العدد 269 -

العدد 269- السنة الثالثة والعشرون، جمادى الآخرة 1430هـ، الموافق حزيران 2009م

المواقف الفاصلة… تحتاجها أمتنا اليوم

المواقف الفاصلة… تحتاجها أمتنا اليوم

 

في حياة كل أمة من الأمم، وفي حياة كل قائد، توجد أيام فاصلة بين الحق والباطل، بين النصر والهزيمة، بين العزة والذلة، بين التمكين والاستضعاف… أيام أثّرت في حياة الجيل التي عاشها فعبدت له طريق النهضة والرفعة، طريق القوة والعزة، طريق التمكين والاستعلاء على الباطل… أيام لم يقتصر تأثيرها على الأجيال التي عاشتها، بل إنها أثرت في الأجيال التي جاءت بعدها، لأنها كانت نبراساً أنارت معالم طريق النصر والكرامة… من هذه الأيام التي نتحدث عنها تلك التي سبقت قيام دولة الإسلام، وإننا إذ نتحدث عن هذه الفترة الزمنية، لا نتحدث عنها كتاريخ فقط كما يذكرها العلماء اليوم في ذكرى الهجرة، ولا نتحدث عنها كقصة نرويها لأطفالنا، ولكننا نفهمها كأحكام شرعية اقتداءً بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكحد فاصل بين مرحلتين من مراحل الدعوة التي عاشها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون معه… فقد كانت بيعة الأنصار للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند العقبة هي الموقف الفاصل بين مرحلة الاستضعاف والمهانة التي كان يحياها المسلمون قبل الهجرة، ومرحلة القوة والتمكين والعزة التي عاشها المسلمون في المدينة بعد الهجرة… هذه البيعة كانت الحد الفاصل بين مرحلة القلة وضعف النصير قبل الهجرة، ومرحلة التجمع في مجتمع إسلامي يطبق حدود الله ويقيم شرعه ويجاهد في سبيل إعلاء كلمته.. كانت الحد الفاصل بين دار الكفر في مكة وبين الاستقرار والعزة والتمكين في دار الإسلام في المدينة المنورة… تلك اللحظات كانت إيذاناً بإعلان أول دولة إسلامية في التاريخ. إن تلك المواقف المشرقة للرجال تشحذ الهمم والعزائم لحملة الدعوة كي يجتهدوا في هذه الطريق طريق إقامة الخلافة الإسلامية.

ولهذا كان لابد من فهم الأحداث التي عاشها المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاصة التي سبقت قيام الدولة. فكما يقول ابن هشام في السيرة: «لقد تحجر المجتمع المكي في وجه دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يعد هناك أمل في إسلام أهل مكة، ولم يعد هناك أحد يجرؤ على الدخول في الإسلام بسبب بطش رؤوس الكفر وتنكيلهم لمن يدخل في دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). حينها خرج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يبحث عن قوم أهل قوة ومنعة يعرض نفسه عليهم لعلهم يأخذونه وينصرونه، فخرج إلى الطائف، وهناك عرض نفسه على سادة ثقيف، وهم ثلاثة إخوة، فأبوا عليه وطردوه فعاد…» وهناك دعا دعاءه المشهور: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين أنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري».

ثم أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يتنقل بين القبائل يعرض نفسه عليهم، فقال لكندة: «هل من رجل يأخذني إلى قومه حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعتني أن أبلغ كلام ربي، وتكبرت على كلام الله، وتكبرت على رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد» وبعد أن قال له بنو عامر بن صعصعة: أرأيت إن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من عاداك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ أجابهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «الأمر لله يجعله حيث يشاء» -لم يشأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحد أن يقبل هذا الدين لأمر دنيوي-. أما غيرهم فقد استجابوا قائلين «سنقاتل معك إلى ما دون الماء» يقصدون حدود الجزيرة العربية فقط، فقال لهم «من أراد أن يأخذ هذا الأمر فليأخذه من جميع جوانبه» فلم يقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الأمر مشروطاً أو ناقصاً مع شدة الحاجة إلى ما يدعوهم إليه.

واستمر النبي الكريم يتنقل بين القبائل، يعرض نفسه عليهم، رغم الصد والرفض القبيح من بعضهم. وهذا دليل على أن هذه طريق كانت ملزمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وملزمة لمن يقتفي أثره في استلام الحكم عن طريق طلب النصرة من أهل القوة والمنعة.

واستمرّ النبي الكريم يدعو لنصرة هذا الدين حتى يسّر الله له لقاء ستة نفر من الخزرج في المدينة، وكانوا أسبق من يهود إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولما جاؤوا في موعدهم في الموسم القادم اثني عشر رجلاً وبايعوه في العقبة الأولى بيعة النساء إذ لم تكن عندهم قوة بعد، وبعث معهم مصعب بن عمير (رضي الله عنه) عادوا إليه في الموسم الذي بعده، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، وفيهم القوة والمنعة، وبايعوه في العقبة الثانية بيعة النصرة بيعة الحرب، بيعة قيام هذا الدين، فكانت أخطر عقد بين أشرف متعاقدين لنصرة أشرف دين.

وكان مما قاله هؤلاء النفر للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا رسول الله خذ لربك ولنفسك ما شئت» فتلا عليهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «تبايعونني على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى أن تقوموا بالحق حيث كنتم ولا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى ألا تنازعوا الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أموالكم وأبناءكم ونساءكم» فقال البراء بن معرور: يا رسول الله، بايعنا، فإنا أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر، فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا لقاطعوها (أي وبيننا وبين اليهود عهوداً ومواثيق) فهل عسيت إن أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم». فهمَّ القوم بالبيعة فاعترض سعد بن عبادة قائلاً: مهلاً أيها القوم، أتعلمون علام تبايعون الرجل، إنكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر من الناس، فإنكم إن رأيتم أنه إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن فدعوه، فإنه والله خزي الدنيا والآخرة. وإنكم إن رأيتم أنكم وافوه ما وعدتموه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فإنه والله عز الدنيا والآخرة، فقالوا إنا نأخذه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا إن نحن وفينا بذلك؟ قال: «الجنة» فقام البراء بن معرور (رضي الله عنه) وكان أول من بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتتابع القوم على بيعته. -لم يكن أحد يعلم بأمر هذه البيعة، ولم يكن يرقب هذا الأمر من أعداء الله سوى الشيطان يعض على أنامله، فلما أن بايع القوم صرخ بأعلى صوته: يا أهل الأخاشب (الجباجب) هل لكم في محمد والصباة معه قد أجمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: «انفضوا إلى رحالكم» فعاد القوم متسللين، وآب كل منهم إلى فراشه… وهكذا تم أخطر عقد في تاريخ البشرية… أقول: أين كان طواغيت الأرض من هذا العقد وهذه البيعة؟ أين كان مشركو مكة وقد ترتب على هذا العقد فيما بعد فتح مكة وإزالة سلطان طواغيتها؟ أين كان مشركو العرب وقد ترتب على هذا العقد فيما بعد أن ينادي منادٍ ألا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان؟ أين كان كسرى وقد ترتب على هذا العقد فتح المدائن وزلزلة عرشه؟ أين كان قيصر وقد ترتب على هذا العقد فتح القسطنطينية؟.. لقد كانت هذه البيعة وهذا العقد التاريخي بحق أخطر عقد في تاريخ البشرية؛ لأنه ترتب عليه إقامة دولة إسلامية وأول دار إسلام غيرت مجرى التاريخ البشري.

فأين رجال اليوم من هذه المواقف الغراء؟ أين نجد مثل أولئك النفر من الأنصار الذين يتخذون المواقف الرجولية لإنقاد البشرية اليوم من ظلم الطواغيت؟ أين هم صانعو التاريخ من جديد لتحرير الإنسان وإعادة كرامته التي ضيعتها هذه الأنظمة الفاسقة الظالمة؟ أين هم أصحاب القوة والمنعة لكي ينصروا الدعوة من جديد لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة؛ لكي تفتح روما ولا يبقى بيت حضر ولا مدر إلا ويدخله الإسلام.

إن الأمة لا تعجز أن تلد مثل هؤلاء الرجال، وهم موجودون، ولكنهم يحتاجون لاتخاذ المواقف الفاصلة؛ فينالون عز الدنيا والآخرة. نسأل الله أن يهيئ للأمة أهل نصرة ومنعة ليعيدوا للأمة عزها ومجدها، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وعلى الله قصد السبيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *