العدد 245 -

العدد 245- السنة الواحدة والعشرون، جمادى الآخرة 1528هـ، تموز 2007م

الحاجة لمقاييس الإسلام في الحزب والدولة والأمة

الحاجة لمقاييس الإسلام في الحزب والدولة والأمة

 

تنشأ الأمة صاحبة الرسالة طبيعياً وحتمياً وفق مقاييس محددةٍ ضمن اعتبارٍ واحدٍ فقط ألا وهو أن تكون الرسالة والمبدأ هو ماؤها وغذاؤها وهواؤها، فعلى أساسها وجدت، وبها تبقى وتعز، ومن أجلها تحيا، وبغير ذلك الفناء.

إن أمةً كأمة الإسلام عمّرت وأثمرت نحو ثلاثة عشر قرناً ولم تجتمع يوماً على ضلالة، لهي أمة ليس لها مثيل بين الأمم، ولم يشهد التاريخ لها شبيهاً في حياة البشر… إن هذا يوجب البحث عن كل سببٍ وراء عظمةِ أمةٍ هي خير أمة أُخرجت للناس من بين البشر، وإن البحث في ذلك وعنه لهو من أعظم ما يُقصد وأغلى ما يحُضن. إن أعظم ما تتفطر منه القلوب أن نرى كيف انحدرت أمة عظيمة نادرة مثل أمة الإسلام عندما تهاون الأحفاد بتركة الآباء والأجداد حتى قاربت بسبب ذلك على الفناء. إن عِظم الأمانة وحمل المسؤولية وأعباءها يحتم علينا أن نحيط بالتركة العظيمة هذه من أطرافها، وأن لا نفرط بشيء منها قيد أنملة. وللإحاطة الواجبة تلك لابد من دراسة واستقصاء وإنعام نظر لكل أمر دقّ أو جلّ، صغر أو كبر، فقد نرى هيناً وهو عند الله عظيم. فلا يهونن علينا شىء من هذه الرسالة فيوهننا، كما لا يهولننا شيء منها فيحطنا، وهذا هو أول سبب لا بد أن أن نأخذ به إن أردنا لأنفسنا وأمتنا كل خير.

إن الإنسان في هذه الحياة إما أن يسير بصورته الفردية أو الجماعية في المجتمع أو الدولة أو الأمة. ولن تسير هذه الأمة بكياناتها على هدى قط إلا وفق مقاييس تضبط ما يصدر عنها حتى لا يشوبها الخلل، وتضمن بها تحقيق كل غاية وأمل، مصداقاً لقوله عز وجل: ( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [الملك 22] وإن أول ما دخل النقص والخلل على المسلمين كان في إلغاء اعتبار واعتماد هذه المقاييس في سلوك الفرد والجماعة واستقامتها، حتى اجتمعت المتناقضات، وتنافرت المتَّفقات، واختلطت الأمور، واختلفت الجماعة،وتخبطت الأمة في عقليتها وتنكبت في سيرها عن جادة الصواب مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً»  فأصبحت ترى الفرد يجمع بين التزامه بالصلاة والحج، وترك الصيام والبيعة، وترك الخمر وأكل الربا، وإيتاء الزكاة، وكشف العورة والاختلاط، وأصبحت ترى الجماعة تجمع إيواء اليتامى وبناء المساجد، وموالاة الحكام، وتجمع بين تحطيم الخمارات، وإهانة الكاسيات العاريات، والمشاركة في وزارات الدول التي تحكم بغير ما أنزل الله، وكذلك أصبحت لا ترى غضاضة في أن ترى دور السينما والمصارف الربوية في أمهات مدن المسلمين، وأصبح الجلوس والتشاور مع الحكام وأركان مخابراتهم من قبل من يتصدرون لمقاومة المحتل أمراً عادياً. مع أن هؤلاء الحكام قبل خيانتهم وتفريطهم في بلاد الاسلام ودماء وأعراض المسلمين يجب خلعهم. فهم ليسوا منا ولسنا منهم، بل هم مغتصبو السلطة فليسوا أهلاً لأن يبقوا يوماً واحداً على كرسي الحكم؛ فكيف بموالاتهم  والجلوس معهم.

إن العود الحميد للإسلام يعني الأخذ به كرسالة تقوم على أساسها دولة ومجتمع متميز، ويجب أن لا يخلو من حزب سياسيٍ ليظل خير ضمانة لحسن تطبيق الإسلام وحمله للعالم من خلال الدولة والأمة، ويجب أن تتجسد في كيان الأمة والدولة والحزب والفرد مقاييس وضوابط تضمن المحافظة على كيانية كل واحدٍ منها، بحيث تكون منسجمة مع بعضها لتحقيق قضية الإسلام وبلوغ أهدافه في أرض الواقع. وبما أن مبدأ الإسلام هو من عند الله اللطيف الخبير، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فعلينا أن نضمن نقاء الفكرة واستقامة الطريقة لتتضح بذلك ضوابط ومقاييس كل كيان. وعليه فإن حياة الأمة بالإسلام تُضمن من خلال قيام كيان الأمة وفق مقاييس تضمن بقاءها كأمة صاحبة رسالة، وقد حرص الإسلام على أمور مفصلية: ألا وهي بناء الأمة السليم في كيانها وفق مقاييس الإسلام كجماعة، وبناء كيان الدولة وفق مقاييس وضوابط محددة، وكذلك الحزب المبدئي او ما تُسمى بالطائفة القائمة بالحق، وكذلك الفرد لا بد من أن يكون أساس كيانه الفردي وفق هذه المقاييس. والعبرة بالمقاييس أنها كأفكار أساسية تشكل  مرجعاً في كافة الظروف، وضوابط أساسية للسلوك، يرجع لها باعتبارها الأساس والمنطلق، والحافظة من الزلل. وبالنظر في واقع كل كيان فانه لا بد من مراعاة المقاييس والضوابط التي تجب مراعاة تحقيقها في كل ظرف وعصر:

1- كيان الأمة:

ان الأمة هي مجموعة الناس تربطهم عقيدة. ومن بديهي  القول إن هذا الارتباط بين الناس هو أعلى وأقوى رابط على الإطلاق بين البشر، فكيف إذا كانت الأمة تربطها العقيدة الإسلامية. فهي بذلك تتفرد بفرصة كونها خير الأمم إذا ما التزمت بتبعات هذا الشرف الرفيع، وهذه التبعات هي بمثابة الضوابط والمقاييس، ومن ذلك.

l اعتبار العقيدة الإسلامية هي عقيدة سياسية روحية. فالعقيدة هي المقياس الأساسي لكل فكر. فهي أصل الحل للعقدة الكبرى، فبها فُسّر معنى الوجود، ومعنى الحياة، وإلى أين المصير. وباعتبار أن الإنسان اجتماعي لا غنى له عن العيش الجماعي، كانت العقيدة الإسلامية خير بلسم تنتظم به الجماعة على خير عيش؛ حيث تتكافأ الدماء والأموال، والكل سواء في الحقوق والواجبات والمؤاخذات، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، والقوي ضعيف حتى يُؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له، وهكذا. وهذا لا تقوم عليه الأمة وتحفظ نفسها من الاندثار إلا إذا أخذت عقيدتها أخذاً سياسياً أي بمعنى أن لا حياة ولا بقاء للأمة إلا بالعيش وفقها، ولا حياة ألا بحملها رسالة للعالم.

l لا بد أن تؤخذ العقيدة عن يقين وبالدليل القطعي عقلياً في العقليات قطعياً في النقليات، فالعقيدة لا تُبنى على الظن لأنها بمثابة الأساس والأصل، والأساس لا يختلف اثنان على وجوب متانته، فهو الأصل الأول الذي يبنى عليه كل شيء. يقول عز وجل: ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) [الإسراء 36]، ( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) [النجم 28].

l مقياس الأُخوة هو العقيدة. مصداقاً لقوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [الحجرات 10]. وهذا يوجب الولاء لكل مسلم، والبراء من كل كافر أو مشرك، ولا اعتبار في ذلك للون أو عرق أو لغة،  فالإسلام آخى بين العربي والأعجمي، بين الفقير والغني، وبين السيد والعبد، وأوجب البراء من كل شقي وكافر، ولو كان هاشمياً قُرشيا ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) [التوبة 71] ، ( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) [المجادلة 22] فلا عبرة بالإنسانية لمجرد الاشتراك بالغرائز والحاجات العضوية، وما دعوى الأخوة الإنسانية بغض النظر عن وجهات النظر إلا اتباع للهوى والضلال.

l اعتبار ما سوى الإسلام كفرٌ وضلال. مصداقاً لقوله عز وجل: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [آل عمران 85]. عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (رواه مسلم وأحمد)، فلا قواسم مشتركة بين الإسلام وغيره…

l الحضارة لا تُؤخذ من الغير، ويأخذ حكمها المدنية الخاصة، وأما العلم فهو عالمي، والمسلمون أولى بالتقدم وأخذ الريادة في ذلك، وما تاريخ الأمة الإسلامية الزاهر الزاخر بالعلماء والمفكرين والقادة، والذين كان العالم عَيَّالاً عليهم، وحتى اليوم إلا خير دليل على القيام بهذا الواجب، وكان اختلال هذا المقياس نذير شؤم، ومعول هدم أصاب المسلمين في شر مقتل.

l الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح والمحاسبة بين المسلمين، أمارات رحمة، وتواصٍِ بالحق، وضمانة قوة بين المسلمين. مصداقاً لقوله عز وجل: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة 71] وبالمقابل فقد هدد الإسلام بأقصى العبارات المنذرة بالهلاك إذا ما تركت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم» (رواه الترمذي وأحمد من طريق حذيفة بن اليمان، وفي لفظ الترمذي «… عقاباً منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم»).

l السمع والطاعة فيما يرضي الله عز وجل.  فلا جماعة إلا بأمير، ولا أمير إلا بطاعة، ومن ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» (رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد من طريق أبي هريرة)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أطاع أميري فقد أطاعني ومن أطاعني فقد أطاع الله عز وجل» (رواه أحمد من طريق سفيان) فقد شدّد الإسلام على خُلق الطاعة باعتباره مقياس الانضباط في الدولة، حيث يضمن الجميع في بوتقة واحدة، وفي اتجاه واحد، ما يمنع أيّ تنكب عن جادة الصواب، أو تأخّر عن الركب في سير الدولة في أي موقع أو أي زمان، وما مخالفة الرُماة لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والخروج عن طاعته إلا دليل واضح على أن ذلك هو السبب المباشر للهزيمة… وهكذا في كل مقام.

l الخلافة الإسلامية باسمها ومسماها هذا هي فقط جامعة الكلمة للأمة. فهي الحافظة والحامية، بها تتكافأ الدماء، وتحفظ الذمم، وبها حافظت الأمة على أطرافها كحفاظها على قلبها وأحشائها، وما تجرأ أحد على التفكير بالنيل من أي فرد من أفرادها إلا ثكلته أمه، وأُخذت به العبر، فلا ريح للأمة إلا بدولة الخلافة، هذه هي الحقيقة والمقياس الشرعي والتاريخي والواقعي، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنما الإمام جُنّة يقاتل من ورائه ويُتقى به…» (رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد من طريق أبي هريرة).

l الأمة بحاجة لحزب مبدئي سياسي في كل عصر من عصورها. استجابة لقوله عز وجل: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران 104]. وباعتباره الثلة الواعية في الأمة، يكون هو المشرف على فكرها وحسها، وهو ظل الدولة ورديفها، وردؤها يصدقها، وهو المبصر بكل ما دق وجل مما يحيط بها، أو يخالجها من خلل أو مؤامرات أو دسائس، فهو عينها ويدها، وحافظها من الانتكاس في فكرها وشعورها، كما وينقلها من علي الى أعلى، ويظل العين الساهرة في كل الظروف، فيبعدها بإذن الله عن النِقم، ويبلغها بفطنته خير النِعم، ويقودها بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إلى أعلى درجات المرتقى السامي.

2- كيان الدولة:

وهو باعتباره الطريق الشرعي لتطبيق الإسلام، فالدولة هي التي تطبق الحدود، وتشرف على التزام أحكام الإسلام إشرافاً عملياً بالتشريع والتوجيه والتنفيذ، بكل ما أُعطيت من صلاحيات شرعية، فهي أيضاً المسؤولة مسؤولية مباشرة عن المحافظة على العقيدة والدعوة لها، وإقامة الثقافة على أساسها، وكل ما له مساس بحياة المسلمين، وحملها رسالة إلى العالم. وهذه أهم المقاييس التي ترتكز عليها الدولة:

l العقيدة الإسلامية هي أساسها كياناً وتشريعاً ومحاسبة. فلا يقبل اي فكر أو رأي في الدولة، أو أي تشكيل من تشكيلات جهازها إلا والعقيدة هي أساسه. ولا يسمح بوجود أي فكر أو رأي في المجتمع إلا والعقيدة أساسه، فلا تعددية فكرية أو سياسية على غير أساس العقيدة الإسلامية، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (رواه مسلم وأحمد من طريق عائشة رضي الله عنها).

l الخلافة هي رئاسة عامة لجميع المسلمين في الدنيا. فمسؤولية الخليفة مركزية، وصلاحياته مركزية بكل ما تعنيه من تفصيلات، وما تقتضيه من متطلبات توجب إبقاء المركزيه للخليفة، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «…فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عمَّا استرعاهم» (رواه البخاري ومسلم وأحمد وزاد عليه «…وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم…»).

l الطاعة ضرورة واجبة على الرعية .وهي ضمانة للوحدة، واجتماع الكلمة، ولا ريح إلا بها. مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «… تسمع وتطيع للأمير وإن ضُرب ظهرك وأُخذ مالك فاسمع وأطع» (رواه مسلم). وروى ابن عباس (رضي الله عنهما) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أيما رجل كَرِهَ من أميره أمراً فليصبر، فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبراً فمات إلا مات ميتةً جاهليةً» (رواه أحمد).

l الشورى هي ضمانة رُشد، وسدادٌ للرأي، وإحاطة بالخير، وسند للدولة، إضافة إلى ما تبعثه من روح الثقة بين الراعي والرعية، والتعاون والتعاضد، ما يؤدي الى استنهاص الهمم، واجتماع الخيرات في المهمات والملمات، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما تشاور قوم في أمر من أمور دنياهم إلا هُدوا إلى أرشد أمرهم».

l البطانة الصالحة للخليفة هي ضمانة الحفظ والاستقامة بإذن الله. فهي مستودع سره، محيطه ووسطه، فلا بدّ أن يكون المأمن آمنا، والمحيط حافظاً ومانعاً ومنيعاً، والوسط نقياً، والبطانة خير مؤنس، وأشد مؤثر، يقول عز وجل: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) [آل عمران 118]، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الرجل على دين خليله…» (رواه الترمذي وأبو داود وأحمد بلفظ “المرءُ”). وإن كثيراً من اللفتات العظيمة في المواقف القوية الراشدة المضيئة كانت بتوجيه من البطانة الصالحة، كيف لا وهم الفقهاء، وأولو النُهى والرجاحة في الرأي، وأهل الخبرة والدراية والتقوى، ولا أدلّ على ذلك من مواقف عمر بن الخطاب مع أبي بكر، وبطانة عمر بن عبد العزيز معه، وكذلك صلاح الدين الأيوبي.

l الدولة هي دار الإسلام التي تجمع جماعة المسلمين، فلا دار للإسلام إلا بها، ولا جماعة للمسلمين إلا بإمام، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «… تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» (متفق عليه). وقال: «… ومن أأأأأأراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة» (رواه الترمذي) وبغير هذا يكون المسلمون غثاء كغثاء السيل. والمحافظة على جماعة المسلمين يجب أن تكون بالأرواح والمهج يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد منكم يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (رواه مسلم).

l الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام باعتباره الطريق الشرعي لحمل الإسلام رسالة للعالم. وهذا يعني الثبات في كل الظروف والأحوال عليه كطريق شرعي بغض النظر عن تطور وسائل الاتصال والإقناع، بل إن كل هذه التقنيات المتقدمة لا تعتبر إلا وسائل تُسخر وتُستغل في هذا الباب الثابت العظيم،عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «… والجهاد ماضٍٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل…» (رواه أبو داود) وهذه أمارة ثبات وديمومة فلا تغيير ولا تبديل.

3- كيان الحزب المبدئي:

إن هذا الكيان هو بحق مفصل مهم من مفاصل بناء الإسلام، وأعضاؤه يجب أن يكونوا الثلة الواعية في الأمة، وخلاصة الخير، أعضاء اجتمعوا في الله ولله، وهم عين الدولة، وضمانة الخير لها وللأمة، وهم العين الساهرة على إحسان تطبيق الإسلام، والحائلون دون انتكاس الأمة والدولة، وفي ظل واقع مثل واقع اليوم يعمل الحزب في الأمة ومعها للعودة بها عزيزة كريمة ناهضة في ظل دولة الحق. ومن أهم المقاييس التي يقوم ويستمر عليها كيان الحزب المبدئي:

l أن يقوم وفق مقومات قول الله عز وجل ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران 104] فيقوم على مبدأ الإسلام الذي يستمد منه فكرته، وطريقته، وثقافته، وغايته. وعلى أساسه يتم إعداد تكتله إعداداً صحيحاً، يؤهله للقيام بأيّ مهمة يطلع بها في أيّ ظرف من ظروف حياة الأمة، والحفاظ عليها خير أمة أخرجت للناس، وصاحبة رسالة خالدة.

l أن يقوم الحزب على أمير وثقافة وتبَنٍٍّ، فالأمير هو القائد، والجامع للكلمة، وصاحب الحق في التبني وحده، والثقافة هي البناء والرابط والزاد للحزب، وهي سر عطائه، وهي مادة دعوته، والتبني هو الحاجة الماسة للالتزام الصحيح بالإسلام، والاستقامة عليه وفق أمر الله عند تعدد الآراء، فهو لازم للفرد والجماعة، وهذه مسلمة بديهية لا يختلف عليها عاقلان يعقلان وفق الإسلام. فلا جماعة إلا بأمير وثقافة وتبَنٍّ (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

l أن يقوم الحزب على مسلمات وهي بمثابة أساسيات وثوابت تكون بمثابة واجبات، وبمثابة مواد تحفظه من الزلل، وتضمن له الاستقامة إذا تنكب عن الاستقامة أحد، ولو كان هو الأمير بنفسه. فهي مقياس وجود وبقاء وحكم عند الاختلاف، ومن ذلك على سبيل المثال: لا يجوز للحزب التبعية لأي دولة أو هيئة أو منظمة دولية، أو الاتصال بها، أو التعاون معها بغض النظر عن أي تبرير؛ لأن ذلك هو انتحار سياسي.

l أن يكون قرار الحزب فردياً، والشورى رشداً، والنصح والمحاسبة أمارتي أخوة واستقامة، يقول الله عز وجل: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ  ) [النور 62] ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) [الشورى 38] ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة 71].

l أن تقوم الكتلة على فكرةٍ واضحةٍ ومحددة، وطريقةٍ من جنسها. وأن يكون إعداد الأشخاص على أساس ثقافتها لتكتمل بذلك إرادتهم لتحقيق غايتها. وكل هذا لا يكون إلا اذا كانت الكتلة مبدئية، بذلك تضمن معالجة الواقع معالجة مبدئية لتضمن العلاج، لا معالجة واقعية تجعلها رهن التخبطات الآنية. فالمبدأ دائماً ثابت يعلو ولا يُعلى عليه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه».

وبناءً على كل ما تقدم، فإن إعادة الكيانية الصحيحة القويمة للأمة يوجب إعادة صهرها، وبنائها وفق المقاييس التي تصنع بها، وذلك من خلال العود الصحيح عبر طريقة صناعة هذه الكيانية، وذلك من خلال السير في طريق الإسلام التي ترسمها النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بايجاده كيان الكتلة -كتلة الصحابة- التي من خلال هضمها للإسلام ثقافة ورسالة، قامت بالصراع الفكري والكفاح السياسي بغية الهدم والبناء في آن، لبناء المجتمع الإسلامي وإقامة الدولة وإقناع أهل القوة بضرورة الحكم بالإسلام وحمل رسالته للعالم. لذلك فإن بناء كيان الأمة على مقاييسها لا بد أن يمر عبر بناء الكتلة على مقاييسها، ومن ثم يقوم بناء الدولة على مقاييسها، وبذلك تعود الأمة طبيعياً لتتجسد من جديد بمقاييسها، لتعود أمة إقدام وعزة، وكرامة، تقتعد ذرى المجد كخير أمة أخرجت للناس، فلا بد من سقي الأمة أحكام الإسلام من خلال زرع مقاييس الإسلام على سبيل المثال: عندما نقول تحرم مداهنة الحكام وزبانيتهم، فلا بد أن يكون ذلك باعتبار مقياس الإسلام الذي يظل ثابتاً في كل زمان ومكان ألا وهو الحلال والحرام، ومن خلال مقياس الإسلام في التمايز بين الحق والباطل الذي يناقض وينقض مقياس الرأسمالية في التقريب بين الحق والباطل، واتخاذ حالة الوسط بينهما، إذاً لا بد من هدم مقياس وبناء آخر حتى تتم العملية الصهرية على عين بصيرة، وفق ما يوجبه الإسلام. فالهدم أولاً والبناء ثانياً، فيظهر الحكم ظهوراً طبيعياً، وهذا يندرج على كل حالة من حالات الصراع الفكري، ما ينتج الخير العميم بفضل رب العالمين . ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [يوسف 108].

سعيد الأسعد – فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *