العدد 128 -

السنة الحادية عشرة – رمضان 1418 – كانون الثاني 1998م

غـزوة بـدر الكـبـرى

غـزوة بـدر الكـبـرى

(17 رمضان السنة الثانية للهجرة)

قال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ@  الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ @ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) نزلت آية القتال هذه أثناء هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما صار المسلمون إلى المدينة وكانت لهم شوكة وعضد نزل عليهم قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

وما إن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وبدأت أحكام الإسلام تنزل تباعاً لتنظم حياة النّاس والدولة حتى بدأ صلى الله عليه وسلم الجهاد ضد الكفر والكيانات الكافرة في الجزيرة، وكان أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس سبعة أشهر من مقدمه المدينة لعمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه على ثلاثين راكباً إلى ساحل البحر من ناحية العيص. وهي طريق قريش التي كانوا يأخذونها إلى الشام. ثم عقد الرسول صلى الله عليه وسلم لواء لعبيدة بن الحارث في سرية إلى بطن رابغ. ثم سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار، وهو موضع بالحجاز. ثم غـزا الرسول صلى الله عليه وسلم ودّان، وهو جبل بين مكة والمدينة ويقال لها أيضا غزوة الأبواء وهي أول غزوة غزاها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه. وهكذا توالت الغزوات والسرايا حتى غزوة بدر الكبرى، فكانت أربع غزوات وأربع سرايا، ثم جاء شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة الذي وقعت فيه غزوة بدر الكبرى، وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله تعالى فيها بين الحق والباطل وأعز الإسلام ودمغ الكفر وأهله.

ولا أحب أن أطيل بتفصيلات أحداث غزوة بدر وذلك لمعرفتكم بها، ولكن أريد أن نقف على بعض أحداثها لنستلهم منها العبرة ونقتدي برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وبصحبه الذين اتبعوه.

كانت عِدّة المسلمين في بدر ثلاثمائة وخمسة عشر رجلا من المهاجرين والأنصار، وكان معهم فارسان فقط وسبعون بعيراً يعتقب الرجلان والثلاثة والأربعة على البعير الواحد. بينما كانت عِدّة الكفار تسعمائة وخمسين رجلاً، أكثرهم من قريش، ومعهم مائتا فارس وعدد كبير من الإبل لركوبهم وحمل أمتعتهم.

فعدة المسلمين كانت شيئاً لا يذكر بالنسبة لعدة الكفار، ولكن هذا لم يمنعهم من المضي في القتال، ذلك لأنّ الإسلام علمهم أن عليهم أن يُعِدّوا ما يقدرون عليه من عُدَّة، وأن يتوقعوا النصر من الله تعالى، بل من المناسب أن نقول إن جلّ الحروب التي خاضها المسلمون ضد أعدائهم كانت عددهم فيها أقل من عدد أعدائهم.

وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول الله خيراً ودعا له بخير.

ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في العريش في بدر وأصحابه على صفوفهم اضطجع فغشيه نوم غلبه، وكان صلى الله عليه وسلم قد قال: لا تقاتلوا حتى أوذنكم، وإن كثبوكم – أي دنوا منكم – فارموهم، ولا تسلوا السيوف حتى يَغْشَوْكم، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، قد دنا القوم وقد نالوا منا، فاستيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول: اللهم إن تظهر على هذه العصابة يظهر الشرك ولا يقم لك دين، وأبو بكر يقول: والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك.

فلما تزاحف النّاس قال الأسود بن عبد الأسد المخزومي حين دنا من الحوض: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه، فشد حتى دنا منه فاستقبله حمزة بن عبد المطلب فضربه فقطع قدمه فزحف الأسود حتى وقع في الحوض فهدمه برجله الصحيحة فشرب منه وحمزة يتبعه فضربه في الحوض فقتله.

ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا فصلوا من الصف خرج إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً، فبارز عبيدة عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز عليّ الوليد، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن  قتله، وأما عليّ فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين وكلاهما ضرب صاحبه فجرحه فقد ضرب عبيدة بن الحارث رضي الله عنه عتبة بن ربيعة ضربة أرخت عاتقه الأيسر فدنا عتبة من عبيدة فضرب رجله بالسيف فقطع ساقه فرجع حمزة وعليّ على عتبة فأجهزا عليه وحملا عبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وقد قطعت رجله ومخها يسيل فأدخلاه على النبي صلى الله عليه وسلم فأضجعه رسول الله ووسده رجله وجعل يمسح الغبار عن وجهه فقال عبيدة: أما والله يا رسول الله لو رآني أبو طالب لعلم أنى أحق بقوله منه حين يقول:

             ونسلمه حتى نصرَّع حوله

                        ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وقد قال أبو طالب هذا البيت في مدح رسول الله وفي الدفاع عنه.

ثم قال عبيدة لرسول الله: ألست شهيداً؟ فقال رسول الله: «بلى، وأنا الشاهد عليك» ثم مات فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفراء وهو واد بين المدينة وبدر ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره وما نزل في قبر أحد غيره.

ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النّاس يحرضهم قال: والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، فقال عمير بن الحُمام وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلاّ أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتل.

كما أن عوف بن الحارث رضي الله عنه قال: يا رسول الله، ما يُضحك الرب من عبده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غمسه يده في العدو حاسراً، فنزع عوف درعاً كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتل.

وقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في التضحية وكان أروع ما في بدر هو تلك العقيدة العظيمة التي صنعت من هؤلاء النفر عباداً خالصين لله تعالى لم يتأثروا بقتال أهلهم وذويهم، فقد قتل أبو عبيدة عامر بن الجراح أباه، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر لأبيه الصديق: لقد تمكنتُ منك في بدر بمقتل فصددتُ عنك. فردّ عليه الصدّيق رضي الله عنه: ولكني لو كنت رأيتك لقتلتك، كما روى ابن هشام أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص: إني أراك كأن في نفسك شيئاً، أراك تظن أنى قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور بقرنه فحِدت عنه وقصد له ابن عمه عليّ فقتله.

هذا يقتل أباه في سبيل الله وذاك يقتل خاله، الأب يُقتل على يد ابنه والابن يقتل على يد أبيه والخال والعم وابن العم، أية عقيدة هذه التي أوجدت هذه النفسيات وصفتها من كل عرقية وقبلية وقومية وعائلية.

ولما التحم القتال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه يسأل الله النصر وما وعده ويقول: «شاهت الوجوه، اللهم أرعب قلوبهم وزلزل أقدامهم» فانهزم أعداء الله لا يلوون على شيء وألقوا دروعهم والمسلمون يقتلون ويأسرون، وما بقي منهم أحد إلاّ وما يدري أين يتوجه، وذلك قوله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

وبينا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يجمع أدراعاً بعد أن ولّى النّاس إذا أمية بن خلف وابنه عليّ فأخذ يسوقهما أمامه إذ بصر به بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنه، فنادى: يا معشر الأنصار أمية بن خلف رأس الكفر، لا نجوتُ إن نجا، فأقبلوا حتى طرح أمية على ظهره، فقطع الحُبابُ بن المنذر أرنبة أنفه وضربه خُبيب بن يساف حتى قتله. وقتَل عمارُ بن ياسر عليَّ بن أمية بن خلف.

وقتل عليّ رضي الله عنه عبدَ الله بنَ المنذر وحرملةَ بنَ عمرو وهو يظنهما أبا جهل عليه لعنة الله، وكان أبو جهل في مثل الحرجة وهي الشجر الملتف والمشركون يقولون: أبو الحكم لا يُخْلَص إليه، فصمد معاذ بن الجموح إلى أبي جهل وأبو جهل يرتجز:

    ما تنقم الحرب العَوان مني    بازل عامـين حديثٌ سني

                    لمثل هـذا ولدتني أمي

فضربه معاذ فطرح رجله من الساق فأقبل عكرمة بن أبي جهل فضرب معاذاً على عاتقه فطرح يده فتعلقت بجلدة من جنبه، فظل يقاتل ويده يسحبها خلفه، فلما آذته وضع عليها قدمه وسحبها حتى قطعها وتخلص منها، وضرب أبا جهل مع معاذٍ معوّذُ وعوفٌ ابنا عفراء، ولما وضعت الحرب أوزارها أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلتمس أبو جهل في القتلى فالتمسه عبد الله بن مسعود في القتلى فوجده بآخر رمق فوضع رجله على عنقه ثم قال له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ فرد أبو جهل: أعار على رجل قتلتموه؟ أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ فقال ابن مسعود: لله ورسوله، فقال أبو جهل: لقد ارتقيتَ مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم، فضربه عبد الله فقطع رأسه وجاء بها إلى رسول الله وقال له: يا رسول الله هذه رأس عدو الله أبي جهل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم قد أنجزت ما وعدتني فتمم علي نعمتك، ووقف رسول الله على عوف ومعوذ ابنيْ عفراء وقد قُـتِلا فقال: يرحم الله ابنيْ عفراء فإنهما قد شركا في قتل فرعون هذه الأمّة ورأس أئمة الكفر.

وكانت أحداث غزوة بدر هي البادئة الأولى في فتح جزيرة العرب بالإسلام بعد أن عاشت في جاهلية جهلاء، وكانت مواقف المسلمين فيها خير دليل على صدق إسلامهم، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال فيهم: «لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم إني قد غفرت لكم» ولم تزل الأمّة فيها الكثير من البدريين الذين وهبوا أنفسهم لله تعالى وقدموا التضحيات رخيصة في سبيله، ولم يزل العالم بحاجة إلى الكثير منهم لإنقاذه من الضياع والانحطاط والهوان.

وإننا لا نزال بأشد الحاجة إلى التزود من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، وإن أشد ما نحن بحاجة إليه في هذا الزمان هو عودة الإسلام إلى واقع الحياة وعودة الجهاد في سبيل الله تعالى، الجهاد الذي شرعه الله تعالى لحمل الإسلام إلى العالم، ودكّ كيانات الكفار وهدم رؤوس الكفر كأبي جهل وأمثاله، ممن يعملون على الحيلولة دون عودة الإسلام إلى الحياة وممن يواصلون الليل بالنهار ليعيقوا توحد المسلمين تحت راية (لا إله إلاّ الله  محمد رسول الله) وممن يقض مضجعهم أن تعود الخلافة الراشدة التي بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انقطاع، والتي ستعيد للمسلمين وللعالم أمجاد غزوة بدر التي سحق الله بها صناديد الشرك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *