العدد 246-247 -

العددان 246-247، السنة الواحدة والعشرون، رجب وشعبان 1428هـ، الموافق آب وأيلول 2007م

هل من سبيل لإحياء عقل الأمة؟

هل من سبيل لإحياء عقل الأمة؟

 

لا شك بأن ثمة ضريبة كبيرة دفعتها الأمة في القرن الأخير بدعوى التحرير والنهضة والاستقلال، إلا أن إخفاقها في تحقيق أي إنجاز ذي شأن في أي من تلك المجالات أحبطها وأفقدها ثقتها بإمكانية الخروج من الأزمات الخانقة التي تمر بها، فضلا عن شعور غالبيتها باستحالة إحداث تغيير نحو الأفضل في واقعها، وفقدانها الأمل بإمكانية تحقيق نهضة يعتد بها في المدى المنظور.

وتتعدد أسباب الإخفاق كما تتنوع، إلا أن خللا أساسيا ملموسا يسبق كافة ما يمكن حصره من أسباب يتمثل بغياب الطريقة السليمة في التفكير ، تلك العملية المجردة التي تحاكم الأشياء وتتعامل معها كما هي، لا كا تشتهيه النفس وترغب في تصويره فمثلا، وجدنا من ادعى تحرير  العراق من نظام بعثي مرتبط بالغرب حسب دعواه، وجدنا هؤلاء قد ألقوا بأنفسهم ردحا طويلا من الزمان في أحضان التوأم البعثي المضاد في سوريا، كما أنهم لجأوا إلى الغرب نفسه للخلاص من ذلك النظام، معللين التعامل مع الاحتلال الأجنبي بأنه مؤقت، وأن طرده سيكون أقل كلفة وعناء من اقتلاع الطغيان المحلي؛ ليتحولوا مع قدوم الاحتلال إلى مجرد بيادق رخيصة لديه، يحركهم بالإشارة عن بعد ، مصرين على بقاء الاحتلال كضرورة ملحة، فيما بدأ العراق يلفظ أنفاسه تحت مطرقة الاحتلال؛ وأخذ يتلاشى على عجل بين أيدي عصابات مأجورة وميليشيات مجرمة وساسة أوباش، فأي عقل ذاك الذي يستبدل قطا بضبع وطاغية بطغاة، ينتهكون الحرمات، ويستبيحون المحظورات، ويلحقون بالعراق وأهله الفواجع والخراب؟!

وفي فلسطين أكثر قضايا الأمة حساسية ولفتا للنظر ، وجدنا من يرفع راية تحريرها رابضا بين أيدي الأنظمة المتعفنة التي جرت الخيبات المتتابعة على فلسطين وأهلها، متنقلا بين عواصم لا تملك قرارها، مدمنا استجداء الغرب على الاعتراف به والتعاطي معه بايجابية وشفافية، مع أن الغرب أس بلاء فلسطين ولا هم له سوى مصلحته، معتبرا إسرائيل خطا أحمر لا يمكن المساومة على المساس بها فكيف باقتلاعها. رغم ذلك تتزاحم تلك المتناقضات وأشباهها في سياسات تلك الزعامات على نحو مضحك مبك في آن معا.

ومن أغلب ما عم وطم سيطرة تصورات غامضة على عقول الناس من مثل أن سوء الأوضاع وكثرة المصائب بشير فرج تلقائي، مع أن تفشي الوباء يسبب المرض العضال وبالتالي الموت والهلاك إن لم تتم الوقاية منه، والفقر يدفع الناس إلى الجريمة والرذيلة إن لم تتم العناية بأصحابه ورعايتهم، والظلم يزداد فحشا ووحشية وسطوة إن لم يجد من يزيله، وهكذا فإن سوء أوضاع الناس نذير شؤم لا بشير فرج إن لم يتخذ إزاءها أعمال جدية للحد من آثارها والخلاص منها.

هذا غيض قليل نطل من خلاله على تلك العقلية السائدة التي تعتمد الهشاشة في التفكير ، وتحاكم الأحداث بشكل سطحي، معتبرة السلوك المشين الذي تنتهجه مجرد مسايرة مؤقتة لواقع لا بد أن يتغير! جراء أزمات متراكمة ومصادفات متوقعة وآمال عريضة مكذوبة ، بدل بنائها أفعالها على أسس وقواعد سليمة في الفهم والتحليل لتحقيق أهدافها. وتعزز حالة التناقض والضبابية في التفكير خمول الناس وتقاعسهم إضافة إلى ترسيخ حالة من الشلل والعجز لديهم، فضلا عن تأصيل التفكير السطحي والنفعي الآني والانحطاط في سلوكهم بشكل تلقائي من جهة أخرى فإن هذا الواقع المقزز ، مع تعطل آلية سليمة في التفكير بالانعتاق منه، يستفز بدوره فئات أخرى للقيام بأعمال غير مبررة، ارتجالا وردة فعل وتمردا على واقع مفجع ثائرين عليه متوقعين أن أفعالهم تلك ستكون بمثابة صاعق متفجريؤدي إلى تغيرات في حركة التاريخ ، أو أنها ستتسبب بفتح أبواب السماء لتهبط المعجزات تباعا، معولين على أفهام مجملة متجاهلين قوانين الله في الطبيعة وكأنها بحكم الملغاة من حساباتهم.

وفي الحالتين السائدتين يغيب العقل وتتحول الحياة إلى مجرد أعمال عشوائية ومصادفات وابتذال في إسباغ المنطق المتهافت على الأفهام السقيمة والسياسات والتصرفات الشائنة والشاذة والمنحرفة. وفيما يعلل فريق من هذه الأمة تلونه بالواقع ليصبح جزءا من نسيجه الفاسد بحجة اعتماده منطقا واقعيا رغم أنه منطق سطحي وهش ومغلوط يغذي الفساد ولا يغيره ويتحول إلى عائق إضافي في عملية التغيير، فيما يركن هذا الفريق إلى الغرق في الواقع والذوبان فيه، نجد فريقا آخر يعتمد ردات الفعل والارتجال والاندفاع نحو المجهول من غير الأخذ بأسباب الحياة وقوانينها، ما يدفع الناس بالمحصلة إلى قبول الأمر الواقع والتسليم بعدم جدوى السعي لتغييره ، بل سيدفع الناس إلى التمسك بالواقع القائم بحجة الأمن والاستقرار وعدم جدوى مثل تلك الأعمال وبالتالي نفور الناس منها وإنكارها.

وخلاصة المقصود هنا يكمن في ضرورة ربط أسباب التغيير بمسبباته الحقيقية، وأن السعي للتحرير والنهضة والارتقاء يجب أن يأخذ مجراه وفق قوانين الطبيعة وسنن الحياة ، أي ضمن المقاييس المادية التي فرضها الخالق سبحانه على المادة لتفهم وتحلل ويبني عليها .وإن الإسلام جاء ليعزز التفكير الجاد الآخذ بأسباب الحياة محذرا من التعامي عنها وعن حقائقها. وهو ما أدى بالمسلمين الأوائل إلى اكتساح العالم ورسم سياساته ردحا طويلا من الزمان ، وهو ما لم يكن لتحقق بالدجل والترهات أو بالارتجال وردات الأفعال ، بل بالأخذ بأسباب الحياة وعقل الأشياء على النحو الذي خلقها الله عليه ، ليستحق هؤلاء نصر الله وتأييده بعد أن عضدت القوة المادية قوة روحية هائلة أنجزت تلك المهام العظام، حيث كانت مفاهيم العقيدة عامل قوة لا عامل ضعف، وعامل شحذ لهمم لا عاملا للتقاعس والخمول والركون إلى الواقع والغرق فيه.

حسن الحسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *