العدد 244 -

العدد 244- السنة الواحدة والعشرون، جمادى الاولى 1428هـ، حزيران 2007م

الخلافة المرتقبة والتحديات (11)

الخلافة المرتقبة والتحديات (11)

التطبيق الانقلابي للإسلام، ومحاربة الواقع الفاسد القديم

 

أما النقطة قبل الأخيرة والأخيرة في مسألة التحديّات الداخلية فهي التطبيق الانقلابي للإسلام، ومحاربة الواقع الفاسد القديم.

أما النقطة الأولى، فنتناولها من عدة زوايا منها:

1- التهيئة النفسيّة والعقليّة لأبناء الأمة داخل الدولة.

2- الأدوات والوسائل لهذا التطبيق.

3- الصورة العمليّة لعمليّة التطبيق الانقلابي للإسلام.

وقبل البداية في هذا الموضوع لا بدّ أن نذكُر معنى التطبيق الانقلابي وحكم الشرع في التطبيق الانقلابي .

ولبيان معنى التطبيق الانقلابي للإسلام لابد من الرجوع لسيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) عند وصوله إلى المدينة المنورة.

 فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد طبّق ما نزل من أحكام شرعيّة عملية في المدينة المنورة دون تأخير، وكان عليه الصلاة والسلام يطبق أيّ حكمٍ ينـزل، تماماً كما نزل دون أيّ تأخير.

وهناك البعض من المفكّرين -ممن يتقوّلون بمسألة التدرج في تطبيق الأحكام داخل بلاد المسلمين- يستدّل بالآيات التي ذكرت الخمر -في كتاب الله- على مسألة التدرّج في تطبيق الأحكام الشرعيّة في بلاد المسلمين، وذلك مثل قوله تعالى: ( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [النحل 67]، وقوله: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) [النساء 43]، والحقيقة أن هذا ليس تدرّجاً في تحريم الخمر؛ لأن الآيتين، الأولى والثانية، ليس فيهما أي تحريمٍ للخمر، وإنما تتحدّثان عن أمرٍ معين، وهو اتخاذ الناس من الأعناب سكَراً ورزقاً حسناً، وعن عدم جواز شرب الخمر في أوقات الصلاة، قال الشوكاني في تفسيره (فتح القدير): «أخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منّا، وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأتُ (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون). فأنزل الله: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) [النساء 43].

وأخرج أحمد، والحاكم وصححه، عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: «( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) [البقرة 219]، قلت اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنـزلت الآية التي في النساء: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى )، فدُعي عمر وقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنـزلت الآية التي في المائدة ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ @ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) [المائدة 90-91]، فدُعيَ عمر فقرئت عليه، فلما بلغ ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) قال عمر: انتهينا، انتهينا!

 فلم يكن حكم الخمر من حيث الحرمة قد نزل بعد في سورة النحل، ولا في سورة النساء، فآية سورة النحل تتحدث عن منافع تحصل من الثمرات، أما آية سورة النساء، فإنها تتحدث عن حكم آخر -كما ذكرنا سالفاً- وهو عدم جواز قرب الصلاة في حال السكر، وكذلك ليس فيها تحريم للخمر، وإنما تتحدث عن عدم جواز الصلاة في أثناء السكر، فالتحريم منحصرٌ في وقت أداء الصلاة فقط، وقد كان شرب الخمر غير منهي عنه بصورة مطلقة قبل نزول آية المائدة، روى ابن كثير في تفسيره قال: «روى حماد بن ثابت عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر، فإذا منادٍ ينادي قال: اخرج فانظر، فإذا منادٍ ينادي ألا إن الخمر قد حرّمت، فجَرَتْ في سِكَك المدينة،(أي أُهرقت) قال: فقال لي أبو طلحة اخرج فأهرقها فهرقها فقال،أو قال بعضهم: قُتل فلان وفلان وهي في بطونهم قال: فأنزل الله ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَءَامَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [المائدة 93] أخرجه مسلم في صحيحة برواية مقاربة.

 أما الآية التي ذكرت بالفعل حرمة الخمر وكان ذلك مرةً واحدةً دون تدرّج فهي قوله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [المائدة 90]. وعندما سمع صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك حملوا الجرار وفيها الخمر المُعتّق وألقوا بها في شوارع المدينة حتى سالت كما يسيل الماء في يوم مطير.

ولا أدري لماذا يتقوّل البعض بهذه المسألة (التدرج)؟! فهل كانت نفسيّات الصحابة التي واجهت الموت في مكة بإيمانٍ راسخ، أو نفسيّات الأنصار التي بايعت على قتال الأحمر والأسود من الناس، هل كانت نفسيّات هؤلاء بحاجةٍ إلى تدرّجٍ في حكمٍ شرعيٍّ ينـزل من السماء؟! إنهم كانوا طائعين لله ولرسوله حتى ولو على أنفسهم وأموالهم وأهليهم، ولم يتوانَوا لحظةً واحدةً عن تطبيق حكمٍ شرعيٍّ واحدٍ على الإطلاق!!

فالرسول عليه الصلاة والسلام هو أوّل من طبق الإسلام تطبيقاً انقلابياً من أول يوم وطأت فيه أقدامه المدينة المنورة؛ فوقّع وثيقة المؤاخاة، وأقام المعاهدات، وبعث الرسل إلى الملوك، وطبّق الأحكام التي نزلت في مكة من قبل، والأحكام التي كانت تتنـزل تِباعاً، ولم يؤخّر عليه الصلاة والسلام حكماً شرعياً واحداً كان قد نزل، ولم يتدرّج في أي حكم!

ولكن نظراً لبعد الشقّة بين المسلمين وبين الإسلام العمليّ في الدولة الجديدة فإنه لابد من حملةٍ موازيةٍ لهذا التطبيق، حتى يلقى نجاحاً وقبولاً من قبل نفسيّات عوامّ الناس وخاصّتهم، ولا أقصد بالحملة الموازية هنا التدرّج إطلاقاً؛ لأن التدّرج في مسألة الحكم حرام شرعاً، ولا يجوز أصلاً تأخير الحكم بما أنزل الله في ظلّ التمكين -ولا حتى في غيابه- لحظة واحدة.

وهذه الحملة الموازية تتمثّل في ثلاثة أمور كما ذكرت.

الأمر الأول: الأدوات والوسائل.  فلابد من اتّخاذ كافّة الأدوات الممكنة من تلفزيون وإذاعة، ومنابر، ومدارس، وجامعات، وحملاتٍ إعلامية على كافة المستويات لتفهيم الناس ضرورة وواجب تطبيق الأحكام الشرعية، وحرمة تأخير ذلك. ويُتخذ لهذه الغاية أقدر الناس على البيان وأفهمهم لسيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأصل أن تستمر هذه الحملة حتى يتم الاطمئنان إلى أن الناس قد ألِفُوا هذا الأمر، ورضيت به نفوسهم، وأصبح مطلبهم عند الصغير والكبير.

الأمر الثاني: التهيئة النفسية والعقلية لهذا الأمر: وهذه التهيئة تتّصل بموضوع التعبئة النفسيّة والفكريّة التي ذكرناها في الحلقات السابقة، ويركز في هذا الموضوع أول ما يركز على مرضاة الله وجزائه الأخروي، وغضبه ومقته لأحكام الكفر ولمن يطبّقها في حياته، ثم يُبيّنُ للناس مدى العدل والاستقامة والطمأنينة التي حصلت في المجتمع بتطبيق أحكام الإسلام!!

ويذكّرُ الناس في أثناء هذه الحملة بسيرة صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكيف أنهم رضوا بالقليل في بداية الأمر كمقدمةٍ للكثير في الدنيا والآخرة، وكيف منَّ الله عليهم بهذا الدين وبتطبيقه تطبيقاً كاملاً، بفتح الدنيا بأسرها حتى إنهم لبسوا أساور كسرى!!

أما الأمر الثالث: وهو الصورة العملية لعملية التطبيق، فهذا الأمر يحتاج إلى اعدادات معيّنةٍ من أجل كلّ مسألة. ويقترن بموضوع تغيير الواقع الفاسد الذي سنتحدث عنه لاحقاً، ولكن في البداية يجب أن يُعلنَ بشكل عمليّ وعلنيّ لا يقبل التأجيل أن أحكام الإسلام هي السائدة في الدولة، وأنّ أيّ تأخّرٍ في تطبيق أيّ شأنٍ إنما يرجع لأمورٍ خارجةٍ عن القدرة الماديّة، وسوف تُطّبقُ في أسرع وقت.

إن الناحية العملية قد تأخذ وقتاً في بعض الأمور وخاصّة الاقتصادية منها والتعليميّة، لكن ذلك لا يعني إبقاء الواقع المحرّم السابق إطلاقاً، وإنما يجب إلغاؤه مع إبقاء ما لا يخرج عن الأمور الشرعيّة، ولا يجوز إبقاء أيّ أمرٍ محرّمٍ، مثل البنوك أو البرامج التعليمية المتصلة بالاستعمار،  فهذه توقف من أول يوم.

إن موضوع الإعدادات العملية في عملية التطبيق يجب أن يراعى فيها ما يلي:

أولاً: إنهاء أيّ أمرٍ يتعلق بمحرّم كالبنوك الربويّة وغيرها، وإبقاء الصورة الخدماتيّة (أيّ التي تسيّر مصالح الناس المرتبطة سابقاً بهذه المؤسسات الماليّة وغيرها من عقودٍ وأمانات، أو معاملات تجارية، أو غير ذلك من شؤون الناس) في هذه المؤسسات حتى يتمّ إلغاؤها نهائياً واستبدالها.

ثانياً: الشركات الخاصّة التي كانت قائمةً على الأموال العامة من حيث الاستخراج والرعاية تبقى في عملها وذلك لحاجة الناس الماسّة لذلك، ولكن الأموال توزع بالطريقة الصحيحة، حتى يتم إلغاء هذه الشركات واستبدالها بجهاز خدماتي تقوم عليه الدولة. أما الشركات التي تقوم في نظامها على أساسٍ رأسماليٍّ أو ربويّ فإنه يغير برنامجها وطريقة تشكيلها مع بقاء عملها؛ وذلك لحاجة الأمة الماسّة لها في الظرف الحالي.

ثالثاً: عملية التعليم والمناهج يبقى منها ما  ينبثق من أحكام الإسلام مؤقتاً حتى يتم كذلك استبدالها بثوب جديد، أما في الأمور المدنية والعلمية فيُبقى منها ما لا يخالف عقيدة الإسلام وأحكامه، وأما غير ذلك من مخالفات، سواء أكانت في الأمور الثقافية أم المدنية، فإنها تزال نهائياً.

رابعاً: ما يتعلق بالنواحي الأمنية وأجهزة حفظ النظام تبقى كما هي مؤقتاً باستثناء من يرتبط بالنظام السابق بالعمالة والتبعية، أي من يشكل خطراً على الدولة أو الرعايا؛ وذلك لئلاّ يحدث انقلابٌ أمنيٌّ في المناطق.  وهكذا سائر الأمور والتي سنتحدث عنها في موضوع تغيير الواقع الفاسد القديم. ولا أرى ضرورةً لفرض منع التجوّل وتعطيل مصالح الدولة ومصالح الناس، فليس هناك ضرورة لذلك ما دام الناس قد أكرمهم الله بهذا الأمر -وهم أهل له- وقد تعبّأت نفوسهم وعقولهم بحبّ الإسلام، إنما يعمل أهل الرأي والحكم في الدولة ضمن الامكانات الموجودة بحيث لا يخالفون أمراً شرعياً ولا يطبّقون حكماً محرماً.

ثم إن الحزب قادرٌ على أمر التطبيق الانقلابيّ بالحكمة؛ لأنه قد تهيأ مسبقاً لهذا الأمر، فهو -الحزب- عنده دستورٌ، وهذا فضل كبير من الله تعالى، وعنده شبابٌ قياديّون يتقنون فنّ قيادة وسياسة الناس، ولن يكون الأمر، بإذنه تعالى، صعباً، وخاصة أن الأمة ستلتفُّ حوله وستقدم المهج والأموال وكل الطاقات في سبيل ذلك!!

بقيت النقطة الأخيرة في هذا البحث وهي محاربة الواقع الفاسد القديم وتغييره، وهذه النقطة يتفرع عنها أمور، ولكن قبل الحديث عن الفرعيّات نقول: إن الدولة في بداية قيامها ونشوئها إنّما تحمل عبئاً ثقيلاً من الواقع الفاسد القديم الذي أفسده من قبلها، ولكن هذا الواقع سرعان ما يتغيّر بإذنه تعالى، والسبب هو النفسيات العالية عند المسلمين، وقوّة الحزب ورجاله في الإدارة والحكم. فإذا اجتمع هذان الأمران فإنهم سيكونون مثل صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة عندما قلبوها رأساً على عقب وغيّروا كل معالمها الحضارية!!

إن موضوع الصعاب الداخلية تبقى هيّنة لينةً بإذنه تعالى، وهي أخف وأهون بكثير من الصعاب والتحدّيات الخارجية؛ لأن الصعاب الداخلية تتعلق بمؤمنين عندهم استعدادٌ للتضحية والفداء والبذل وتقبل أي أمر جديد يتّصل بهذا الدين، أما الصعوبات الخارجية فهي مرتبطة بالكفر والاستعمار الذي لا يفتأُ يحارب الله ورسوله وأمة الإسلام ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ) [النساء 89].

ولكن الله تعالى لن يمكّن لهؤلاء الكفار على أمة الإسلام ودولة الإسلام بإذنه تعالى: ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [التوبة 32].

وسوف نأخذ بعض النماذج من الواقع الفاسد، وهي ليست كل الأمور في الدولة:

l أولاً: التعليم والمناهج: كما نعلم فإن المناهج التعليمية هي مناهج مسمومة في ثقافتها؛ لأنها من مخلّفات عملاء الاستعمار ومن ربائبهم وزبانيتهم الذين درسوا في جامعاتهم، وتربّوْا على ثقافتهم النتنة. وهذه المناهج تحتاج إلى عملية تطهيريّة تشمل الناحية الثقافية؛ وتشمل كذلك الناحية العلميّة المدنية؛ لأن الناحية العلميّة الموضوعة في بلاد المسلمين الهدف منها إبقاء الأمة متخلفةً عن ركب الرقيّ الصناعي والتكنولوجي مئات السنين للوراء.

فيجب أن يُبدأ أولاً بالمناهج المتعلقة بالثقافة، فيُزال منها أيّ أمر محرّم في أوّل خطوة وقبل كل شيء، ثم تتخذ الدولة طواقم لإنجاز مناهج ثقافيةٍ جديدةٍ تتعلق بعقيدة الأمة وأحكام دينها، وتاريخها الإسلاميّ الوضّاء، وتكون هذه المناهج قادرةً على رفع مستوى الأمة الثقافي كخير أمة أرادها الله بقوله: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [آل عمران 110].

وأيُّ كتابٍ أو ورقةٍ تنجزها هذه اللّجان توضع رأساً موضع التدريس، ولا ننتظر حتى يكتمل الكتابُ أو المنهاج بأكمله، وإنما ندرّس ما تمّ إنجازه فوراً ودون تأخير.

والحقيقة أن الحزب قد وضع برنامجاً للعمليّة التعليمية، وهو بمثابة النور الذي يضيء لهذه اللجان طريقة العمل وأسسه، ولا يبقى إلا عمليّة تنظيم ووضع المواد العلمية بما يتناسب مع كل مرحلةٍ من المراحل بطريقة راقيةٍ تفي بالغرض المطلوب.

وأما الكتب العلمية المتعلقة بالنواحي المدنية، فإننا نُدرّس منها ما لا ينافي العقيدة والأحكام الشرعيّة، ثم نقوم بعملية استبدالها شيئاً فشيئاً لتفي بالمطلوب، وهو رفع مستوى الأمة المدني (الصناعي والزراعي والطب والهندسة…) لتصبح مقاربةً للدول الأخرى، وإن أمكن أن تتفوق عليها.

فبنفس الطريقة تتخذ الدولة الطواقم العلمية لهذه العملية، وما يتم إنجازه ولو ورقة واحدة يتمّ وضعه موضع التدريس فوراً لئلاّ نؤخّر العملية التغييريّة للواقع الفاسد.

ويراعى في أثناء تغيير الأمر الثاني، وهو: (تغيير البرامج التعليمية): تغيير الأشخاص الذين لا يؤمن جانبهم، وخاصةً ممن تعلقت قلوبهم بالنظام السابق، أو ممن قاموا على وضع هذه البرامج؛ لأن هؤلاء لا يؤمن جانبهم إطلاقاً.

الأمر الثالث: إعداد ما يلزم مادياً من أجل هذه العملية، وهذا يصرف عليه من أموال المسلمين العامة، ومن أموال الزكاة؛ لأنه متعلق بأمور العلم والتعليم، ولا تبخل الدولة في هذا الأمر لأنه لا يقلّ أهميةً عن الإعداد العسكري.

l ثانياً: الإعلام، بما فيه القائمون على هذا الإعلام.

ولا نقصد بالإعلام هنا أدواته المادية العملية، فهذه تُسخّر في منفعة الأمة بدل مضرّتها كما كانت من قبل، ولكن نقصد بالإعلام السياسة الإعلامية، والرجال القائمين على هذه السياسة.

فلا يخفى أن السياسة الإعلامية كانت سياسة انهزامية تربّي الناس على الذلّ وعلى التبعيّة الاستعمارية، وعلى عبادة الرغيف بدل ربّ الرغيف، وعلى تقديس النظام الرأسمالي، وعلى التملّق للشخصيات، وعلى كبت الأفواه والتخويف والترهيب من هالة المسؤولين، وكانت أيضاً تحارب الله ورسوله والمؤمنين المخلصين من حملة الدعوة والعاملين لها فيما يُسمّى بسياسة محاربة الإرهاب الأميركية، وتُشوِّه أحكام الإسلام في نظر المسلمين بدل إبرازها في أجمل حلّةٍ لها!! فتعمل الدولة على وضع طواقم إعلامية تضع برامج وفق السياسة الإعلامية لدولة الخلافة وهي تشمل:

– ترسيخ عقيدة وأحكام الإسلام في عقول وقلوب الرعية، مع بيان الأفكار الفاسدة ووجه الفساد فيها.

– تقوية الرابطة بين الراعي والرعية من حيث الطاعة والانقياد والمحبة والإخلاص.

– بثّ ما يقوي الرابطة الإسلامية بين كافة الأعراق الإسلامية في ربوع الدولة، وما يقوي جسم الدولة ويرفع مستواها في كافة الأمور والمجالات.

– بيان ونشر ما  تصدره الدولة من تعليمات في كافة المجالات سواء ما كان منها على الصعيد الرسمي أم الأمور العامة.

– إظهار صورة الدولة الإسلامية في خارج الدولة في أقوى وأحسن صورة ليكون ذلك من أساليب عرض الإسلام.

– إظهار قوة الدولة لدى أعدائها.

ومن هذه السياسة كذلك عرض الفكر الإسلامي للشعوب الأخرى بأفضل وأيسر الطرق وأسهلها، وذلك بكافة اللغات المتداولة حسب الممكن.

وهذه الطواقم تقوم على المراقبة والتوجيه وإعداد البرامج الموجّهة من قيادة الدولة مباشرة؛ لأن أمر الإعلام ليس كبرامج التعليم من حيث سرعة الانتقال وحجم الانتقال بين الناس. فالإعلام يحمل سياسة الدولة مباشرة للناس وبأسرع طريقة، وبواسطته يُلقي رئيس الدولة (الخليفة) بياناته وخطاباته وتوجيهاته للأمة.

أما البرامج القديمة والأشخاص فيبقى منهم ما يتّفق مع سياسة الإعلام، ولا يشكل خطورة على الدولة مثل المهندسين وطواقم الإعداد الإذاعي من ناحيةٍ تقنية.

وموضوع الإعلام يحتاج إلى إعداد وسائل علمية، وطاقات بشريّة، وهذا قد يحتاج إلى أعمالٍ معينةٍ مثل الاتصال بالخبراء لإعداد الوسائل والبرامج، ويحتاج كذلك إلى إحضار بعض الأدوات والأجهزة من الخارج، إما عن طريق التهريب وإما عن طريق الحدود إن لم يفرض الحصار على الدولة، ويحتاج كذلك إلى عملية إخفاء لهذه الوسائل ووضعها في مكان مأمون في بداية الأمر؛ لأنها عرضة للتخريب والضرب من قبل أعداء الأمة.

أما إعداد الطاقات البشرية فهذا سهلٌ ميسور ممن سبق وعملوا في هذا المجال بشيء من التوجيه، أو حتى بالإعداد الجديد.

[يتبع]

أبو المعتصم – بيت المقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *