العدد 139 -

السنة الثانية عشرة – شعبان 1419هـ – كانون الأول 1998م

كلمة الوعي: المسألة الكردية في دائرة الضوء

تصدرت المسألة الكردية في الآونة الأخيرة الأحداث، وذلك بعد أن أخرجت سوريا عبدالله أوجلان رئيس حزب العمال الكردي إلى روسيا، وخرج الكثير من عناصره إلى شمال العراق؛ وقد حاول الحزب الشيوعي الروسي منحه حق اللجوء السياسي، وقد صوّت البرلمان الروسي على الموافقة على ذلك إلاّ أن الرئيس الروسي استعمل صلاحيته في نقض القرار، فانتقل أوجلان إلى إيطاليا حيث تربطه علاقة خاصة برئيس وزرائها داليما، ومعلوم أن إيطاليا من أكثر الدول الأوروبية تعاطفاً مع الأكراد، وسبق أن فتحت أبواب مجلسها التشريعي ليعقد الأكراد مؤتمراً لهم فيه. وقد تم إدخال أوجلان إلى المستشفى العسكري تمهيداً للبت في أمر منحه اللجوء السياسي في إيطاليا. وقد هللت الحكومة التركية لحجز أوجلان في إيطاليا، وأخذت تحضّر الملفات القضائية لتقديم طلب استرداده من إيطاليا، ولكن إيطاليا تصرفت منذ البداية بحزم تجاه الموضوع وأعلنت أنها لن تسلم أوجلان إلى تركيا لأنها لا تزال تطبق عقوبة الإعدام. فقد أعلن داليما في 17/11 أمام البرلمان الإيطالي: «إن الموقف الذي أبديناه حول مسألة عبدالله أوجلان يوافق قوانيننا وتاريخنا وقيمنا» وقد اعتبر رئيس وزراء إيطاليا «أن الحدث فرصة لإيجاد حل سلمي للنزاع الطويل والدامي» وأكد على «حل القضية الكردية بطريقة سلمية وليس عسكرية على أساس رفض العنف والاعتراف بحقوق الشعب الكردي وحق تركيا في ضمان أمنها». وقد دعمت أميركا طلب تركيا استرداد أوجلان باعتباره إرهابياً في تصنيفاتها، كما سبق ودعمت المطالبة التركية لسوريا بتسليم أوجلان أو ترحيله، ولكن أميركا عادت فعدلت عن موقفها، وطالبت بمحاكمة أوجلان أمام محكمة دولية. وقد تم حشد الأكراد في أوروبا في مسيرات ومظاهرات واعتصامات، وتم تسليط الأضواء من قبل وسائل الإعلام الأميركية والغربية على هذه الاحتجاجات بحيث انتقلت القضية من قضية فرد هو عبدالله أوجلان إلى قضية شعب يطالب بحقوقه، ومن موضوع محاكمة أوجلان إلى محاكمة تركيا لهضمها حقوق مواطنيها الأكراد.

وفي هذه الأثناء تم تقديم أوجلان كرجل سلام، وأعلن أنه قرر التخلي عن الكفاح المسلح، (وكان في الصيف الفائت اتخذ قراراً بوقف العمليات العسكرية من جانب واحد، ولكن عسكر تركيا رفضوا التجاوب مع هذا القرار)، وطرح مشروع سلام طالب فيه المجتمع الدولي بالعمل على فتح حوار سياسي بين حركته وتركيا وتحت إشراف الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وركز في مشروعه على حقوق الإنسان، وقبل بالحكم الذاتي للأكراد، وبعدم المس بالسيادة التركية. وقد خاطب أوجلان البابا، ومدح الكنيسة الكاثوليكية، وأعلن أن حركته تسعى إلى حل تفاوضي لتسوية القضية الكردية. ورد رئيس مجمع الكنائس الشرقية على رسالته رداً إيجابياً فقال: «إن الشخص الذي يناضل من أجل أفكاره السياسية يحق له الحصول على اللجوء».

أما ألمانيا، فبعد أن فكرت بتقديم طلب استرداد لعبد الله أوجلان إلى إيطاليا، عادت وتراجعت تحت ضغط الأكراد الموجودين بكثرة في ألمانيا وأوروبا. وهكذا، بعد أن ظنت قيادة العسكر في تركيا أن مسألة أوجلان وحزب العمال الكردستاني صارت في طريق التصفية، واعتبر رئيس وزرائها ونائبه توقيف أوجلان حدثاً تاريخياً، حصل العكس تماماً، فقد تحولت المسألة الكردية فجأة إلى مسألة أوروبية ساخنة، وإلى مسألة دولية عويصة تحتاج إلى جهود سياسية معقدة لإيجاد حلول لها.

وقد تم إبراز القضية الكردية منذ أيلول الفائت، حين رعت أميركا مصالحة بين الحزبين الكرديين في شمال العراق، على أساس إنشاء سلطة ذاتية لهم، وقد غابت تركيا عن المصالحة، واعتبرت إنشاء سلطة ذاتية لأكراد العراق دعوة صريحة لأكراد تركيا الأكثر عدداً لإنشاء سلطة ذاتية لهم، وقد تم بحث المصالحة الكردية – الكردية في اجتماع مجلس الأمن القومي التركي أواخر أيلول، الذي طلب من سوريا، تحت الضغط والتهديد، تسليم أوجلان أو ترحيله، وطرد عناصره من الأراضي السورية ووقف الدعم والتسهيلات الممنوحة لهم، وتدخلت الوساطة المصرية والإيرانية بدعم أكيد من أميركا، فتمّ التحكم في الموقف، وكان الخضوع السوري ملفتاً للنظر، وتم ترحيل أوجلان والكثير من عناصره. ويبدو أن أميركا كانت وراء إخراج أوجلان من سوريا لأنها بدأت عملية تغيير في أسلوب تعاطيها مع المشكلة الكردية، فبعد أن كانت تعتمد على الأعمال العسكرية في إضعاف تركيا وتفسيخها بإقامة كيان كردي في جنوب وجنوب شرق تركيا، أصبحت الآن تعتمد على الأساليب السياسية والضغوط السياسية بمشاركة ما يسمى المجتمع الدولي. والذي دفعها لتغيير أسلوبها أمران: أحدهما نجاح تركيا في حسم المعركة ضد الأكراد عسكرياً في منطقة جنوب شرق تركيا، وفي شمال العراق. أما الثاني فهو نجاح أميركا في إيجاد جهة كردية قوية تمثل الأكراد بلا منازع مؤهلة لتكون الممثل الشرعي لهم، وهي حزب العمال الكردستاني.

أما جذور المسألة الكردية، فتعود إلى محاولات الغرب الكافر هدم دولة الإسلام العثمانية، فأوجد في المجتمع أفكار قومية، وأوجد حركات قومية تركية وعربية، ونجح في إيصال حزب الاتحاد والترقي العلماني، والذي يوجهه ويقوده يهود الدونمة، إلى حكم تركيا، فبدأ سياسة التتريك، واضطهد القوميات الأخرى بمن فيهم الأكراد. ثم لما انتصرت أوروبا ممثلة في بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى، قررت تقسيم تركة الدولة العثمانية، وحتى تقسيم دولة تركيا، ففي مؤتمر سيفر عام 1920 قررت الدول الأوروبية إقامة دولة كردية جنوب شرق الأناضول، ولكن لم يكن يوجد بين الأكراد آنذاك من يطالب بهذه الدولة، ولم تكن شعارات الهوية القومية وتقرير المصير قد تسربت إلى الشعب الكردي المسلم، ولهذا لم يفلح الغرب في إخراج هذه الدولة إلى الواقع. وقد فاقمت تصرفات حكام تركيا العلمانيون تجاه الأكراد هذه المشكلة، فهم يبدون للأكراد الاحتقار، ومناطق الأكراد متخلفة اقتصادياً وإنمائياً سواء في تركيا أو في العراق، أو غيرهما، حتى إن هناك قراراً في أحد الدول التي فيها أكراد يمنعهم من الإقامة على الحدود، أو الالتحاق بسلك التعليم، وتحرمهم من حمل هويتها. هذا يشكل تربة خصبة لتغذية الشعور القومي، والمطالبة بالحقوق القومية، وقد كان الأكراد مادة في الصراع على المنطقة، وكانوا مستعدين للسير مع من يدعمهم ويساند قضيتهم، وما زالوا إلى الآن مشتتي الولاءات، فالطالباني وحزبه يتلقيان الدعم من سوريا وإيران، والبرازاني وحزبه استنجد بنظام بغداد ضد الطالباني، وينسق مع حكام تركيا في العمليات ضد حزب العمال الكردستاني، وقد تعاونوا مع أميركا بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، ووجدت مراكز لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية هناك، كما أنه يوجد هناك مدربون عسكريون واستخباراتيون إسرائيليون.

أما حل المشكلة الكردية فلا يكون إطلاقاً بإنشاء دولة أو كيان مستقل لهم، لأنه سيكون حتماً تحت الحماية الغربية، فضلاً عن أن ذلك لا يمكن تحقيقه بدون رضى الدول التي فيها أكراد: تركيا والعراق وإيران وسوريا، وهذه مجمعة على عدم إنشاء كيان كردي في أي منها، لأن ذلك يهدد وحدة أراضيها، ويؤدي إلى تفسخها، وإنما حل مشكلة الأكراد، وغيرهم من القوميات يتم ضمن مشروع الأمة الواحدة، فالأكراد مسلمون والأتراك مسلمون كما أن غالبية العرب مسلمون، وكذلك الفرس والبربر والأفغان والباكستانيون وسواهم، وهم جميعاً أبناء أمة محمد عليه وآله الصلاة والسلام، فالدعوة بينهم يجب أن توجه إلى التوحد على كتاب الله وسنة رسوله، وعلى العمل لإيجاد الأمة الإسلامية الواحدة ضمن الدولة الإسلامية الواحدة، التي تحكمهم بشرع الله، رعايا متساوين في الحقوق والواجبات، «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، فاقطعوا الأيدي الأجنبية الخبيثة التي تمتد للتدخل في شؤونكم، وحلّوا مشاكلكم بينكم دون مداخلات خارجية، فهي مشاكل بين إخوة، ومهما كان حجم هذه المشاكل، فإنها تحل بروح الأخوة الإسلامية، ولكنها تتفاقم وتتعاظم بالطروحات القومية أو الإقليمية.

إن تركيا تبحث عن دور لها، فبعد أن كانت تتزعم الأمة الإسلامية أيام الدولة الإسلامية العثمانية، فقدت هذا الدور بإلغاء دولة الخلافة، وإعلان الجمهورية التركية العلمانية، التي انفصلت عن محيطها الإسلامي وتنكرت لعلاقاتها التاريخية مع شعوب الأمة الإسلامية، حتى إنها تنكرت لواقعها الجغرافي، واعتبرت نفسها جزءاً من أوروبا، أوروبا التي مزّقت الدولة العثمانية ودعمت يهود الدونمة في السيطرة على مقدرات تركيا، وهدمت دولة الخلافة. وقضت على عظمة تركيا المسلمة، وحاولت طمس كل ما يذكِّر الأتراك بتاريخهم الإسلامي العظيم، ولكن تركيا أدركت مؤخراً أنها غير مقبولة أوروبياً، وأنه غير مسموح لها أن تصبح جزءاً من الاتحاد الأوروبي، ما أثار حفيظة تركيا، وجعل سليمان ديميريل يعلن أن أوروبا لا تريد إدخال تركيا في الاتحاد الأوروبي لكونها مسلمة.

ثم حاولت أن ترتبط بمحيطها المسلم أيام توركوت أوزال، فقام بزيارات متعددة إلى دول المسلمين، وعقد اتفاقيات كثيرة ،وقامت شركات تركية ببعض المشاريع في دول الخليج، وازدادت الصادرات التركية إلى الدول العربية، ووطّد علاقاته بدول آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتبنّى سياسية «العثمانية الحديثة»، إلا أن وفاته الغامضة، أعادت تركيا إلى سابق عهدها، تبحث عن دور لها، وتبحث عن هويتها. وقد أحست تركيا بالزهو بعد أن خضعت سوريا لتهديداتها، في عملية اختبار للقوة، وظنت أن بإمكانها أن تستثمر هذا الانتصار المعنوي في تصفية المشكلة الكردية بالقضاء على الانفصاليين الأكراد الذين يمثلهم حزب العمال الكردستاني بزعامة أوجلان. وهي المشكلة التي استثمرها جنرالات تركيا لتعزيز قبضتهم على الحياة السياسية في تركيا، ولتشكيل برلمان على مقاسهم ويكون خاضعاً لمشيئتهم، يعمل بتوجيهاتهم لسنّ دستور جديد يحقق طموحات الجنرالات بالقضاء على المظاهر الإسلامية في تركيا، ويجعل الجيش بشكل رسمي وقانوني الحامي للجمهورية وللعلمانية ولما يسمى بتعاليم أتاتورك اليهودي الكافر. ولكن انفجار الأزمة الحكومية بإسقاط حكومة يلماز، وعدم قدرة أجاويد على تشكيل حكومة حتى الآن سيطيح بأحلام الجنرالات وستبقى تركيا في دوامة عدم الاستقرار السياسي الذي يتمثل في كثرة الحكومات. وهذا من شأنه أن يساعد أميركا في الضغط على جنرالات تركيا من أجل منح الأكراد حكماً ذاتياً في جنوب شرق الأناضول، وبدأت التهيئة لذلك باستقالة أوجلان من زعامة حزب العمال الكردستاني. وبهذا يتأكد أن حل مشكلة الأكراد لا يتأتى إلاّ من خلال إعادة توحيد الأمة الإسلامية، التي هم جزء منها، تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *