العدد 144 -

السنة الثالثة عشرة – محرم 1420 هـ – أيار 1999م

حقيقة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي

انعقد الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في أواخر 1997 في هونغ كونغ، وكان الاستبشار طاغياً، إذ تم احتواء الأزمة المالية في آسيا، ولو على المدى المحدود. أما اجتماع خريف 1998 فانعقد في واشنطن، في أجواء اقتصادية سيئة: فاليابان تعاني ركوداً اقتصادياً هو الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، وهناك انهيار اقتصادي شبه كامل في روسيا، وترد في إندونيسيا، حيث يعيش أكثر من 100 مليون تحت خط الفقر، وهناك مخاوف عميقة مما يمكن أن يحصل لاحقاً في أميركا اللاتينية. أما اجتماع الربيع لعام 1999، فأمامه مشاكل متعددة منها: مساعدة دول المواجهة في منطقة البلقان، وبخاصة ألبانيا ومكدونيا، حيث يتواصل تدفق اللاجئين من مسلمي كوسوفا، ثم إن التراجع الاقتصادي في أميركا اللاتينية سيكون أسوأ مما كان متوقعاً، إذ إن الركود يعم الأرجنتين وفنزويلا والإكوادور والأوروغواي فضلاً عن البرازيل، ثم هناك مخاوف حقيقية من تباطؤ في الاقتصاد الأميركي يؤثر سلباً على الاقتصاد العالمي، وأخيراً هناك مبادرة مسامحة الدول الأكثر فقراً في العالم التي لم يستفد منها حتى أواخر 1998 إلا دولتان.

أسس صندوق النقد الدولي قبل أكثر من خمسين عاماً، بعد مؤتمر بريتون وودز، الذي بحث في كيفية توفير الاستقرار في الاقتصاد العالمي، وتأمين السلام بعد الحرب العالمية الثانية. واليوم توجّه إليه الاتهامات، ليس فقط من دول أفريقيا وجنوب آسيا، التي تكره غطرسة الصندوق، وإنما أيضاً من كبار رجال الأعمال في وول ستريت في نيويورك، ومن كبار المسؤولين في الدول ذات الاقتصاد القوي في أوروبا وآسيا. حتى إن هنالك من يقولون بوجوب إلغاء صندوق النقد الدولي، مثل جورج شولتز وزير الخارجية الأميركي الأسبق، وعدد من أعضاء الكونغرس، الذين تتزايد عندهم الشكوك في كل المؤسسات الدولية. لكن الكثيرين يتحدثون عن وجوب إنشاء آلية مالية جديدة تقوم بما عجز عنه الصندوق الحالي، أي إطفاء الحرائق المالية قبل انتشارها.

                ثم إن هنالك اتهامات متبادلة بشأن المسؤول عن التردي الاقتصادي، هل هم الرؤساء والقادة الضعفاء من أمثال الرئيس الروسي يلتسين، الذي أهدر الدفعة الأولى من مساعدات الصندوق وقيمتها 4.8 بليون دولار، أم هم كبار المستثمرين الذين ضخّوا أموالهم في الأسواق الناشئة، في أواسط التسعينيات، ثم سحبوها مذعورين بعد أن جنوا الأرباح الطائلة. هناك حقيقة ساطعة وهي أن مئات البلايين من الدولارات هربت من التداول في القارات الأربع، باحثة عن الملاذ الآمن، وغالباً في الولايات المتحدة، وأن هذه الأموال لن تعود ثانية قريباً، فهل بالإمكان وقف ذلك، أم أن العالم يتجه نحو ركود اقتصادي عالمي كما حصل في الثلاثينيات من هذا القرن.

                يعترف ستانلي فيشر، نائب المدير الإداري للصندوق، بأنك حيثما ذهبت تقرأ القصة نفسها، «نحن جئنا، وجعلنا الأمور أكثر سوءاً. غالباً ما يقع اللوم علينا، ولكن من مصلحة الحكومات أن تعلّق مشاكلها علينا». ويُـتهَم صندوق النقد الدولي بأن اهتماماته منصبة على استقرار البنوك والعملات، وعلى منع هروب رؤوس الأموال، وتحرير الأسواق، ولكنه لا يقدّر التكاليف الاجتماعية لهذه الإجراءات، والسبب في ذلك راجع إلى أن كبار مسؤولي الصندوق أكاديميون تنقصهم الخبرة السياسية، والمعرفة بثقافات الشعوب وتركيبتها الإثنية. فرئيس صندوق النقد الدولي، ميشيل كامديسو، كان يعمل في تفجير المناجم في الجزائر لصالح الجيش الفرنسي، قبل أن يلتحق بوزارة الخزانة ليصبح فيما بعد رئيساً للبنك المركزي الفرنسي. أما فيشر فهو من مواليد روديسيا الشمالية (زامبيا الآن)، وأصبح أحد أعضاء هيئة التدريس في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا ثم رئيس دائرة الاقتصاد في المعهد، وكان أستاذاً لنائب وزير الخزانة الأميركي، سومرز، ثم زميلاً له في المعهد، وهذا الأخير هو الذي كان وراء إسناد المنصب الثاني في الصندوق لأستاذه فيشر.

                وحين بدأت الأزمة الاقتصادية في إندونيسيا، طار كامديسو إلى جاكرتا حيث اجتمع مع الرئيس السابق سوهارتو لمدة أربع ساعات، بحث فيها بشكل تفصيلي الإصلاحات الضخمة التي يشترط الصندوق على إندونيسيا تنفيذها قبل أن تحصل على عشرات بلايين الدولارات كمساعدة طوارئ، وقد طلب كامديسو من سوهارتو خصخصة الأملاك الحكومية، وإلغاء مشروع إنتاج الطائرة الوطني، وألمح إلى أن ذلك يمس أفراد عائلة سوهارتو، ولم يكن كامديسو مدركاً أن سوهارتو لا يرغب في تنفيذ الإصلاحات. وقد أدت مطالب صندوق النقد من السلطات الإندونيسية بوقف الدعم عن الوقود والخبز، إلى تزايد التظاهرات وإلى مزيد من تدهور سعر صرف العملة، وإلى مزيد من البطالة، ونقص في المواد الغذائية، وإلى الاعتداء على الأقلية الصينية التي تهيمن على اقتصاديات البلد، إلى أن أطيح بسوهارتو.

                وتبدو هيمنة أميركا على صندوق النقد الدولي واضحة كونها تملك 18.5% من الأصوات في حين تملك كل من بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، واليابان 5%، وأميركا تمارس نفوذها من وراء الكواليس، بالاتصالات المباشرة بين فيشر وسومرز، نائب وزير الخزانة الأميركي. ويصر الكثير من السياسيين ورجال الأعمال في العالم على أن إحدى أهم المشاكل مع صندوق النقد الدولي هي أنه يتصرف «ككلب مدلّل» لوزارة الخزانة الأميركية، وحيثما سألت في جاكارتا أو في موسكو، فالجواب هو نفسه: إن صندوق النقد الدولي لا يجرؤ على التصرف قبل أن يأخذ موافقة سيده، وزارة الخزانة الأميركية. فحين تصبح المصالح الحيوية الأميركية مهددة، فإنها تتدخل، كما حصل في الأزمة الاقتصادية في المكسيك عام 1995. وقد فهم الكوريون الجنوبيون هذا، ولذلك، حين أحس المسؤولون الكوريون في نهاية عام 1997 بنقص خطير في العملات الصعبة، أرسلوا موفداً سرياً إلى واشنطن اجتمع مع سومرز، ولم يكلف نفسه عناء الاتصال بصندوق النقد، لأنه يعرف كيف تدار الأمور في الصندوق عن طريق سومرز، فأوفدت وزارة الخزانة بسرعة أحد اختصاصييها في مساعدات الطوارئ، الذي غطّى بوجوده على المفاوضات الدائرة بين مسؤولي الصندوق، وحكومة سيؤل. وقد أزعج ذلك فيشر، لأن في ذلك تضارباً بشأن من صاحب الصلاحية في التفاوض.

                أما في حالة تايلاند، وهي حليف رئيس لأميركا، فلم تقدّم لها أية مساعدة مباشرة، وقد شعرت كل من وزارة الخارجية، ووزارة الدفاع الأميركيتين بالأسف لعدم مساعدة تايلند، ولكن حين طلبت منهما وزارة الخزانة التنازل عن بعض موازنتهما تراجعتا عن طلب المساعدة لتايلند. وحين اقترحت اليابان إنشاء صندوق مالي يسمى «صندوق آسيا» برأسمال 100 بليون دولار، من أجل مساعدة الدول الآسيوية التي تتعرض لهزات اقتصادية، رفضت أميركا الاقتراح، وحرٍّض وزير الخزانة الأميركي ميشيل كامديسو، رئيس صندوق النقد، على رفضه لأن الاقتراح الياباني ينتقص من سلطة الصندوق.

                أما البنك الدولي، فالاتهام الرئيس له، أنه يزيد الفقر، ولعل ما ورد في كتاب الاستقالة الموجه من بيير جلان، أحد العاملين بالبنك الدولي، إلى مدرائه في البنك، أسطع دليل على حقيقة البنك الدولي. وقد ورد نص كتاب الاستقالة في كتاب «القارة التائهة» للصحفي الإيطالي جني منه تحت باب «إستجوابات صحفية حول أميركا الجنوبية».

السـادة مدراء البنـك الـدولي :

                عشية المناسبة الخمسين لولادة منظمة الأمم المتحدة والمنظمات التي نشأت بعد اتفاق (بريتون وودز) أرغب في تقديم استقالتي من مجموعة العمل للمنظمات غير الحكومية في البنـك الـدولي، ولجنة الاقتراحات التابعة له، آخذا هذا القرار من أجل الأمانة الفكرية، ومن أجل أن أكون صادقا مع كثير من الأصدقاء الذين عملت معهم من العالم الثالث.

                بعد أن أتيحت لي فرصة الإطلاع خلال الثلاث سنوات الأخيرة على سلوك البنـك الـدولي، فإنني أضم نفسي إلى بعض زملائي في المنظمات غير الحكومية، الذين يعتقدون أن الطريق الوحيد للعدالة والصدق بيـن شعوب الأرض هي مقاطعة البنــك الــدولي. وقد كنت أملت في الماضي أن تعاونا وتضافرا مع مجموعة العمل للمنظمات غير الحكومية في البنـك الـدولي سيساهم في إنماء مسؤولية مشتركة تجـاه مستقبل الشعوب الأقل حظا في العالم. ولكنه لم يكن كذلك، الفقر يزداد، الجوع يقتل … بالتأكيد أكثر من الحروب، وأعداد الذين تنقصهم العناية الطبية، والشباب الأميين، والأيتام، يزداد كل يوم بأرقام لم يكن لها مثيل. ومع كل ذلك، فالحلول المقترحة من البنـك الـدولي من أجل التنمية هي الدواء المسموم، ولا يزيد الطين إلا بلة !

                بصدق أشعر في قرارة نفسي أن من واجبي أن أقول … كفى! لقد سيطرتم على أفكار وآراء المنظمات غير الحكومية حول التنمية، وحول التنمية الاقتصادية، وحول الفقر، وحول دور المشاركة الشعبية. ثم في نفس الوقت اقترحتم سياسة إصلاح هيكلي تفاقم الآفات الاجتماعية في الدول الجنوبية في الكرة الأرضية، تاركيهم وحيدين من غير حماية في براثن السوق العالمي.

                إن المنظمة المسؤولة عن التنمية في كل العالم هي البنـك الـدولي، وهي الأكثر تعجرفا، تتدخل في شؤون الدول الداخلية والخارجية بقوة لم يكن لها مثيل في التاريخ، تحدد شروط التنمية لكنها لا تعتبر نفسها مسؤولة عن النتائج. تعلمت منظمة البنـك الـدولي إعداد التحاليل الممتازة، والقدرة على التكلم عن مواضيع مهمة كالمشاركة الشعبية ـ خاصة المتعلقة بالمرأة ـ  ومحاربة الشعوب للفقر، والحاجة إلى حماية البيئة، وتذهب أبعد من ذلك إلى المدافعة عن حقوق الإنسان وتلك الخاصة بالأقليات. وتقوم بالضغط على حكومات من أجل أن يحترموا تلك الحقوق، وهي قادرة على جعل أفكارها لماعة، مشيرة إلى أنه كم هو من المهم للتنمية أن تحترم أفكارها من قبل هذه الدولة أو تلك.

                أمام كل هذا ينشأ سؤال واحد: لماذا كل هذا الطرح الرنان الملحق بالإجراءات المخزية؟ فمن الناحية العملية يشترط البنـك الـدولي لتقديم دعمه تنفيذ سياسات التعديل الهيكلي والتي تعتبر مجرمة من الناحية الاجتماعية.

                البنـك الـدولي يعرف تماما عن الفقر، وكيف يصبح الناس فقراء، وعن كيفية تهميش قطاع ضخم من السكان على وجه الأرض. إذا … هذا عبارة عن استهتار … عن دجل سياسي. أنا شخصيا أعتقد أنه يوجد سوء نية وراء كل هذا، ذلك لأن البنـك الـدولي ـ وراء كل طرحه المنمق والجميل ـ يعتبر أداة في خدمة نظرية متأصلة للتطور، مبنية على المنافسة وليس على التعاون. إن من واجب البنـك الـدولي تأمين المشاركة في السوق العالمي للجميع، كباراً وصغاراً.

                من النادر جدا ـ لكن بالتأكيد ليس اليوم ـ أن يكون النمو الاقتصادي مرادفا لكلمة التنمية، في هذه المرحلة من القرن الحالي، النمو والمنافسة عبارة عن وسائل للثراء السريع لأقلية من البشر، من غير أن يكون لهذا أثر على التنمية، أو على التعاون، أو على إعادة توزيع الثروة بين بني البشر. إن عدم التكافؤ بين بني البشر عميق، والجوع يقتل ملايين الأشخاص من غير أن يؤدي ذلك إلى الثورة أو الامتعاض.

                ما دام البنـك الـدولي يمارس سياسة التعديل الهيكلي وهو خالي الشعور، فإنه يبقى من واجبنا أن نحرك أكبر عدد ممكن من ضحايا هذا التعديل من أجل محاربة هذا النوع من التدخل.

                بعد اشتراكي بصفتي عضوا في مجموعة العمل لمدة ثلاث سنوات ونصف في الحوار مع البنـك الـدولي … أقدم استقالتي لأني أعتقد أنه لا يوجد أي أمل لجعل البنـك الـدولي أكثر إنسانية.

                إفريقيا تموت والبنـك الـدولي يزداد ثراء، آسيا وأوروبا الشرقية يرون ثرواتهم تنهب، والبنـك الـدولي يدعم اقتراحات صندوق النقد الـدولي ومنظمة التجارة العالمية التي تبيح النهب للثروات المادية والعقلية. أمريكا اللاتينية كالقارتين الأخريين ترى برعب كيف أن أطفالها يستعملون كقوة عاملة، بل وأكثر رعبا يستعملون كقطع غيار لسوق زرع الأعضاء في شمال أمريكا.

                خلال طروحات البنك الدولي يتكلمون عن التضحيات الضرورية التي تتطلب التصحيح الهيكلي من أجل أن تنخرط الدول في السوق العالمي المعولم، كأنه صحراء قاسية يجب عبورها من أجل الوصول إلى أرض التنمية الموعودة. لا أريد أن أكون متواطئا مع هذا التسليم الذي يعظ له البنـك الـدولي، أفضل أن أساند منظمات الفلاحين من غير أرض، وأطفال الشوارع، والنساء في الشوارع الآسيوية، اللواتي يرفضن بيع أجسادهن، والعمال والنقابات التي تحارب نهب مصادرهم وتفكيك قدراتهم الإنتاجية.

                لخبرة طويلة أعرف أنه يوجد أصدقاء كثيرون في المنظمات غير الحكومية يظنون أن حوارا مع البنـك الـدولي يفيد في تغيير نهجه ليصار إلى تفهم أحسن لمطالب التعاون والتنمية. احترم  هذا الرأي، واحترم الذين بداخل البنـك الـدولي، أولئك الذين يأملون في أن الحوار مع المنظمات غير الحكومية يؤدي إلى تغيير في التقييم … لكن لخبرتي الطويلة في مجموعة العمل، أفضل أن أترك قبل أن تنتهي فترة صلاحياتي لأني لا أريد أن أستمر في أن أكون متواطئاً.

                تمنياتي للبنـك في نهاية هذا العام بسيطة :خمسون عاما كافية … أنتم أحد الأعداء الرئيسين للفقراء وللحقوق التي يدافعون عنها من خلال الأمم المتحدة، أنتم عبارة عن الآلة الأكثر تطورا وضخامة للعلاقات العامة الموجودة اليوم في العالم لفرض إحساس الإحباط على الجميع، ولدفعهم للاستسلام والرضى بأن النمو محفوظ لأقلية، وأن البقية الذين لا يعتبرون منافسين بالشكل الكافي ولا قابلين للترويض لا يبقى لهم إلا الفقر الذي لا مفر منه.

                إن دفع اقتصاد التنمية الذي يروج للعدالة الاجتماعية عن طريق فتح المجال لعدد أكبر من الناس لأخذ أجر عال يفرض علينا أن نبحث عن منظمة أخرى، المنظمة التي تحل محل البنـك الـدولي. ويجب عليها أن تسمح لأبناء البشرية الاشتراك والتمتع بأعمال تعيد لهم شرفهم، وتضمن لهم الغذاء والحق في أن يكونوا مختلفين، كل ذلك في إطار من النمو المشترك.

                وأنا أترك مجموعة العمل، أحيي زملائي الذين لا أزال أحترمهم، وأعبر عن تقديري لكل الموظفين لهذه المنظمة. فقط بإعادة البناء وبجهد جديد من أجل تحويل الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عن اتفاق (بريتون وودز) سنكون قادرين على خلق ظروف مناسبة من أجل معاودة البدء بالحرب ضد الجوع ولصالح التعاون من أجل النمو المشترك بين بني البشر.

بصراحة ـ السكرتير العام للاكسفوم

                           بيير جلان ـ بلجيكا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *