العدد 137 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الآخرة 1419هـ – تشرين الأول 1998م

الخشـوع

الخشـوع

قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) وقال: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ). الخشوع هو الومضة الإيمانية الدافقة التي تؤنس المؤمن في حياته. وهذه البارقة شهادة صدق على يقينه الراسخ بدينه ومبدئه. لذا نال درجة الفلاح مَنْ تحلّى بها، فكانت البشارة من حقّه في قول الباري: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ). وأي فوز أعظـم من الفلاح الذي يعدك به المولى؟!

قال ابن كثير المفسِـر: “والخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع. والحامل عليه: الخوف من الله ومراقبته”. وقال ابن القيّم في المدارج 1/520: “والخشوع هو قيام القلب بين يدي الرّب بالخضوع والذلّ”.

تأمّل هذه المعاني التي ساقها العالمان الجليلان، كيف تضعك أمام الحقيقة الناصعة، ألا وهي أنّ الخشوع يدور مع: الخوف من الله ومراقبته والخضوع له. فحيثما استمعت للأوامر الإلهية، ووعيتها، وعرفت مرادها، تملّكك الخوف من خالقك والطمع في رضوانه، فخضعت لأحكامه منقاداً لأمره.

أمّا أنْ نتنكّب عن أداء الواجب، أو أن نؤدّيه رياءً، أو مجاملةً، أو تقيةً. فهذا أبعدُ ما يكون عن الفلاح الذي وعد الله به أصفياءه. وذلك ما سمّاه بعض الصحابة خشوع النفاق حيث كان يقول “أعوذ بالله من خشوع النفاق. قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أنْ يُرى الجسدُ خاشعاً والقلبُ غير خاشع”. كتاب الروح لابن القيم.

وعليه، فإنّ الخشوع هو الترياق الناجع للاستعانة على الالتزام بالشرع الحنيف. قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ). جاء في الحديث الشريف: «أولُ شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعاً» [صحيح رواه الطبراني].

هذا الخشوع هو الذي يصحُّ إطلاق الروحانية عليه. حيث إنّ الروح هي إدراك الصّلة بالله. فمن أدرك صلته  بالله في أقواله وأفعاله وجميع أحواله فقد تمثّل الخشوع والاستسلام لله في أصدق معانيه. وقد عدَّد الله لنا صفات عباده الأبرار، والتي من بينها: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) أي لم يعرضوا عن مضامينها من الحثّ على الاستجابة لله والرسول.

والخشوع فعلٌ إيمانيٌّ اكتسابيٌّ، لا علاقة له بما بنتابنا من انشراح الصدر، أو النشوة التي نجدها عند سماعنا لنشيد ديني، أو رؤيتنا لمشهد مؤثر… ولا هو وليد لحظات عابرة، كما أنّه ليس مرتبطاً بجلسات الذكر أو المساجد. إنه ربط القلب على مراقبة المولى والخضوع لحكمه. عندها سنذوق حلاوة الإيمان وطُمأنينة النفس. قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). وذكر الله: طاعته.

وخير ما يساعد على الخشوع تعزيز استشعار الناحية الروحية، والانصراف عن المغريات التي تستغرق منا أوقاتنا وتفكيرنا وجهدنا. لذا قال العلماء في هذا الصدد: ويُعين على ذلك شيئان: قوّة المقتضي، وضعف الشاغل. وقوّة المقتضي: هو الدافع الذي يحملك على فعل الشيء. والدافع هنا هو رضوان الله تعالى. وأما الشاغل فهو كل الصَّوارف والزخارف التي تحرمنا لذّة الإيمان وبَـرْد اليقين. وتأمّل ما رواه البخاري عن أنس. قال: كان قِرام لعائشة سترتْ به جانب بيتها. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أميطي ـ أزيلي ـ عنّي فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي». ما يلفتنا إلى أن العبادة ـ بمعناها الشامل ـ لا تصفو إلا بالاحتراز عمّا يشوشها من ألوان كثيرة من المغريات، التي تستحوذ على العقول وتأسر القلوب.

ولْنردِّدْ في دعائنا قول الرسول عليه وآله الصلاة والسلام: «اللهم إنّي أعوذ بك من قلب لا يخشع». [حديث صحيح رواه الترمذي]

وليد مصطفى: البقاع ـ لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *