العدد السادس -

السنة الأولى، العدد السادس ربيع الأول 1408هـ، الموافق تشرين ثاني 1987م

سياسة تدعو للإسلام

بقلم: هيثم بكر

ليست السياسة فن الممكنات، ولا أفضل الممكنات، ولكنها فعالية مؤثرة في الممكنات لتحويلها على ما نريد. وليست السياسة كذباً ودجلاً وخداعاً، ولكنها صورة مشرقة عن الإسلام ودعوته السامية. وهذا رسول الله ﷺ يعلّمنا كيف نستعين بالمناورات السياسية لإيجاد رأي عام لصالح الدعوة الإسلامية مما يساعد على انتشارها، في صدق كامل ووفاء عهد.

بعدما فرّت قريش والأحزاب من وجه المسلمين وارتحلوا إلى بلادهم، وكفى الله المؤمنين القتال، كان لا بد من إنهاء أمر يهود بني قريظة وقد فعلوا ما فعلوه من نقضهم العهد، وغدرهم بالمسلمين.

حكم يرضاه الله

فعن الزهري أن جبريل أتى النبي فقال: أوَقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال جبريل: فما وضعَت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامة إليهم فمزلزِل بهم. فأمر الرسول بالمسير على الفور إلى بني قريظة لتأديبهم وقد خانوا العهد، وكادوا يفتكون بالمسلمين.

ونزل المسلمون على بئر من آبار القوم، يقال لها بئر أنا. وحاصرهم النبي خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب. فنزلوا على حكم رسول الله ، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت ـ وقد كان قد حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، فوهبهم له ـ فلما كلّمه الأوس قال: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك إلى سعد بن معاذ. فجيء به فحملوه على حمار ـ وكان أصيب بسهم في الخندق ـ وقالوا له: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله إنما ولاّك ذلك لتُحسن فيهم، فقال: لقد أني لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. ثم حكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال الرسول لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.

تأديبات خارجية

وبذلك حسم النبي الوضع في المدينة لصالحه، واستعاد هيبة الدولة الإسلامية في نفوس الناس. وكان لا بد من بعض التأديبات الخارجية لأعداء الإسلام. فقد خرج الرسول مع المسلمين ف جمادى الأولى لسنة ست يريد بن لحيان، وهم الذين غدروا بستّة من أصحاب الرسول بعد معركة أحد، لكنهم اعتصموا منه بأعالي الجبال. وفي شعبان سنة ستّ، غزا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بني المصطلق من خزاعة، فلقيهم عند بئر مريسع. فتزاحف الناس واقتتلوا، وهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم.

تواطؤ على الإسلام

وبذلك استتب الأمر للدولة الإسلامية، فغدت قوّة مرهوبة الجانب. وكان لا بد من فترة هدوء يمكن للناس أن يتحادثوا ويتحاوروا في شأن الإسلام، بحيث تنتشر الدعوة الإسلامية بين العرب. وإذ علم النبي بتواطؤ أهل خيبر من اليهود مع مشركي قريش، واتفاقهم على أن يميلوا ليحاربوا المسلمين رغبة في القضاء عليهم، وجد أنه لا بدّ من مهادنة أحد الطرفين ليتسنّى له القضاء على الكفار كل على حدة، فرأى في الحجّ خير وسيلة يتّبعها للوصل إلى مهادنة قريش من جهة وإلى تأليب الرأي العام لصالح الإسلام والدعوة الإسلامية. فإن الناس إذا رأوا أن قريشاً هي المعتدية والمتعنّتة، فإن ذلك يسهّل الدعوة الإسلامية.

خطة سلميّة

ففي ذي القعدة لسنة ست، خرج النبي بالمسلمين معتمراً، وساق أمامه الهَدْيَ وأحرم بالعمرة ليظهر للناس أنه لا يريد حرباً، وإنما يريد العمرة إلى بيت الله الحرام. واستنفر معه العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا، أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت. فإذا فعلت ذلك قريش، كان ذلك في مصلحة الدعوة الإسلامية ودعاية ضدّها. ولذلك لم يأذن الرسول للناس أن يحملوا سلاحاً إلا السيوف في أغمادها.

وخرج الرسول في ألف وأربعمائة من أصحابه يريد مكّة. ويلغ الخبر قريشاً، فخافوا أن يكون ذلك حيلة ليدخل المسلمون مكة على أصحابها، فقررت منعه مهما كلّفهم ذلك. فجهزوا جيشاً وعقدوا عليه خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فعسكروا بذي طوى. وجاء الخير النبي أن قريشاً قد سمعوا بمسيره، فخرجوا وقد لبسوا جلود النمور يحلفون بالله لا يدخلها عليهم غنوة أبداً، فلما سمع ذلك قال: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة، فما تظنّ قريش، فوا لله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة»، يعني أنه سيظلّ يجاهد حتى ينتصر أو يموت.

حنكة وبراعة

لكنَّ رسول الله قد خطّط للسلم، ولم يهيّئ حرباً، ولكن قريشاً أرسلت إليه جيشاً لتقاتله. أيغيّر خطة السلم أم يرجع؟ وقد كان يعلم أن المسلمين بإيمانهم قادرون على الاشتباك مع قريش، ولكنّه جاء ليحجّ مسالماً، ولو مُنع من ذلك فإنه يريد منعاً سلمياً ولا يريد حرباً. فخطّة السلم هذه من شأنها إيجاد رأي عامّ عند العرب كافة عن الدعوة الإسلامية، وسموها، وإيجاد رأي عام كذلك عند العرب وفي مكة عن خطأ قريش وضلالها، وفجورها وعدوانها، ممّا يسهل الدعوة. فمثل هذه الأجواء تجعل الناس يستمعون إلى الإسلام حتى في قريش بدل أن تعميهم الأحقاد والثارات والضغائن، وهذا عامل كبير يساعد على انتشار الإسلام. فإذا حارب فقد يفوّت عليه هذه الناحية. لذلك فكّر النبي فيما يصنع، وقرّر مواصلة خطة السلم، ببراعة وحنكة وذكاء سياسيّ.

وسار الرسول بالمسلمين في شعاب وعرة في غفلة عن القوم، حتى نزل بواد أسفل مكة في مكان يسمّى الحديبية. فلما رآهم جيش خالد وعكرمة، كرّوا راجعين إلى مكّة خوفاً من أن يدخلوها. وانتظر الرسول حتى ترسل إليه قريش من يكلمه، لأنه يعلم أنها باتت تخشاه، وتحسب له ألف حساب.

المفاوضات

وبالفعل أرسلت قريش بُدَيْل بن ورقاء في رجال من خزاعة لمفاوضته، فكلّموه واقتنعوا أنه إنما جاء للعمرة لا للقتال. ولما عادوا إلى قريش عابوهم واتهموهم بممالأة محمد وأصحابه. فأرسلت وقداً آخر، فكان كالوفد الأول. ثم أرسلت الحليس سيد الأحابيش ـ وهم حلفاء قريش من القبائل المحيطة بمكة، وكانت قريش تعتمد عليهم في الدفاع عن مكّة، ولمّا علم النبي بقدومه أمر الهَدْي من الأنعام أن تطلق أمامه ـ وكان رجلاً يعظم شعائر العبادة. فلما رأى الإبل في عرض الوادي، والمسلمين معتمرين تأثّر لهذه المناظر، ورجع إلى قريش وأمرهم أن يسمحوا لمحمد بالعمرة، لكنهم أسكتوه واستمهلوه.

ثم إن الرسول أرسل رسولاً ليفاوضهم، فعقروا ناقته وأرادوا قتله لولا حماية الأحابيش له. واشتدّت قريش في عنادها، حتى أنَّها كانت ترسل صبيانها في الليل يرمون المسلمين بالحجارة. وحدث أن خمسين من هؤلاء خرجوا لذلك فأخذوا أسرى، فعفا عنهم النبي ، فكان لذلك الأثر الأكبر في مكة، والدليل القاطع على أنه إنما يريد العمرة. فوجد بذلك رأي عام في مكة إلى جانب المسلمين.

ثم أرسل النبي عثمان بن عفّان رضي الله عنه إلى مكة ليفاوض القوم. فكان حديث وأخذ ورد، وطالت المفاوضات، حتى وصل الخبر إلى المسلمين أن عثمان قد قتل. وهنا تغير وجه الأمر، وصار لا بد من القتال بعد عُدوان قريش على رسول المسلمين عثمان. فاجتمع المسلمون إلى النبي صلى الله عيه وسلم تحت الشجرة يبايعونه على قتال المشركين. وفيهم نزل قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة). واشتدّ غليان المسلمين، حتى وصل الخبر أن عثمان لم يقتل.

معاهدة الحديبية

وأرسلت قريش إلى المسلمين سهَيْلاً بن عمرو يفاوض النبي في عهد، على أن يرجع العامَ إلى المدينة ولا يدخل مكة العام، لئلا تتحدّث العرب أن المسلمين دخولها على قريش عنوة. وبعد اتفاق النبي مع سهيل، توصل إلى هدنة مع قريش مدّتها عشر سنوات، وفيها:

1- أن تكون هدنة فلا يقتتل القوم.

2- إن من أسلم من قريش وجاء محمداً بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن ارتدّ من المسلمين وجاء قريشاً لم يردّوه عليه.

3- وإن من أحبّ من العرب محالفة محمّد فلا جناح عليه، ومن أحبّ محالفة قريش فله ذلك.

4- أن يرجع محمد وأصحابه عامهم هذا، ويحجّوا إلى مكة العالم التالي.

وأعطى النبي العهد وسط هياج المسلمين وغضبهم، لأنهم ظنّوا أنهم قد أعطو بذلك الدنية في دينهم. لكن المسلمين عندما رأوا النبي ، وما عليه من السكينة والرضا، وقد تحلّل وحلق إذاناً بالعمرة، تواثبوا يحلقون ويتحلّلون ويقصّرون، وعادوا إلى المدينة.

فتح مبين

وفي الطريق إلى المدينة، نزلت سورة الفتح كاملة، وقد بيّنت للناس أن العهد إنما كان لمصلحة المسلمين، وقد سمّاه الله تعالى فتحاً مبيناً: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً). وقد كانت المعاهدة فتحاً مبيناً ولا شك، حيث أقبل الناس بعد ذلك على الدخول في الإسلام، فما حُدّث به رجل إلا أسلم. وقد ازداد عدد المسلمين خلال فترة المعاهدة، فإذا سار المسلمون إلى الحديبية سنة ست في ألف وأربعمائة، فقد ساروا إلى مكة سنة ثمان في عشرة آلاف مسلم.

كما إن من ردّوا من المسلمين الهاربين من مكة قد اعتصموا في طريق قوافل قريش يُغيرون عليها ويضيّقون على تجارتها، حتى استصرخت المسلمين ورجتهم أن لا يردّ,ا من يخرج إليهم.

ومن ذلك يتبين لنا كيف يستعمل الإسلام الأساليب السياسية في الدعوة إلى الإسلام. فبالإضافة إلى الجهاد ـ وهو طريقة حمل الدعوة ـ لا بد من إعطاء صورة مشرقة عن الإسلام، فتصبح الدعوة إليه أسهل، ويقوى المسلمون. فعليان بتلك الأساليب، والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *