كلمة الوعي: واجبات المرحلة
1999/04/25م
المقالات, كلمات الأعداد
1,729 زيارة
الدولة المبدئية تقوم على فكرة. وتوجد الدولة بوجود الفكرة في الأمة أو الشعب أو الفئة الأقوى في المجتمع، وكلما كان الولاء للفكرة عظيماً، وتجسدُ الفكرة في الناس وواقع الحياة قوياً، كانت الدولة قوية، وحين يضعف الولاء للفكرة، أو يقل الالتزام بمقتضاها تضعف الدولة، وحين تحِل فكرة أخرى محلها في قناعات الناس، تنهدم الدولة أو يتحول السلطان. وقد رأينا كيف انهارت الاشتراكية في العالم، حين اقتنع السياسيون والحكام وجمهرة الناس أنها غير صالحة للحياة، أو لمواجهة التحديات. ودولة الخلافة، ظلت الدولة الأولى في العالم أكثر من اثني عشر قرناً، على تفاوت في القوة والضعف، والاتساع والانكماش، بحسب قوة بناء الدولة على الفكرة الإسلامية الواضحة الصافية النقية، أو ضعف هذا البناء، أو اضطراب فهم الفكرة، وذهاب صفائها ونقائها. فحين وجد في الحواضر الإسلامية سياسيون ومفكرون وحكام، لا يعتقدون بصلاح الفكر الإسلامي أو بقدرته على بناء دولة عصرية قوية، تجابه تحديات الدولة الفتية القوية في الغرب، تحوّل السلطان في دولة الخلافة، وألغيت الخلافة، وتمزقت الدولة إلى دويلات، وقد سهّـل هذا التحول التضليل الذي مارسه الكثير من المنافقين ووعاظ السلاطين، حين أفتوا بإمكان التعايش بين بعض أحكام الإسلام وأحكام الكفر، وعايشوا ذلك عملياً منذ أواسط القرن التاسع عشر حين أدخلت قوانين كفر في الحياة الإسلامية، فأصبحت إسلامية بزعمهم بعد أن صادق عليها شيخ الإسلام.
سبق أن قلنا في مقالة سابقة، إن الدولة الإسلامية قد وجدت، ولم يبق إلا إعلانها، وذلك باستقراء الواقع، ففكرة الخلافة قد وجدت في الأمة، وهناك من يعمل لإيجاد نظام الخلافة ونصب خليفة يبايعه المسلمون على السمع والطاعة وتنفيذ أحكام الإسلام، والأمة تحس بوحدتها من أقصاها إلى أقصاها، ومشاعرها واحدة، وتتجاوب مع الطرح الإسلامي، كما شاهدنا عام 1979 حين تجاوب المسلمون بكل شعوبهم وفي كل دولهم وعلى اختلاف مذاهبهم مع ثورة إيران التي عدّوها إسلامية؛ كما أن التحرق للانعتاق من تسلط الكفار وإذلالهم ملموس لكل إنسان، حتى للكفار أنفسهم، والتشوق للعيش في ظلال أحكام الإسلام صار في العلن، والثقة في الحكام الحاليين مفقودة تماماً، والأمل في اعتدالهم أو إصلاحهم معدوم، والأمل بالإسلام وحملته يزداد تبلوراً وقوة. فما الذي يؤخّر إعلان الخلافة، وعودة نظام الخلافة إلى الوجود؟!
إن عناصر عملية التغيير وإعادة بناء دولة الخلافة ثلاثة هي: الفكرة الإسلامية، والكتلة التي تتجسد فيها الفكرة وتعمل لإيجادها في الحياة العملية، والأمة الإسلامية التي يعمل فيها ومعها من أجل إيجاد الدولة. بالنسبة للفكرة الإسلامية، فقد جرى بلورتها، وتحديدها بشكل رائع، والمفاصلة بين الإسلام والكفر أصبحت محدّدة المعالم، ففترة التوليف والتوفيق بين أحكام الإسلام وأفكاره، وقوانين الكفر وطروحاته قد انتهت، فأصبح الطرح الآن: إما الإسلام الكامل المتفرد بالولاء، وهو الأعلى والأقوى، وإما الكفر والانحراف عن الإسلام، وهو الأوهى والأوهن. وأصبحت الصورة عن الإسلام واضحة وتكاد تتطابق مع حقيقته، فالإسلام نظام كامل للحياة، وطراز متميز للعيش، وحضارة متميزة، ولم يعد مقصوراً في أذهان المسلمين على العبادات والأخلاق، وإن الإسلام يملك حلولاً لمشاكل الحياة، وإن في إمكان الإسلام بناء دولة، وتغيير مجتمع، ورسم حضارة، وبذلك فلا نحس في هذا العنصر أية علاقة بهذا التأخير الحاصل.
أما الكتلة، فإن بناءها سليم، والتزامها بأحكام الإسلام محسوس، والاستعداد للتضحية والبذل مقبول وإن كان المطلوب المزيد من التضحية وإرخاص كل شيء في سبيل هذه الغايو السامية، فما نقصده عظيم، وأجـر الـذين يخلصـون العـمل لتحقيقه جزل، وإثم القعود عنه أو التقصير فيه كبير. أما بالنسبة لتحديد صورة المجتمع الإسلامي المنشود فهي واضحة بإجمال، وفي بعض الأمور بتفصيل، والطريقة لنقل الناس إلى المجتمع الجديد واضحة، وثقة شباب الكتلة بقدرتها على بناء الدولة وتسييرها وتنفيذ أحكام الإسلام موجودة، ولكنها بحاجة إلى تعميق، لأن شباب الكتلة هم الذين عليهم إشاعة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه، وقدرته على بناء دولة عصرية قوية تواجه التحديات بصلابة المؤمنين، ووعي المخلصين المفكرين، فإن لم توجد في الكتلة الثقة بشكل مركز في قدرة الإسلام، والمسلمين وحملة دعوة الإسلام، على هذه المهمة العظيمة، فإن الكتلة لا تستطيع إيجادها في الناس بشكل يجعلهم يستجيبون وينقادون، ويبذلون كل ما يملكون في هذا الطريق المأجور. ولهذا لا بد من إيلاء المزيد من الاهتمام، لتعميق الثقة بقدرات المسلمين وحملة دعوة الإسلام على حسن تدبير الأمور وتصريفها، ومعالجة القضايا المستقبلية، ومواجهة أعداء الأمة، والتحرك بوعي وحذر واقتدار في حقول الألغام المحيطة بأمة الإسلام وبلاد المسلمين.
كما أن من الشرائط الهامة للكتلة التي تتصدى لهذه المهمة، أن تكون كتلة سياسية، ليس على وجه الإجمال، وإنما أن يكون كل أعضائها أو جلّهم سياسيين، فمهمتهم الآن، قبل قيام الدولة، سياسية، ومهمتهم التي تنتظرهم بعد قيام الدولة سياسية، ولهذا يجب أن يتقنوا فن السياسة، وأن يجعلوا من أنفسهم سياسيين، وفي الثقافة التي يتبنونها ما يكفي لجعلهم سياسيين، ويبقى العبء الأكبر عليهم لتحقيق ذلك. فيجب أن يتصرفوا منذ الآن كسياسيين وليس كحملة دعوة فقط، وهو ما يتقنونه إلى حد كبير، فليضع كل واحد نفسه في المشكلة، وكأنها مشكلته هو، وأن عليه وحده حلّـها، وليفكر في حلها وكيفية معالجتها، وبذلك تتكون لديه عقلية حل المشاكل، ثم ليحاول أن يقنع بهذا الحل من يملك تنفيذه. فالناس والسياسيون والمفكرون لا تقنعهم الحلول العامة، ولا تؤثر فيهم الطروحات الفضفاضة، وإنما تستهويهم الحلول التفصيلية المحدّدة. فلا يكفي أن نرجع كل مشاكلنا ومآسينا إلى غياب دولة الخلافة، وذلك حق لا شك فيه، ولا أن نضع اللوم على الكفار وأعوانهم، وذلك فيه الكثير من الصواب، ولكن يجب أن نشرح بشكل تفصيلي كيف يكون الحل على ضوء أحكام الإسلام وأفكاره، وبذلك أيضاً نسقط الاتهام الذي يوجه للطرح الإسلامي بأنه غائم وينقصه التحديد، وأن حملة الدعوة الإسلامية غير قادرين على تصريف الأمور ومعالجة المشاكل، والتصدي للتحديات. وباختصار، يجب على الكتلة أن تستكمل ما ينقصها، وأن تتهيأ لمرحلة قادمة كثيرة المخاطر، وأي خطأ في التصرف قد يكون مردوده مدمراً ليس فقط على الكتلة وإنما على الأمة وأملها، وأن تباشر القيام ببعض أعمال المرحلة القادمة، وهي كلها أعمال سياسية، وبذلك يوجد السياسيون ويبنى الوسط السياسي الذي عليه أن يحل محل الوسط السياسي الحالي، وينهيه إلى الأبد.
أما بالنسبة للأمة، فهي تحتضن الأسلام وحملة الإسلام، وتتمسك بدينها ولا ترضى عنه بديلاً، وهي أمة معطاءة، سخية في البذل، سهلة الانقياد لمن تثق فيه نحو الغاية التي تعتقدها وتقتنع أنه يحققها لها. ولكن الأمة الإسلامية لم تشارك في نصب حاكمها منذ الإمام علي كرم الله وجهه، فالحاكم ينصب عليها من فوق بالوراثة كما حصل مؤخراً في الأردن والبحرين، أو عن طريق أعدائها، الذين نصّـبوا عليها حكاماً في انقلابات عسكرية خططوها وموّلوها ودعّموها، ولهذا فإن لسان حال الأمة اليوم، إننا لا نملك إلا قلوبنا نحبكم بها، وندعو لكم بها بالتوفيق. أي إن الأمة لا تدرك أنها صاحبة السلطان، وأنها هي تنصب الحاكم، وهي قادرة على عزله، ولهذا لا بد من توضيح هذه الصورة للأمة، وتعميق ثقتها بنفسها وبقدرتها على عزل الحاكم وتنصيب آخر. هناك مشكلة أخرى في الأمة، وهي أنها برغم ثقتها بحملة الدعوة الإسلامية، فهي لا تثق كثيراً بقدرتهم على بناء دولة الخلافة، فحملة الدعوة طيبون وملتزمون وتأتمنهم الأمة على أرواحها وأموالها وأعراضها، لكنها لا ترى فيهم القدرة على إدارة الدولة، وتحقيق الأهداف التي يطرحونها، وهي حق، من توحيد بلاد المسلمين، وتحرير أرضهم، ورعاية شؤونهم. والأمة معذورة في ذلك، لأن شباب الكـتـلـة، لـم يـبـعـثـوا فيها الثقة بقدراتـهم، وإن كانوا أوجـدوا لديها الثقة بأشـخاصـهم وإخلاصـهم والتزامهم بالإسلام. كما أن جزءاً من ضعف الثقة هذه مردّه إلى عدم التفريق بين عمل الدولة وعمل الكتلة. فالكـتـلـة تقوم بأعمالها فقط بشـبابـهـا الذيـن هـم جـزء منهـا، وتحاول تسـخـيـر الآخرين للقيام معها بأعمالها، أما الدولة فهي دولة كل الناس، وتسـخّـر كل الناس، وتسـتـخـدم كل القـادريـن، وتسـتـعــيـن بمن تراه أهلاً لما يوكل إليه، وتحـاسـب المقـصـر والمخـالـف. فدولـة الخـلافة ليسـت دولـة فئـة أو كتـلـة أو مذهب أو قوم، وإنما هي دولة المسلمين جميعاً في العالم، وهي تأمل في توظيف طاقاتهم وإمكاناتهم في خدمة الإسلام وإسعاد المسلمين.
ثمة أمر آخر يتعلق بالأمة، وهو عدم ثقتها في إمكان دولة الخلافة، إن قُدِّر لها أن تقوم، أن تعمّر طويلاً، في هذا المجيط المتلاطم من الأعداء القادرين والمتربصين في الداخل وفي الجوار وفي الخارج. وعزّز هذا التصور الخاطئ ما تقوم به أميركا ودول الغرب من التضييق والحصار والتآمر ضد كل من يهدّد مصالحهم، ودولة الخلافة أكبر مصدر تهديد لمصالحهم، وليس في بلاد المسلمين فحسب، وإنما في العالم كله، لأن رسالة الإسلام عالمية، ودولة الخلافة دولة رسالة، ولهذا من واجبها أن تنشر هذه الرسالة في العالم، بالدعوة والدعاية والجهاد، وفي ذلك مزاحمة لنفوذ الدول المهيمنة على العالم، واسترجاع لحقوق العباد من غاصبيها. ومن ناحية أخرى، فإن الفجوة الواسعة بين بلاد المسلمين، وكلها متخلفة، وبين أعدائها تزداد اتساعاً مع مرور الوقت، فأعداء المسلمين والإسلام، وبخاصة أميركا وبريطانيا وفرنسا، تتضاعف قواهم، وتتركز لديهم الثروة والقوة والنفوذ، والهيمنة على العالم من خلال النظام الدولي الجديد ـ القديم، المبني على دول ذات سـيـادة مضـمـونـة، ومؤسـسـات إقليمة ودولية، وشركات اقتصادية أخطبوطية تمسك بخناق الاقتصاد العالمي، وتحتكر ثروة هذا الكوكب من خلال التجارة الحرة، والعولمة، وعن طـريق صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. فكيف يسـتطيع المسـلمون أن يبنوا دولتهم، ويحرروا أرضهم، وينعتقوا من تسلط عدوّهم عليهم؟!. وقد ازدادت الأمور تعقيداً، حين أعاد الغرب احتلال بعض بلاد المسـلـمـيـن وذلك منذ بداية عقد التسـعـيـنـيـات، الأمـر الذي يجـعـل تدخـلـهـم ضد دولة الخلافة حتى عند إعلانها ميسوراً وسريعاً.
ولتجلية الأمور عند الأمة، لا بد من التذكير والتشديد على أن المسلمين جميعاً أمة واحدة، وأن الدعوة الإسلامية موجهة إليهم جميعاً ويجب أن يحسّوا بها، وأن تصلهم، وأن دولة الخلافة، وإن قامت في قطر أو أقطار، فهي دولتهم جميعاً، وهي قامت من أجلهم ومن أجل دينهم، وأنها قامت بقرارهم المخلص المستقل، وإن واجبهم الشرعي الانضمام إليها، والمحافظة عليها، والدفاع عنها. ثم لا بد من توعية الناس على الفرق بين العلم والثقافة، وأننا نأخذ العلم من كل مكان، ونستأجر للأبحاث العلمية كل الناس، ونشتري الأجهزة العلمية والمصانع وحتى الفنيين من كل بلد، وإن الغرب تسيره المنفعة، وإن هناك الكثير من ذوي الاختصاص من المسلمين منتشرون في بقاع الأرض، وأنهم ينتظرون بفارغ الصبر أن يعودوا إلى بلاد المسـلمـيـن لخدمة أمتـهـم ودولتهم ودينهم، سيما إن أجزلت الدفع لهم، وتَوفّرت إمكانية تنمية قدراتهم العلمية على البحث والإبداع. ويب أن نعلم أن ليس مجرد إعلان دولة الخلافة يعتبر تهديداً للغرب ومصالحه، وإنما سلوك الدولة وخطابها السياسي، وتصرفاتها هي التي تحدد موقف الغرب وبخاصة في أشـهرهـا الأولى، فإن أحسـنت التصـرف والتعـاطـي مع القضـايـا والأمور سـلمت واسـتقرت وتوطدت أركانها، وهذا ما يجب أن يكون مخططاً له منذ الآن، حتى لا تكون التصرفات مرتجلة، وهو ما فيه الخطر الشديد على الدولة والأمة.
هذه هي أهم واجبات المرحلة، والتي إن أحسـ،ـا القـيـام بها، نكون قمنا بمتطلبات المرحلة، وأصبحنا أكثر تأهيلاً لاسـتحقاق نصـر الله، فهو الناصـر، ومنه نرجو النصـر والسداد والتوفيق، (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) .
1999-04-25