العدد 141 -

السنة الثالثة عشرة – شوال 1419 هـ – شباط 1999م

الأمان: ملاحظات وتعقيبات

وردت إلى المجلة ملاحظات وتعقيبات على موضوع «الأمان» الذي نشرته المجلة في العدد (137). فمن الملاحظات، أن أحد المتابعين للمجلة رأى أن تعريف الأمان ناقص، وأن المستأمن لا ترفع استباحة دمه وماله إلا إذا دخل دار الاسلام، وهذا تعريف غير شامل ولا مانع، إذ أن المسلم قد يُعطى الأمان في ديار الكفر، كما أن الكافر قد يعطى الأمان دون أن يدخل دار الإسلام. فالرسول أمّن أهل مكة عند الفتح، دون أن يلحقوا بدار الإسلام. ومن الملاحظات أيضاً ثلاث نلخصها فيما يلي:

  • أن الأمان للكافر لا يكون إلا من الإمام أو من ينيبه الإمام، إما من عامة المسلمين فلا بد أن يوافق عليه الإمام.

  • أن الأمان للكافر الحربي فعلاً يجب أن يكون مشروطاً بأن يأتي المستأمن إلى دار الإسلام ليسمع كلام الله، أو ليعيش ذمياً في دار الإسلام.

  • أن الأمان للكافر يجب أن يكون مقيداً بمدة محددة لا تتجاوز السنة.

وفيما يلي الرد على هذه الملاحظات الثلاث:

1- إن أمان أحد أفراد المسلمين من رعية الدولة للكافر لا تتوقف صحته على موافقة الإمام أو الحاكم. وذلك لأن حديث «إن ذمة المسلمين واحدة» المتفق عليه، مطلق دون قيد، فأمان أحد المسلمين أمان جميعهم. وقوله في الحديث نفسه «فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» يشمل كل من يخفر أمان المسلم، لأن «من» من صيغ العموم. وفي فتح الباري جاء: «ذمة المسلمين واحدة: أي أمانهم صحيح، فإذا أمن الكافر واحد منهم حرم على غيره التعرض له».

ولأن حديث أم هانئ في الصحيحين برواية الأزرقي من طريق الواقدي عن ابن أبي ذويب عن المقبري عن أبي مرة مولى عقيل عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله، إني أجرت حموين لي من المشركين فأراد هذا أن يقتلهما، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما كان له ذلك» وهذا معناه أن أمانها لهما صحيح قبل أن يجير الرسول صلى الله عليه وسلم من أجارت. لذلك قال لها، «ما كان له ذلك» أي ما كان لأخيها علي بن أبي طالب أن يقتلهما، لأن إجارتها لهما عصمت دمهما، فجل أمانها لهما ملزماً لأخيها علي.

ومن هنا يتبين أن صحة أمان المسلم للكافر لا تتوقف على موافقة الإمام أو الحاكم. فأمانه صحيح سواء حصلت موافقة الإمام أو الحاكم، أو لم تحصل.

لكن مع ذلك فإن للحاكم إن رأى ضرراً في هذا الأمان أن لا يوافق عليه، وأن يبطله، وأن يعيد الكافر الذي أعطى الأمان إلى مأمنه، لأن على الحاكم واجب الرعاية، وهو مسؤول عن رعيته.

هذا وإذا كان بين المسلمين ودولة كافرة معاهدات يجيزها الشرع، وتتناول تنقل الرعايا بين الدولتين فيلزم أفراد المسلمين بها حسب نص الاتفاقية. فإن كان في الاتفاقية أن رعايا الدولتين ينتقلون دون إذن، أو بإذن يعطى على الحدود فيلتزم بذلك ويكون ملزماً لأفراد المسلمين في الدولة.

وللإمام أو لحاكم المسلمين اليوم إن رأى أن مصلحة المسلمين في العلاقات الدولية تقتضي بأن يصدر قانوناً يمنع دخول رعايا دول معينة إلا بإذن خاص من سلطات الدولة، فيجب على المسلمين أن يلتزموا بذلك. وهذا من باب رعاية الشؤون التي هي للإمام أو الحاكم، والتي يجب على المسلمين من أفراد الرعية أن يلتزموا بها، وأن لا يخالفوها. وهذا موضوع يختلف عن موضوع أن صحة الأمان لا تتوقف على موافقة الإمام أو الحاكم.

2- يجوز أن يعطى الأمان لرعايا الدول المحاربة حكماً سواء كان رعايا الدول المحاربة رسلاً يحملون رسائل من دولهم، أو دبلوماسيين يريدون إجراء مفاوضات، أو عقد اتفاقيات، وسواء كانوا تجاراً أو خبراء أو طلبة علم أو سواحاً أو جاءوا ليسمعوا كلام الله أو ليكونوا ذميين، ويجوز أن يكون أمانهم مطلقاً دون تحديد مدة كما يجوز محدداً بمدة معينة.

أما الدول المحاربة فعلاً فيجوز أن يعطى الأمان لرعاياها سواء كانوا رسلاً يحملون رسائل أو دبلوماسيين لإجراء مفاوضات أو عقد اتفاقيات. أخذاً من إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لرسولي مسيلمة الكذاب، ولعروة بن مسعود، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو عندما أرسلتهم قريش لمفاوضة الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية. كما يجوز أن يعطى الأمان لمن يحضر من رعاياها ليسمع كلام الله، لقوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ). ولمن يريد أن يكون ذمياً لقوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) ولمن يريد الأمان على نفسه، كمن أمنتهم أم هانئ من أحمائها، وكالعاص بن الربيع الذي أمنته زوجته زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وللتجار اللذين يحملون الطعام للمسلمين لحاجة المسلمين إلى ذلك. ويجوز أن يكون عقد أمان الجميع مطلقاً ويجوز أن يكون محدداً بمدة معينة.

3- أمان الإمام أو الحاكم لأفراد الكفار، وأمان أفراد المسلمين لهم يجوز أن يكون مطلقاً دون تحديد مدة، ويجوز أن يكون مقيداً بمدة محددة. على أن لا تزيد عن السنة. فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما أمن رسولي مسيلمة وعروة بن مسعود ومكرز بن حفص وسهيل بن عمر لم يحدد لهم مدة في الأمان وكذلك فإنه لم يكن يحدد مدة لمن يأتيه ليسمع كلام الله، كما أن أم هانئ عندما أمنت اثنين من أحماتها عند فتح مكة لم تحدد لأمانها مدة، كذلك زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها لم تحدد مدة الأمان الذي أعطته لزوجها العاص بن الربيع قبل أن يسلم. وهذا بخلاف الهدنة فإنها لا تجوز إلا من الحاكم وإلا إذا كانت محددة بمدة معينة. كما حدد الرسول صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع قريش بعشر سنوات.

وسواء حدد عقد الأمان للكافر بمدة محددة أو أطلق دون تحديد بمدة فلا يمكن المستأمن من المكث أكثر من سنة. فإذا كان مكث سنة ضربت عليه الجزية لقوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) والجزية لا تؤخذ من الذمي إلى مرة في الحول.

ورد في كتاب المغني المقدسي في الجزء الثامن، صفحة 400 «ويجوز عقد الأمان.. مطلقاً مقدياً بمدة، بخلاف الهدنة فإنها لا تجوز إلا مقيدة لأن في جوازها مطلقاً تركاً للجهاد». وورد في كتاب الشخصية الاسلامية الجزء الثاني في موضوع المستأمن «إلا أن الحربي المستأمن لا يمكن من المكث في برد المسلمين سنة، فيعطى الأمان شهراً أو شهرين أو أكثر، ولا يعطى أكثر من سنة، وإن أعطى أماناً مطلقاً ولم تحدد المدة فالمعتبر هو الحول، لأنه أبيح له الإقامة في دار الإسلام من غير جزية فيعطى سنة، فإن زاد عليها يخير بين الإقامة والالتزام بالجزية، وبين الخروج من دار الإسلام».

ومن التعقيبات نورد أهمها، وهي بحث فيما لو ظن الكافر أن الأمان المعطى له صحيح، فهل يحرم علينا التعرض له أو لماله؟ وبطلان عقد الأمان قد يكون آتياً من العاقد كالحاكم الكافر في بلاد المسلمين، أو آتياً من صيغة العقد كالقول أنت على ما تحب، أو كن كيف شئت، أو ألق سلاحك، فهذه الصيغ وشبيهاتها إن فهم منها الكافر أنها أمان وجب رده إلى مأمنه، وحرم التعرض له أو لما له.

وبهذا أخذ كل من محمد بن الحسين في السير، والإمام الأوزاعي، والإمام الشافعي وابن قدامة وغيرهم رحمهم الله تعالى. وروى البخاري عن سالم عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الاسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. حتى قدمنا على الرسول صلى الله عليه وسلم فذكرنا. فرفع صلى الله عليه وسلم يده فقال: «اللهم إني أبرأ من صنع خالد مرتين» فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنى على فهم بني جذيمة، إذ إن لفظ «صبأنا» يحتمل الإسلام ويحتمل العكس. فالمصير في عقد الأمان الذي تحتمل يغته فهمين متناقضين هو الفهم الذي يفهمه الكافر.

أما الأمان الذي يعقده الحاكم الكافر في البلد الاسلامي، فهو وإن كان باطلاً لا ينبني عليه شيء، لأن الأمان لا يصح إلا من المسلم، إلا أننا لا يحل لنا أن نتعرض للمستأمن بناء على فهمه للأمان، ففهمه هو الذي يبنى عليه، وبذلك لا نتعرض له ولا لماله ويرد إلى مأمنه حتى لا ننسب إلى الغدر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *