العدد 260 -

العدد 260- السنة الثالثة والعشرون، رمضان 1429هـ، الموافق أيلول 2008م

فبهداهم اقتده: الصحابي الجليل أسعد بن زُرارة (رضي الله عنه)

فبهداهم اقتده:

الصحابي الجليل أسعد بن زُرارة (رضي الله عنه)

 

زياد أبو محمود – القدس

«يا رسول الله، دماؤنا دون دمك، وأيدينا دون يدك، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا»

هذا الصحابي الجليل هو أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ ابْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ ابْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ (رضي الله عنه)، الأنصاري الخزرجي الذي آمن فقدّم في أقل من ثلاث سنوات، وقبل أن يُقبض، أعمالاً عظيمة جليلة ساهمت في نشر الإسلام وتأسيس قاعدته في المدينة، ثم أعمالاً عظيمة أخرى في  النصرة والبيعة وإقامة الدولة.

  كان أهل المدينة من الأوس والخزرج يشعرون بخطأ الأفكار التي يحملونها، ويحسون بسوء الأوضاع التي يعيشونها، ذلك أنهم كانوا يعيشون قبل وصول الدعوة للمدينة حالة نزاع وقتال وسفك دماء لا تتوقف، وكانت آخر وقعة وقعت بينهم هي وقعة بُعاث التي وقعت قبل مقدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم بثلاث سنوات، والتي قتل فيها خلق كثير، ومات من أشرافهم عدد كبير، ولم يكن هناك من يدعوهم لدين آخر ينجيهم مما هم فيه، حتى اليهود أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون معهم لم يحملوا لهم دعوة أو فكراً، بل تعالوا عليهم وتوعدوهم بنبي جديد، ولم يكن منهم إلا تحالفات مع بطون الأوس أو الخزرج، ما زادت القوم إلا فرقة وخصومة.

   في هذه الظروف، وفي السنة الحادية عشرة من بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، خرج أبو أمامة أسعد بن زرارة سيد بني النجار مع ستة نفر من الخزرج إلى مكة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتقصد في تلك السنين وفود الحج عارضاً عليهم الإسلام طالباً منهم النصرة والمنعة، فلا يسمع برجل صاحب شأن في قومه إلا واتصل به، والكل إما مسيء للرد أو معتذر، لكن موقف أبي أمامة (رضي الله عنه) وصحبه كان مختلفاً، فهم أهل خير أراد الله تعالى بهم ولهم خيراً، فآمنوا وصدقوا، ثم ذكروا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حال قومهم وما بينهم من العداوة والفرقة التي تمنع من النصرة، لكنهم وعدوه وعد صدق أن يدعوا قومهم للإسلام، فإذا أجابوا فلا رجل أعز من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

  يقول ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنجاز موعده له، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار… فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً. لما لقيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود (أي حلفائهم)؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن… فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُم اللّهُ بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا. قال ابن إسحاق: وهم، فيما ذكر لي: ستة نفر من الخزرج، منهم من بني النجار، أسعد بن زرارة.

بهذه الكلمات القليلة، لكن بهذا النور العظيم، وهذه العقيدة الراسخة، عاد أبو أمامة أسعد بن زرارة (رضي الله عنه) إلى قومه يعمد إلى أصنام بني النجار يكسرها ويحطمها، فكان (رضي الله عنه) معتزلاً للشرك الذي عليه الناس، حاملاً لهم نور الهداية وعقيدة التوحيد، عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صافية كما فهمها من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فآمن على يديه هو وصحبه من آمن وكفر من كفر.

لكن تعلقه بالدين الجديد لم تنتهِ حكايته ولم تتم فصوله.

مبايعته النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيعة العقبة الأولى:

عاد أسعد بن زرارة في العام التالي بشوق واندفاع، عاد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه من قومه وفد جديد كي يتجدد بهم اللقاء، وتتجدد مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) البيعة على كل ما يطلبه منهم، بل جاءوا يطلبون من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرسل معهم للمدينة من هو أكثر منهم معرفة بدقائق الدين الجديد، كي يقرأ عليه القرآن ويفقههم في الدين ويعلمهم الأحكام، عسى الله تعالى أن يجمع أمرهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته.

يقول ابن إسحاق: حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.

وقد ذكر البخاري في باب وفود الأنصار عن عبادة بن الصامت أمر هذه البيعة، وذكر فيها الأمور التي بايع عليها القوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ‏ فقال (رضي الله عنه): «إن رسول الله‏ ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏ ‏قال -ليلة العقبة- وحوله عصابة من أصحابه: تعالوا ‏‏بايعوني‏ ‏على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا‏ ‏ببهتان ‏تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله: فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه، قال‏ ‏فبايعته‏ ‏على ذلك»

قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة مصعب، وكان منـزَله على أسعد بن زرارة.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر ابن قتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.

وبهذا كان لأبي أمامة أسعد بن زرارة من الفضل أنه من أول من آمن عند العقبة، ثم كان ممن شهد بيعة العقبة الأولى، وأن منـزَل مصعب بن عميركان عليه.

دوره في إسلام سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ.

عاد أبو أمامة إلى المدينة ومعه مصعب بن عمير ليحمل الدعوة فيها، فكان أبو أمامة يدله على الناس ويوصله إليهم، فكان معرفاً وحامياً لمصعب، فأسلم معه الكثير حتى فشا الإسلام في دور الأنصار، وكان مصعب (رضي الله عنه) يتقصد جميع الناس، وأهل القوة داخل المدينة، فاستجابت الخزرج وبقي أن تستجيب الأوس، فخرج أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير إلى دار بني عبد الأشهل ودار بني ظُفر من الأوس يريد سعد بن معاذ وأُسيد بن حُضير سيدا الأوس، وبالفعل فقد يسر الله تعالى أمر إيمانهما، فدخلا في الدين ودخل قومهما معهما، وقد كان لقصة إسلامهما الدروس الكثيرة والعبر العظيمة:

   «قال ابن إسحاق: إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر…

 فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أَبَا لَك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدماً، قال فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه. قال مصعب إن يجلس أكلمه. قال فوقف عليهما متشتماً فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أَوَ تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ قال أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا: فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشْرَاقِهِ وَتَسَهّلِهِ. ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي. فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق وقام فركع ركعتين ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، إنه سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك، قال: فقام سعد مغضباً مبادراً، تخوفاً للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيداً إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما مُتَشتماً، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره -وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك والله سيد من ورائه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان- قال: فقال له مصعب: أَوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشْرَاقِهِ وَتَسَهّلِهِ. ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته، فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير.

قال: فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله.

قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منـزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وَخَطْمَةَ ووائل وواقِف وتلك أوسُ الله، وهم من الأوس بن حارثة» انتهى.

وهكذا فقد أسلم بنو عبد الأشهل، وتتابعت معهم أكثر دور الأوس، فكان لإيمان هذين الرجلين وهما سيدا قومهما أثر عظيم على مسار الدعوة في المدينة، وبالتالي جاهزية أهل النصرة والمنعة من الأوس والخزرج على السواء، ففي مكة عاند كبراء القوم وكذبوا فكان أن صدوا جمهرة الناس عن الدعوة، أما جل سادة القوم من أهل المدينة فكانت نفوسهم للخير محبة وعقولهم للحق مستجيبة، فكانت النتيجة أن قامت دولة الحق في أرضهم، ومنها صوب العالم انطلقت وتوسعت حاملة رسالة الحق هداية للناس أجمع.

أول من جمّع بالمسلمين

ومن فضائل هذا الصحابي الجليل أنه كان أول من صلى جمعة بالمسلمين، وقيل كان مع مصعب (رضي الله عنه).

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف، عن أبيه أبي أمامة عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال كنت قائد أبي، كعب بن مالك، حين ذهب بصره فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان بها صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة. قال فمكث حيناً على ذلك لا يسمع الأذان للجمعة إلا صلى عليه واستغفر له. قال فقلت في نفسي: والله إن هذا بي لعجز، ألا أسأله ما له إذا سمع الأذان للجمعة صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة؟ قال: فخرجت به في يوم جمعة كما كنت أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة صلى عليه واستغفر له. قال فقلت له: يا أبت، ما لك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟ قال: أي بني، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت، مِنْ حَرّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ، قال قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال أربعون رجلاً.

مبايعته النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيعة العقبة الثانية كنقيب عن قومه:

في موسم الحج من السنة الثالثة عشرة للبعثة، وصل مصعب بن عمير (رضي الله عنه) مكة يزف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبار أهل المدينة وما تحقق فيها من إيمان واسع ومنعة كافية لنصرة دين الإسلام ونبي الإسلام، فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة عمه قد شكا لربه جفاء قومه له ولدينه، قال تعالى: (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) [الزخرف 88] كما كان قد سأل ربه السلطان النصير قال تعالى (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) [الإسراء 80] فأمره ربه أن يطلب النصرة من القبائل، فكان يبحث عن أهل القوة والمنعة ممن يؤمن بالدعوة وينصرها، ينقل الإمام الطبري عن قتادة وقد اختاره، في هذه الآية (وإن نبيّ الله علم أن لا طاقةَ له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله عزّ وجلّ، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله). «قال أبو حاتم إن الله عز وجل وعلا أمر رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الله وحده، وأن لا يشركوا به شيئاً وينصروه ويصدقوه».

  وبالفعل فقد تحققت هذه النصرة هناك في المدينة، إذ استجاب من سادة القوم ما يمكن من تحقيق النصرة والإيواء، فكانت بيعة العقبة الثانية بيعة على السلطان النصير، والطاعة التامة في المنشط والمكره لولاة الأمور، وأنقل هنا هذه الرواية والتي تكشف بعض بنود هذه البيعة، كما وتكشف لنا عن الدور الأساسي لأسعد بن زرارة (رضي الله عنه) في هذه البيعة، وهي رواية أكدت ما ورد فيها من معانٍ روايات أخرى كثيرة.

«في مسند عقيل بن أبي طالب أن العباس ابن عبد المطلب قال لهم: يا معشر الأوس والخزرج، هذا ابن أخي وهو أحب الناس إلي، فإن كنتم صدقتموه وآمنتم به وأردتم إخراجه معكم فإني أريد أن آخذ عليكم موثقاً تطمئن به نفسي ولا تخذلوه ولا تغروه، فإن جيرانكم اليهود وهم لكم عدو ولا آمن مكرهم عليه، فقال أسعد بن زرارة، وشق عليه قول العباس حين اتهم عليه أسعد وأصحابه: يا رسول الله، إيذن لي فلنجبه غير مخشنين لصدرك ولا متعرضين لشيء مما تكره إلا تصديقاً لإجابتنا إياك وإيماناً بك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أجيبوه غير متهمين، فقال أسعد بن زرارة، وأقبل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله إن لكل دعوة سبيلاً، إن ليناً وإن شدة، وقد دعوتنا اليوم إلى دعوة متجهمة للناس متوعرة عليهم، دعوتنا إلى ترك ديننا واتباعك إلى دينك وتلك مرتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك، ودعوتنا إلى قطع ما بيننا وبين الناس من الجوار والأرحام والقريب والبعيد وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك، ودعوتنا ونحن جماعة في عز ومنعة لا يطمع فينا أحد أن يرأس علينا رجل من غيرنا قد أفرده قومه وأسلمه أعمامه وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك وكل هؤلاء الرتب مكروهة عند الناس، إلا من عزم الله على رشده والتمس الخير في عواقبها، وقد أجبناك إلى ذلك بألسنتنا وصدورنا إيماناً بما جئت به وتصديقاً بمعرفة ثبتت في قلوبنا، نبايعك على ذلك ونبايع الله ربنا وربك، يد الله فوق أيدينا، ودماؤنا دون دمك، وأيدينا دون يدك، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا، فإن نف بذلك فبالله نفي ونحن به أسعد، وإن نغدر فبالله نغدر ونحن به أشقى، هذا الصدق منا يا رسول الله، والله المستعان، ثم أقبل على العباس بن عبد المطلب بوجهه، وأما أنت أيها المعترض لنا القول دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالله أعلم بما أردت بذلك، ذكرت أنه ابن أخيك وأنه أحب الناس إليك، فنحن قد قطعنا القريب والبعيد وذا الرحم ونشهد أنه رسول الله أرسله من عنده، ليس بكذاب وإن ما جاء به لا يشبه كلام البشر. وأما ما ذكرت أنك لا تطمئن إلينا في أمره حتى تأخذ مواثيقنا، فهذه خصلة لا نردها على أحد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخذ ما شئت، ثم التفت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، خذ لنفسك ما شئت، واشترط لربك ما شئت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم، وقالوا: فذلك لك يا رسول الله.»

ولم يكتف (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلك الشروط التي شرطها لنفسه ودينه وصحبه، بل طلب منهم نقباء على قومهم «‏أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ ‏ ‏نَقِيبًا ‏ ‏يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ» فكان أبو أمامة سعد بن زرارة (رضي الله عنه) من أول النقباء، ولم يكن في النقباء من هو أصغر منه  بل إن بني النجار كانوا يقولون إنه أول من ضرب على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولا يخفى على أحد أهمية هذه البيعة، فقد كانت سبباً في الهجرة وإقامة الدولة، حتى إن قريشاً قد ارتعبت لما سمعت بخبرها، فجمعت وفد أهل المدينة للحج مسلمهم ومشركهم يستحلفونهم عن أمر البيعة، لكن المشركين منهم وهم الأغلب يومها لم يكونوا على علم بما وقع في تلك الليلة، فحلفوا بأنه لم يقع بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شيء، ولما تأكدت قريش من خبر البيعة لحقوا بهم في الطريق وحجزوا منهم رجلين.

في الثاني عشر من ربيع الأول، وبناء على هذه البيعة، هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  للمدينة المنورة ووصل إليها ليستلم زمام الأمور والقيادة فيها، وكانت كل قبيلة تسعى لتنال شرف النـزول، إذ انطلقت ناقته (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار، وهم أخواله، اعترضه سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَبُو سَلِيطٍ أَسِيرَةُ بْنُ أَبِي خَارِجَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْن النّجّارِ، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك، إلى العدد والعدة والمنعة، قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» فخلوا سبيلها، فانطلقت.

أسعد بن زرارة وبناء المسجد

قال الزهري: بركت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند موضع مسجده، وكان مربداً لسهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار، كانا في حجر أسعد بن زرارة. فساوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغلامين بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاشتراه منهما بعشرة دنانير .

وكان يصلي فيه ويجمع أسعد بن زرارة قبل مقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الصحيح أنه قال: يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم. قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله .

وفاته (رضي الله عنه).

توفي (رضي الله عنه) بعد ستة أشهر من مقدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشهقة، قال ابن إسحاق: وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة، والمسجد يبنى، أخذته الذبحة أو الشهقة.

 فقالت اليهود: لو كان نبياً لم يمت صاحبه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئاً».

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر ابن قتادة الأنصاري: أنه لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة، اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان أبو أمامة نقيبهم، فقالوا له: يا رسول الله، إن هذا قد كان منا حيث قد علمت، فاجعل منا رجلاً مكانه يقيم من أمرنا ما كان يقيم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: «أنتم أخوالي، وأنا بما فيكم، وأنا نقيبكم» وكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخص بها بعضهم دون بعض . فكان من فضل بني النجار الذي يعدون على قومهم أن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقيبهم.

وعندما مرض أسعد بن زرارة، وعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمرضه، ذهب يزوره فوجده مريضًا بالذبحة، ثم مات (رضي الله عنه) وقد أوصى أسعد ببناته إلى رسول الله وكن ثلاثًا، فكن في رعاية رسول الله وكفالته.

ولمّا توفي أسعد بن زرارة حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غُسْلَه، وكفّنه في ثلاثة أثواب منها بُرد، وصلى عليه، ورُئي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمشي أمام الجنازة، ودفنه بالبقيع…

قال البغوي: إنه أول من مات من الصحابة بعد الهجرة، وإنه أول ميت صلّى عليه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم). وروى الواقدي من طريق عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: أول من دفن بالبقيع أسعد بن زرارة. وهذا قول الأنصار.

إن أمتنا اليوم وهي تتطلع إلى الخلافة وتبحث عن أسباب إقامتها، لهي بأمس الحاجة للاقتداء بسيرة هؤلاء العظماء أمثال هذا الصحابي الجليل، الذي قدم في أقل من ثلاث سنوات أعمالاً جليلة عظيمة، تستحق منا أن نترسمها ونهتدي بهديها، عسى الله تعالى أن ييسر على أيدينا إعادة عز الإسلام بأمثال هؤلاء وتحكيم القرآن وتعظيم سنة خير الأنام، كما ونسأل الله العلي القدير أن يمنحنا إيماناً مثل إيمانهم، وإخلاصاً مثل إخلاصهم، وتفانياً للإسلام مثل تفانيهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *