المبدئية التي فهمت الإسلام فهماً شاملاً صحيحاً، وتدعو إليه دون محاباة ونفاق، وترجع الأمور إلى كتاب الله وسنة نبيه.

وتسعى إلى تطبيقه كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقامة دولة الإسلام، وهل أعظم تجديداً على مرّ قرون الإسلام من استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية الثانية على منهاج النبوة، الدولة التي يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض؟

أبو محمد النجار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *