العدد 139 -

السنة الثانية عشرة – شعبان 1419هـ – كانون الأول 1998م

مع القران الكريم: تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام

قال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)

هذه الآيات من سورة البقرة، وهي أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وهي تتحدث عن قبلة الصلاة عند المسلمين، فهي كانت نحو بيت المقدس، واستمر الرسول وصحابته الكرام يصلون في المدينة شطر بيت المقدس حوالي ستة عشر شهراً كما في البخاري، وإن تحويلها إلى الكعبة جرى قبل غزوة بدر بشهرين كما روى مالك عن سعيد بن المسيب. قال إبراهيم بن إسحاق: وذلك في رجب من سنة اثنتين. وقال أبو حاتم البستي: وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان.

(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ)… سيقول، بمعنى قال، جعل المستقبل موضع الماضي دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول. وفائدة الإخبار بقولهم قبل وقوعه توطين النفس، إذ المفاجأة بالمكروه أشد، وإعداد الجواب قبل الحاجة إليه أقطع للخصم «السفهاء» من السفه وهو الخفة، وهم خفاف الأحلام: اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة، والمنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء، والمشركون لقولهم رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وحن إلى مسقط رأسه وليرجعن إلى دينهم. (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) ما صرفهم، أي ما لهؤلاء يستقبلون تارة المسجد الأقصى وتارة المسجد الحرام، فرد الله عليهم بقوله: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها لله، والحكم والأمر والتصرف كله لله، يرشد من يشاء من أهلها إلى قبلة الحق وهي الكعبة المشرفة، فيأمر بالتوجه إلى حيث شاء فتارة إلى بيت المقدس وطوراً إلى الكعبة، لا اعتراض عليه لأنه المالك وحده. وهذه الآية تأكيد قوله تعالى: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، وقوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ…) الآية، فالعبرة هي في امتثال أمره، فنحن عبيده وفي تصرفه، حيثما يوجهنا توجهنا، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة. والله تعالى له برسوله وبأمته عناية عظيمة إذ هداهم إلى قبلة أبيهم إبراهيم الخليل، أول بيت وضع للناس. روى الإمام أحمد… عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (في أهل الكتاب): «إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلّوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلّوا عنا، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين».

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي كما جعلت قبلتكم خير القبل، جعلتكم خير الأمم، والوسط هنا الخيار والأجود. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قال: «عَدْلاً». وفي الحديث: «خير الأمور أوسطها». (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أي لأن تكونوا شهداء للأنبياء على أممهم. ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول هل بلغت؟ فيقول نعم؟ فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير. فيقول من يشهد فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً، فذلك قوله عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وثبت في صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجب له النار، أنتم شهداء الله في الأرض كررها ثلاثاً”.

(وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي القبلة الأولى أي بيت المقدس، «لنعلم» أي لنرى وهو قول للإمام علي عليه السلام، ومعناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة علم ما يكون قبل أن يكون، أي إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت أي جعل الله ذلك امتحاناً للناس وابتلاء ليعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه فيرتد عن الإسلام. (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهَ) أي إن هذه التحويلة في القبلة ثقيلة شاقة إلا على الثابتين الصادقين في إتباع الرسول، لأن القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم. وتساءل المسلمون عن مصير صلاتهم إلى بين المقدس، ومصير صلاة الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل تبارك وتعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس.

(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي لا يضيع أجوركم، ويعطيكم أجر صلاتكم جميعاً، والرأفة أكثر من الرحمة، وجمع بينهما هنا. في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟» قالوا: لا يا رسول الله. قال: «فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها».

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس لأكثر من ستة عشر شهراً، وكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، ويحب قبلة إبراهيم ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لأنها أدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم. (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) أي فلنعطينك قبلة تحبها وتميل إليها وهي المسجد الحرام، (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي نحو المسجد الحرام، وحيث ما كنتم في الأرض، استقبلوا البيت الحرام. روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي».

روى ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وقيل: نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر (وقيل صلاة العصر) بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يريد اليهود والنصارى، يعلمون أن الرسول سيصلي إلى قبلتين، وإنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم يعلمون أنه نبي مرسل لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا به، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً، ولهذا تهددهم تعالى بقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعيد للكافرين بالجحود والإباء، وبالتاء وعد للمؤمنين بالثواب على القبول والأداء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *