العدد 138 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الآخرة 1419هـ – تشرين الأول 1998م

الإسـراء والمعـراج

قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وقال تعالى: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى).

الآية الأولى من سورة الإسراء ويقال لها سورة بني إسرائيل وهي مكية، وقد افتتحت السورة بهذه الآية بالتسبيح واختتمت بالحمد: (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) وهذه الآية يقال لها آية العز، فيما رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سُبْحَانَ) اسم موضوع موضع المصدر، وليس له فعل من لفظه، ومعناه التنزيه والبراءة لله من كل نقص، روى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال: «تنـزيه الله من كل سوء». والتقدير هنا: أنزّه الله تنـزيهاً: (أَسْرَى) سرى وأسرى لغتان، والفعل يتضمن وقته، والإسراء: سير الليل. وقيل: أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره: (بِعَبْدِهِ) قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية. وذكر صفة العبودية لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر، وذلك كي لا تنسى هذه الصفة، ولا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية، كما التبسا في عقيدة النصارى بعد عيسى عليه السلام، بسبب ما لابس مولده ووفاته، وبسبب الآيات التي أعطيت له، فاتخذها بعضهم سبباً للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية، وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها وصفاؤها وتنـزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة.

وقد اختلف العلماء في الإسراء هل كان بالروح فقط أم بالجسد والروح معاً، والمؤكد أن الإسراء كان بالجسد والروح معاً وأنه كان في اليقظة، وأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى عيراً لقريش في رحلته المباركة، وأنه صلّى بالأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس، أما الإسراء بالروح فليس فيه آية ولا معجزة.

كما اختلفوا في تاريخ الإسراء فمن قائل إنه كان بعد البعثة بثمانية عشر شهراً، وهو قول الذهبي في تاريخه وهو ضعيف، ومن قائل إنه كان بعد مبعثه صلّى الله عليه وآله وسلّم بخمس سنين أو بسبع سنين، ويُـقال قبل الهجرة بعام واحد رواه البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري. وروى الحاكم عن السدي أنه قال: فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ببيت المقدس ليلة اسري به قبل مهاجره بستة عشر شهراً. والمؤكد أن الإسراء جاء بعد وفاة خديجة عليها السلام وأبو طالب عم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد كانت وفاتهما في عام واحد قبل الهجرة بثلاث سنين، وأنه كان في الإسراء مواساة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على فقدهما: (لَيْلًا) الإسراء لا يكون إلا ليلاً، وذكر الظرف هنا للتأكيد، أو ليدل بلفظ التنكير على تقليل مدة الإسراء، وأنه أسري به في بعض الليل من مكة إلى القدس مسيرة أربعين ليلة, وهو يلقي ظل الليل الساكن، ويخيم جوه الساجي على النفس وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة: (مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) قيل هو المسجد الحرام بعينه يؤيده قوله عليه السلام: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق وقد عرج بي إلى السماء في تلك الليلة». وقيل أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب فيكون المراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد. عن ابن عباس رضي الله عنهما الحرم كله مسجد: (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) سمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظّم بالزيارة. والربط بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام ربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الخاتم لمقدسات الرسل قبله، فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتشمل آفاقاً أوسع منهما وتتضمن معاني أعمق من المعاني القريبة: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) قيل بالثمار وبمجاري الأنهار، وقيل بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين. وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي».

وهنا لا بد من وقفة نستعرض فيها ما آل إليه حال المسجد الأقصى وما حوله من إحاطة اليهود بمستوطناتهم له، ومن تدنيسه بمحاولات احتلاله، ومن الحفر تحته من أجل هدمه تمهيداً لإعادة بناء هيكل سليمان عليه السلام على أنقاضه. هذا بعض من حال بيت المقدس التي فتحها الفاروق وحررها صلاح الدين، فمن يطهرها من رجس اليهود اليوم!!: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) الإسراء في حد ذاته آية وقد صاحبتها آيات من العجائب التي أخبر بها الناس، وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحداً واحداً فيما صح من الأحاديث.

أما الآيات الأخرى فهي من سورة النجم وهي مكية، وابتدأت السورة بذكر المعراج. ووجوب الإيمان والتصديق بما جاء به محمد وعدم المجادلة والمماراة في مواضيع الغيب والوحي، واختتمت بذكر ما حل بالأمم الطاغية كعاد وثمود، وقوم نوح وقوم لوط، من أنواع العذاب والدمار، تذكيراً لكفار مكة بالعذاب الذي ينتظرهم بتكذيبهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وزجراً لأهل البغي والطغيان عن الاستمرار في التمرد والعصيان: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) الأفق الأعلى: مطلع الشمس قاله ابن عباس. كان جبريل يأتي رسول الله  صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها،فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض، ومرة في السماء، فأما التي في الأرض فبالأفق الأعلى أي جانب المشرق حيث كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بحراء فطلع عليه جبريل عليه السلام من ناحية المشرق فسد ما بين المشرق والمغرب. وأما التي في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على صورته الملكية إلا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) فيه تقديم وتأخير، أي تدلى فدنا لأن الاقتراب سببه التدلي وهو الامتداد من أعلى إلى أسفل. أي بعد أن استوى جبريل عليه السلام بالأفق الأعلى، تدلى إلى الأرض فاقترب من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) المراد منه شدة القرب منه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) الإبهام للتعظيم والتفخيم. أي فأوحى جبريل إلى عبد الله ورسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. وقال قتادة: أوحى الله إلى جبريل، وأوحى جبريل إلى محمد: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى )أي ما كذب قلب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ما رآه ببصره من صورة جبريل الحقيقية. قال ابن مسعود: رأى جبريل على صورته مرتين. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نور أنّى أراه»: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) أي أفتجادلونه يا معشر المشركين على ما رأى ليلة الإسراء والمعراج. قال أبو حيان: والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) فإنه يقتضي مرة متقدمة: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) أي رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جبريل مرة أخرى غير المرة التي رآها في الأرض كما أسلفنا: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) سميت سدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها علم الخلائق وجميع الملائكة. روى مسلم من حديث ثابت عن أنس: «ثم ذُهِبَ بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالتلال فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشي تغيرت فما أحد من خلق يستطيع أن ينعتها من حسنها»: (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) أي الجنة التي تأوي إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين، وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ويتنسمون بطيب ريحها: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) قال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها، وتغشاها الملائكة أمثال الطيور يعبدون الله عندها يجتمعون حولها مسبّـحين وزائرين: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) أي ما عدل يميناً ولا شمالاً ولا تجاوز الحد الذي رأى، قاله ابن عباس. أي لم يمدَّ بصره إلى غير ما رأى من الآيات، وما جاوز ما أُمِرَ به، وهذا وصف أدب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) أي رأى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة المعراج عجائب ملكوت الله: رأى سدرة المنتهى، والبيت المعمور، والجنة والنار، ورأى جبريل في صورته الملكية وغير ذلك من الآيات العظام. قال الفخر الرازي: وفي الآية دليل على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى ليلة المعراج آيات الله، ولم ير الله كما قال البعض، ووجهه أن الله ختم قصة المعراج برؤية الآيات، وقال في سورة الإسراء: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن ولأخبرنا تعالى به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *