العدد 244 -

العدد 244- السنة الواحدة والعشرون، جمادى الاولى 1428هـ، حزيران 2007م

المسلمون في الغرب ومعركة القيم

المسلمون في الغرب ومعركة القيم

 

بات التهديد المفترض الذي يمثله الإسلام على الحضارة الغربية هو محور الحديث في العالم، لا سيما عقب أحداث 11 سبتمبر/  أيلول وما تلاها من حروب “وقائية” في الشرق، وتطويق أمني للمسلمين في الغرب على اعتبار أنهم طابور خامس ينتظر الفرصة لكي يحقق أجندة خاصة وخفية. في حين بدأت الأوساط السياسية والفكرية والإعلامية الغربية مهاجمة الإسلام بشكل منهجي، مبررةً ذلك بمحاربة التشدد الإسلامي تارةً، وبحجة إيجاد مناخات للحوار للمواءمة بين المسلمين والمجتمعات التي يعيشون فيها تارةً أخرى. وترتكز الحملة الفكرية والدعائية التي يسوقها الغرب إلى معطيات تبدو وجيهةً للوهلة الأولى، وبالتالي فلا مبرر للاستياء منها، حيث إن حرية الفكر والتعبير مقدسة لديهم، ولا يمكن تأميمها بحجة مراعاة شؤون أقلية مسلمة لها ثقافة خاصة!

بهذا الصدد فإن الحملة الغربية تستنكر مواقف المسلمين، معترضةً على حساسيتهم تجاه دينهم وقيمهم، حيث إنها تتعارض مع ثقافة المجتمعات الغربية، تلك التي تتنشق الحرية وتعتبرها أهم منجزاتها. كما يفترض الغربيون أنه طالما أن دين المسلمين عزيز عليهم إلى هذا الحد، فلماذا لا يهاجر هؤلاء إلى السعودية وإيران حيث تسود أحكام الشريعة بدلاً من المطالبة بإقامتها في الغرب، والتنطع بالتمسك بأحكام الدين فيه، وهو الذي قامت حضارته أصلاً على عقيدة فصل الدين عن الحياة؟! ومن ناحية أخرى لماذا يصر المسلمون على دفع الغربيين على التخلي عن قيمهم التي يؤمنون بها، أي عن الحريات ومقتضياتها، فيما لا يقبل المسلمون بأن يتخلوا عن أي شيء من دينهم. أوليس في ذلك دليل على تناقض مواقف المسلمين وشاهدٌ على تخلفهم؟!

كنت أتمنى أن يجري الرد على الحجج السابقة الذكر بشكل عملي، بمعنى مغادرة المسلمين إلى الديار التي يعتبر الإسلام فيها هو نظام الحياة والمجتمع والدولة، إلا أن ذلك غير مأمول حالياً بالنسبة لجموع المهاجرين من المسلمين في الغرب، ويرجع ذلك إلى غياب تلك الدار التي تقيم الإسلام على ذلك النحو، إضافةً لانعدام عوامل الأمن والاستقرار في بلدان المسلمين، تلك التي تمثل البقعة الأسخن والأشد اضطراباً في العالم حالياً، الأمر الذي يلجئنا لمناقشة المزاعم السالفة الذكر، حيث إنها أبرز الحجج المثارة ضد المسلمين في الغرب.

في الواقع، إن إقامة بعض المسلمين في الغرب، هو رديف إقامة كثير من غير المسلمين ي دار الإسلام سابقاً، عندما كان أولئك يلوذون بدار الإسلام طلباً للأمان وهرباً من القهر والظلم؛ وبالتالي فإن لجوء الإنسان إلى غير موطنه يأتي نتيجة ظروف موضوعية تدفع أصحابها للتخلي عن الوضع الأصلي. وفي حالتنا، فإن احتلال بلاد المسلمين والأوضاع الاقتصادية المزرية فيها، إضافة إلى الظلم المتفشي فيها، وانعدام أي أمل بالنسبة لعامة الناس في الحياة الكريمة، أدى كل ذلك إلى هجرة الملايين من بلدانهم، كان حصيلتها قدوم بعض منهم إلى الغرب، الذي كان هو نفسه سبباً في إحداث كثير من مشاكلهم. ولا يقال هنا لماذا لا يلجأ هؤلاء إلى بلدان إسلامية بدلاً من الدول الغربية، لأن الجواب عليه هو أن ذلك حاصل فعلاً، وما نسبة من وصل الغرب من المسلمين سوى فئة صغيرة نسبياً من مجموع ما هو مشتت من هذه الشعوب في العالم الإسلامي نفسه.

أما لماذا لا يغادر المسلمون ديار الغرب إلى السعودية وإيران طالما لا يطيقون السياسات والقيم الغربية ويؤثرون بدلاً عنها تطبيق الشريعة الإسلامية؟ إن تسويق هذه الدعوى على هذا النحو يفترض بأن السعودية وإيران مشرعة أبوابها لاستقبال المسلمين، وأنها تقيم الإسلام في المجتمع والدولة، مع أن هذين الادعاءين مجرد زعمين باطلين. فإيران دولة قومية تسعى لتحقيق مصالح النظام السياسي فيها، وليست بدولة للإسلام والمسلمين بحسب المفهوم الشرعي، وذلك واضح في دستورها وفي ممارساتها. وأما السعودية فهي دولة تنظر إلى شبه جزيرة العرب على أنها ملك شخصي لآل سعود، وتقتصر علاقتها بالإسلام على قدر ما يمكن أن يخدمها في توطيد حكم العائلة المالكة، كما أن أجندة نظامها السياسي تنسجم تماماً مع الأجندة الغربية. ومما لا يخفى على أحد، أن النظام السعودي حليف رئيس بكل معنى الكلمة للأنظمة الغربية كذلك. وفي الواقع فإن بقية بلاد المسلمين تسير على نفس المنوال، حيث تعتبر الأنظمة الحاكمة فيها إقامة الإسلام كشريعة ونظام حياة تهديداً مباشراً لها، ما يبطل الحجة المطروحة على المسلمين في الغرب بهذا المضمار من أساسها.

أما كيف يتقبل المسلمون العيش في مجتمعات علمانية ديمقراطية وهم لا يؤمنون بها ولا بالقيم المنبقة عنها؟ فإن الجواب على هذا: إن المسلمين في الغرب يكفيهم أن يكفل لهم القانون القائم حقهم في تطبيق أحكام دينهم في شؤونهم الخاصة، وعدم إكراههم على التخلي عن أحكام الإسلام في حياتهم، وهو ما تزعم النظم الغربية ضمانه، حيث يُفترض كفالة احترام حقوق الأفراد ولا سيما العقائدية والشخصية، وبالتالي فإنه لا يتعارض عيش المسلم في ديار الغرب مع قيمه طالما أنه قادر على إقامة ما هو مسؤول عنه في حياته، بخاصة عندما يفتقد البديل الذي يجسد نمط الحياة الذي ينشده في مكان آخر. ولو افترضنا أن عيش الإنسان في مجتمع ما، يعني التسليم بقيم المجتمع السائدة واعتناق مبادئه وعقائده بالضرورة، لما سكن اليهود والنصارى في بلاد المسلمين قروناً طويلة ولا يزالون، ولما تمكن أهل دين من العيش في مجتمع آخر طالما يطبق قيماً ونظماً مخالفة لوجهة نظرهم في الحياة. بل إن هذا الاعتراض من قبل الغربيين هو انقلاب على قيمهم التي يؤمنون بها، حيث إنهم يدعون أن مبدأهم في الحياة يكفل العيش الكريم بحقوق غير منقوصة لمن يخالفهم في المعتقد والرأي والدين!

وأما استياء المسلمين وغضبهم من الممارسات الغربية بحقهم، فإنه يأتي نتيجةً لإحساس المسلمين بشراسة الحملة التي تشن ضدهم، والتي تتسم بالعنف والغطرسة والاحتقار لهم ولمعتقداتهم من قبل النظم الغربية. كما أن أكثر ما يقال في الأوساط السياسية والفكرية الغربية بصدد المسلمين ودينهم إنما هو عبارة عن إملاءات وشتائم وتهم شائنة لا علاقة لها بالنقاش أو الجدل الفكري المزعوم لا من قريب ولا من بعيد، ابتداءً من المواقف السياسية المعلنة، مروراً بالرسومات المشينة، وانتهاءً بتصريحات بابا روما. وأن يغضب المرء بانتهاك مقدساته أمر لا غضاضة فيه البتة، ويحصل ذلك عند المسلم وغيره على السواء. ولا يُعترض على هذا بالقول إن الأوروبيين لا يأبهون بمهاجمة النصرانية مثلاً، ذلك أنهم لم تعد عقيدة مقدسة لديهم منذ أمد بعيد، بينما لو هاجم أحد فكرة حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل لحوقلت أعين القوم واستجمرت من الغضب، ولاعتبروا ذلك عيباً ونقصاً وهجوماً سخيفاً على قيمهم وطريقة عيشهم.

وأما مطالبة المسلمين بتطبيق الشريعة في المجتمعات الغربية، فإنه ليس مطروحاً على الأجندة السياسية بين المسلمين، لا كجاليات ولا كمنظمات ولا حتى كأفراد، ذلك أنه أمر غير مأمول التحقيق. ومع هذا فما هي المشكلة مثلاً من ناحية نظرية، بالمطالبة بإحلال مبدأ جديد في أوروبا بدلاً مما هو قائم طالما أن افتراض تحقيق ذلك هو بالطرق السلمية وباتباع الجدل الفكري الذي يُطالبُ المسلمون بتعاطيه؟

إن الواقع يشي بأن الغرب الرأسمالي قد خسر معركته الثقافية مع الشرق الإسلامي، وقد شاهت وجوه أنظمته واسودت أيديهم بعد أن تلطخت بدماء مئات الألوف من الأبرياء، وباتت نظم الغرب ولا سيما الدول الكبرى منها مرادفة للشر والجشع والقسوة والوحشية، كما باتت تلك الدول في ذات الوقت يائسةً من دمج المسلمين في مجتمعاتها، ما يعني أن إثارة النظام السياسي الغربي لمواضيع مختلفة خاصةً بالمسلمين تحديداً لا علاقة لها بتحقيق المواءمة بين الإسلام والغرب، لا من قريب ولا من بعيد، وإنما يتقصد منها تحقيق أجندة معينة، وهي كسب الرأي العام في الغرب وتجنيده لصالح السياسات الباطلة والزعامات الفاسدة والجشعة، العازمة على استئناف مسيرتها الاستعمارية في العالم الإسلامي إلى نهاية المطاف. فتعبئة الرأي العام وتجييشه في الغرب ضد الإسلام على النحو الذي نرى هو جزء أساسي من اللعبة الديمقراطية لكسب أصوات الناخبين وحيازة ثقتهم، ما يكفل تمكين النخب السياسية في الغرب من متابعة سياساتهم الخرقاء. ومن هنا نلحظ أنه على الرغم من دوام تقهقر الحجج الغربية وإفلاسها بخصوص المواضيع المطروحة، فإنها تجدد نفسها بشكل أو بآخر لتدور دوماً على محور واحد، وهو لفت انتباه المواطن الغربي إلى أن أمنه واستقراره ورفاهيته تقف على كف عفريت، وأن محفاظته على مكتسباته رهنٌ بمكافحة الإسلام، وأن التضحية ببعض القيم في الغرب لصالح تأمين تلك المصالح أمر ينبغي تفهمه وتبريره والقبول به بل وتأييده. الأمر الذي ينذر بمستقبل قاتم يتهدد المسلمين في الغرب، والذي يجعل منهم كبش فداء لتحقيق أطماع النظم السياسية الغربية.

م. حسن الحسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *