العدد 150 -

السنة الثالثة عشرة – رجب 1420هـ – تشرين الثاني 1999م

كلمة الوعي: تغـريـب الإسـلام بعد تغـريـب المـجتمـعـات !

لقد كانت هزيمة المسلمين في الحرب العالمية الأولى كارثة ضخمة، فأكمل الكفار احتلال بلاد المسلمين جميعها، بعد أن كانوا باشروا سلخ أطراف الدولة الإسلامية منذ القرن التاسع عشر، فقد احتلوا جنوب الجزيرة العربية، ثم الشمال الأفريقي، ومصر والسودان، وكانت الأجزاء الأوروبية أول ما اغتصب من بلاد المسلمين، ثم كان الإجهاز التام بالسيطرة على بلاد الشام واقتسامها غنائم بين دول الكفر آنذاك: بريطانيا وفرنسا. وكانت دول أوروبا الكافرة قد باشرت غزوها الثقافي والسياسي منذ القرن الماضي، واستطاعت أن تكسب ولاء بعض المفكرين والسياسيين، وأن تزرع عملاءها في القوات المسلحة وفي مراكز صنع القرار في الدولة. وبرغم نجاحها في استمالة أفراد مؤثرين إلى جانب فكرها وحضارتها وطرازها في العيش، إلاّ أن الدولة بقيت إسلامية، وظلت المرجعية إلى الإسلام، وبرغم أن الدولة أدخلت بعض القوانين الغربية منذ منتصف القرن الماضي، إلاّ أنها أدخلت تحت مظلة الإسلام بحجة أنها لا تخالف الإسلام، وأفتى بذلك شـيـخ الإسـلام.

                أما بعد احتلال بلاد المسلمين، والقضاء على دولة الخلافة، فقد باشر الكفار جميعاً بتغريب المجتمعات بعد أن نجحوا جزئياً في تغريب بعض الأفراد، فحكموا الناس حكماً مباشراً، واستبدلوا قوانينهم الوضعية الكافرة بأحكام الإسلام في كل مناحي الحياة: السياسية، والثقافية، والتربوية، والاقتصادية، والعسكرية، (باستثناء الأحوال الشخصية)، وجعلوا من حضارتهم وتاريخهم وثقافتهم، مصدراً للمعرفة والتربية والتثقيف في بلادنا الإسلامية، وجعلوا من أنفسهم أوصياء على المسلمين (ما أريكم إلاّ ما أرى)، وبذلك اتسعت دائرة المفتونين بهم وبحضارتهم، والمتنكرين لأمجادهم ولماضيهم المشرّف، والغرباء عن أبناء أمتهم، وعن حضارتهم، والمستأنسين بحماية عدوهم، وبذلك وُجد وسط سياسي وإعلامي وثقافي متغرب تماماً، وأصبح جاهزاً لتولي إدارة البلاد والعباد نيابة عن أعدائها، فلما سحب الغرب الكافر وجوده الظاهر المعلن من بلادنا الإسلامية، أوكل مهمة مواصلة تغريب الأفراد والمجتمعات إلى عملائه من حكام وسياسيين ومثقفين وإعلاميين، وأرضى غرور الناس المتطلعين إلى الانعتاق من هيمنة الكفار، والمتشوقين إلى التحرر من استكبار الدول الاستعمارية وإذلالها، فوجدت الدول الوطنية، ورعى الكافر التحالفات والمشاريع الجماعية بينها لتركيز تجزئتها، وللمحافظة على الأوضاع الداخلية في كل دولة، وللحيلولة دون تحرّرها بشكل تام وناجز من آثار الاستعمار والاحتلال.

                وكان هاجس الدول الكافرة وعملائها، الإسلام السياسي، فهو الوحيد القادر على استئصال جذور المستعمرين المحتلين وعملائهم، ولهذا رفعوا شعار «فصل الدين عن السياسة»، وأن الدين قيم رفيعة، وأن السياسة كذب وتدجيل ولف ودوران، ولا يستساغ إسقاط الدين في أوحال السياسة، ثم كان تحريم العمل السياسي على القادرين عليه من الطلاب والمتعلمين والموظفين وأفراد القوات المسلحة، وبذلك نخلو الساحة السياسية للعملاء والمنافقين والمرتزقة؛ ومنعت الأحزاب السياسية، وبخاصة الإسلامية، التي تتخذ العمل السياسي والكفاح السياسي طريقاً للوصول إلى الحكم، وذلك بحجة أنها تستغل الدين وتتخذه مطيّة لأهدافها السياسية، وشارك في الحملة على هذه الأحزاب بعض الجماعات والجمعيات الإسلامية، وبعض المتدينين من أبناء المسـلمـيـن، في الوقت الذي كانت فيه الأنظـمـة تدعـم الحـركـات الجمعية، والجماعات غير الجذرية، وتفسح لها المجال في العمل، وتستغلها في الوقوف في وجه الحركات المخلصة التي تستهدف

 

تـغـيـيـر الأوضـاع بـرمـتـهـا ومـن جـذورهـا.

                واليوم، يخطو الكفار خطوة جديدة نحو تغريب أفكار الإسلام وأحكامه، بعد أن نجحوا في تغريب الكثيرين من الأفراد المؤثرين، وفي تغريب المجتمع من خلال الأنظمة المطبقة عليه، وأصبحت بعض الحركات الإسلامية تحمل شعارات المجتمعات الغربية، وتدعو تجمعات المسلمين في دول الغرب إلى الانفصال عن جسم الأمة الإسلامية المتمركز في البلاد الإسلامية، وأن تكون لهم قياداتهم الدينية المستقلة، حتى وأن تكون لهم مرجعياتهم في إثبات هلال رمضان وشوال، ثم أن يندمجوا مع المجتمع الغربي، باعتبار أن مصالحهم موجودة فيه ومتشابكة مع مصالح أهله. وأصبحت الديموقراطية ونظام الحريات، وتداول السلطة، وحرية الأحزاب شعارات لامعة برّاقة، يدعو لها الكثير ممن يسمّون مفكرين أو منظرين مسلمين، ولهذا لم يكن غريباً أن يتهم رئيس حركة إسلامية بالحمق كل من يهاجم الديموقراطية، ولم يكن مستهجناً أن توافق حركة إسلامية على الترخيص للأحزاب الكافرة، حتى والقبول بها في سدة الحكم إن جاءت عن طريق صناديق الاقتراع، وهذا يؤكد أن فكر هذه الحركات التي تسمي نفسها إسلامية، هو فكر غربي خالص، مهما حاولوا تبريره بنظام الشورى، أو الشورقراطية على ميزان الديموقراطية. وللأسف الشديد، فإن هنالك أفراداً ومؤسسات منتشرة في كثير من البلدان، مهمتها تنحصر في محاولة صياغة الإسلام في القالب الغربي. فهي تجهد في إقناع المسلمين، بأن الإسلام في خطر شديد، وأن إنقاذه لا يتأتى إلاّ إذا أصبح مقبولاً عند الغرب، ولهذا فهم يحاولون تزويق الإسلام وتطويره وتحويره، لكي يرضى به الغرب وبذلك يضعونه في سلتهم، أي أن هناك عمـلاً واسـعـاً ومتـواصلاً من قبـل أفـراد ومؤسـسـات وترعاه حكـومـات من أجـل أن يصـبح الإسلام غربياً، أي أن يصبح رافداً من روافد الفكر الغـربي الديموقراطي، كما كانت الاشـتـراكـيـة جزءاً من الفكر الغربي، وبذلك يصبح الفكر الغربي مكوناً من ثلاثة روافد: الفكر الديموقراطي الغربي، وهو الرافد الأقوى والأوسع، والفكر الاشتراكي، والفكر الإسلامي، وربما كان هو الأضعف، ومن هنا جاءت الدعوات الواسعة الانتشار من أجل الحوار بين الأديان، والتفاعل بين الحضارات، والتلاقح بين الأفكار، وكلها جميعاً تصب في خانة الكيد لدين هذه الأمة، إذ كيف يتحاور دين التوحيد مع أديان الشرك وكيف يتحاور الدين مع اللادين، وكيف تتفاعل حضارات متناقضة؟! اللهم إلا إذا سيطرت إحداها على ما عداها، وأذابـتـهـا في حـضـارتـهـا.

                وإلى هؤلاء الأفراد، وإلى تلك المؤسسات، نتوجه بندائنا المخلص، ألم تقرأوا قول الله تعالى: (ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً) وقوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)؟! ألا تحسّون وتلمسون تحرّك المسلمين المخلصين الجاد من أجل عودة الإسلام إلى الحياة، تحكم به دولة، وتحمله إلى الناس؟! أم أنكم تريدون أن تجهضوا تحرك إخوانكم من أجل تغيير الأوضاع في بلاد المسلمين، إيذاناً بتغيير الأوضاع في العالم، وبذلك تصير كلمة الذين كفروا هي السفلى وكلمة الله هي العليا دائماً وأبداً. نحن نعذر المسلمين حين تكالبت عليهم الأمم في أوائل هذا القرن، أما في نهايته، وقد أصبح المسلمون يفدون إسلامهم بكل ما يملكون، وتحدّد هدفهم بأنه استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة وتعيّن عدوهم بأنه الكفر بكل أشكاله وطروحاته، فلا عذر لأحد أن يتنكّر للمسيرة المباركة، أو أن يتنكّب عن الطريق السويّ، فلا مكان بيننا للمنهزمين فكرياً وسياسياً، ولا مكان لغير العاملين المتفائلين بـنـصـر اللـه الـمـبـيـن.

                ومن لم يلمس التغيير الكبير الذي طرأ على المسلمين في العقدين الأخيرين، فليطوِ شكوكه ويأسه بين جوانحه، وليترك القافلة تسير وليقل خيراً أو ليصمت، وفي كل حال فليستمسك بالعروة الوثقى، فإن الهزيمة الساحقة تكون في التفلت من أهداب الدين، والتنكر لقيمه، وتحوير مفاهيمه. قال تعالى: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) صدق الله العظيم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *