العدد 246-247 -

العددان 246-247، السنة الواحدة والعشرون، رجب وشعبان 1428هـ، الموافق آب وأيلول 2007م

رياض الجنة إن الله قد قبل الهدية

رياض الجنة

إن الله قد قبل الهدية

 

  • جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده، ما كلم جرح يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله. والذي نفس محمد بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ، ثم أغزو فأقتل”.

  • وروى الحاكم متصلا من حديث إسحق بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ” أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تأتي ندعو الله، فخلوا في ناحية، فدعا سعد قال: يا رب إذا لقينا القوم غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده ” غضبه ” ، فأقاتله فيك ويقاتلني ، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله. فقام ابن جحش ثم قال: اللهم ارزقني رجلا شديدا حرده شديدا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدا قلت : يا عبد الله ، فيم جدع أنفك وأذناك؟ فأقول : فيك وفي رسولك، فتقول : صدقت” . قال سعد : يا بني كانت دعوة عبدالله خيرا من دعوتي ، لقيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.

  • وروى أحمد بن الجوزي الدمشقي في كتابه المسمى ب ” سوق العروس وأنس النفوس” وكتابه : ” جوهرة الزمان في تذكرة السلطان” أن رجلا كان بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : أبو قدامة الشامي، وكان قد حبب الله إليه الجهاد في سبيل الله تعالى والغزو إلى بلاد الروم، فجلس يوما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث مع أصحابه فقالوا له: يا أبا قدامة ، حدثنا بأعجب ما رأيته في الجهاد، قال: نعم، إني دخلت في بعض السنين الرقة أطلب جملا أشتريه ليحمل سلاحي، فبينما أنا جالس، إذ دخلت علي امرأة فقالت يا أبا قدامة، سمعتك وأنت تحدث عن الجهاد وتحث عليه، وقد رزقت من الشعر ما لم يرزقه غيري من النساء، وقد قصصته وأصلحت منه شكالا للفرس، وعفرته بالتراب لئلا ينظر إليه أحد، وقد أحببت أن تأخذه معك إذا صرت في بلاد الكفار وجالت الأبطال ورميت النبال وجردت السيوف وشرعت الأسنة، فإن احجتجت إليه وإلا فادفعه إلى من يحتاج إليه ليحضر شعري ويصيبه الغبار في سسيل الله، فأنا امرأة أرملة كان لي زوج وعصبة كلهم قتلوا في سيبل الله، ولو كان علي جهاد لجاهدت قال وناولتني الشكال.

وقالت : اعلم يا أبا قدامة أن زوجي لما قتل خلف لي غلاما من أحسن الشباب، وقد تعلم القرآن والفروسية والرمي عن القوس، وهو قوام بالليل صوام بالنهار، وله من العمر خمس عشرة سنة، وهو غائب في ضيعة خلفها له أبوه، فلعله يقدم قبل مسيرك فأوجهه معك هدية إلى الله عز وجل، وأنا اسألك بحرمة الإسلام لا تحرمني ما طلبت من الثواب، قال : فأخذت الشكال منها فإذا هو مضفور من شعر رأسها، فقالت : ألقه في بعض رحلك وأنا أنظر إليه ليطمئن قلبي، قال : فطرحته في رحلي وخرجت من الرقة ومعي أصحابي، فلما صرنا عند حصن مسلمة بن عبد الملك، إذا بفارس يهتف من ورائي : يا أبا قدامة ن قف علي قليلا يرحمك الله، فوقفت وقلت لأصحابي : تقدموا أنتم حتى أنظر من هذا، وإذا بالفارس قد دنا مني وعانقني، وقال الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائبا، قلت حبيبي أسف لي عن وجهك، فإن كان يلزم مثلك غزو أمرتك بالمسير، وإن لم يلزمك رددتك ، فأسفر عن وجهه فإذا غلام كأنه القمر ليلة البدر، وعليه أثار النعمة، قلت حبيبي لك والد ؟ قال لا، بل أنا خارج معك أطلب ثأر والدي؛ لأنه استشهد ، فلعل الله أن يرزقني الشهادة كما رزق أبي، قلت حبيبي لك والدة ؟ قال : نعم، قلت أذهب اليها واستأذنها فإن أذنت وإلا فأقم عندها ، فإن طاعتك لها أفضل من الجهاد : لأن الجنة تحت ظلال السيوف ، وتحت أقدام الأمهات.

قال: يا أبا قدامة، أما تعرفني؟ قلت لا، قال: أنا ابن صاحبة الوديعة ، ما أسرع ما نسيت وصية أمي صاحبة الشكال، وأنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد، سألتك بالله لا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، فإني حافظ لكتاب الله، عارف بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارف بالفروسية والرمي، وما خلفت ورائي أفرس مني، فلا تحقرني لصغر سني ، وإن أمي قد أقسمت علي ألا أرجع، وقالت:

يا بني ، إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبرن وهب نفسك لله واطلب مجاورة الله ومجاورة أبيك مع أخوالك الصالحين في الجنة، فإذا رزقت الله الشهادة فاشفع في ، فإنه قد بلغني أن الشهيد يشفع في سبيعين من أهله، وسبعين من جيرانه، ثم ضمتني إلى صدرها، ورفعت رأسها إلى السماء، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي، هذا ولدي ، وريحانة قلبي، وثمرة فؤادي سلمته إليك فقربه من أبيه.

قال : فلما سمعت كلام الغلام، بكيت بكاء شديدا أسفا على حسنه، وجماله وشبابه، ورحمة لقلب والدته،وتعجبا من صبرها عنه، فقال : يا عم، مم بكاؤك؟ إن كنت تبكي لصغر سني، فإن الله يعذب من هو أصغر مني إذا عصاه، قلت : لم أبك لصغر سنك ، ولكن أبكي لقلب والدتك، كيف تكون بعدك، قال: فسرنا ونزلنا تلك الليلة، فلما كان الغداة رحلنا، والغلام لا يفتر من ذكرالله تعالى، فتأملته، فإذا هو أفرس منا إذا ركب، وخادمنا إذا نزلنا منزلا، وصار كلما سرنا يقوى عزمه، ويزداد نشاطه، ويصفو قلبه، وتظهر علامات الفرح عليه.

قال: فلم نزل سائرين حتى أشرفنا على ديار المشركين عند غروب الشمس، فنزلنا فجلس الغلام يطبخ لنا طعاما لإفطارنا، وكنا صياما فغلبه النعاس فنام نومة طويلة، فبينما هو نائم إذ تبسم في نومه، فقلت لأصحابي : ألا ترون إلى ضحك هذا الغالم في نومه؟ فلما استيقظ، قلت حبيبي، رأيتك الساعة تبتسم في منامك ضاحكا، قال : رأيت رؤيا فأعجبتني وأضحكتني؛ قلت ما هي؟ قال: رأيت كأني في روضة خضراء أنيقة ” عجيبة” ، فينما أنا أجول فيها، إذ رأيت قصرا من فضة شرفه من الدر والجوهر، وأبوابه من الذهب، وستوره مرخية، وإذا بجواري يرفعن الستور، وجوههن كالأقمار، فلما رأينني، قلن مرحبا بك، فأردت أن أمد يدي إلى إحداهن، فقالت لا تعجل ما آن لك، ثم سمعت بعضهن يقول لبعض: هذا زوج المرضية ، فقلن لي : تقدم يرحمك الله ، فتقدمت أمامي ، فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر ، عليها سرير من الزبرجد الأخضر، قوائمه من الفضة البيضاء، عليه جارية وجهها كأنه الشمس، لولا أن الله ثبت علي بصري لذهب عقلي من حسن الغرفة وبها الجارية، قال: فلما رأتني الجارية ،قالت مرحبا وأهلا وسهلا يا ولي الله وحبيبه، أنت لي وأنا لك ، فأردت أن أضمها إلى صدرين فقالت : مهلا لا تعجل، فإنك بعيد من الخنا، وإن الميعاد بيني وبينك غدا عند صلاة الظهر، فأبشر ، قال أبو قدامة : فقلت له حبيبي، رأيت خيرا وخيرا يكون.

ثم تبنا متعجبين من منام الغلام، فلما أصبحنا تبادرنا فركبنا خيولنا، فإذا المنادي ينادي : يا خيل الله أركبي، وبالجنة أبشري، ( انفروا خفافا وثقالا) ، فما كان إلا ساعة وإذا جيش الكفر خذله الله قد أقبل كالجراد المنتشر، فكان أول من حمل منا فيهم الغلام فبدد شملهم،وفرق جمعهم، وغاص في وسطهم، فقتل منهم رجالا وجندل أبطالا، فلما رأيته كذلك، لقته فأخذت بعنان فرسه، وقلت يا حبيبي، ارجع فأنت صبي، ولا تعرف خدع الحربن فقال يا عم ، ألم تسمع قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار) أتريد أن أدخل النار؟!

فبينما هو يكلمني إذ حمل علينا المشركون حملة رجل واحد، فحالوا بيني وبين الغلام ومنعوني منه، واشتغل كل واحد بنفسه، وقتل خلق كثير من المسلمين، فلما افترق الجمعان، إذا القتلى لا يحصون عددا، فجعلت أجول بفرسي بين القتلى ، ودماؤهم تسيل على الأرض، ووجوههم لا تعرف من كثرة الغبار والدماء.

فبينما أنا أجول بين القتلى، إذ أنا بالغلام بين سنابك الخيل؛ قد علاه التراب، وهو يتقلب في دمه ويقول يا معشر المسلمين : بالله ابعثوا لي عمي أبا قدامة، فأقبلت إليه عندما سمعت صياحه، فلم أعرف وجهه لكثرة الدماء والغبار ودوس الدواب، فقلت : ها أنا أبو قدامة ، قال يا عم ، صدقت الرؤيا ورب الكعبة، أنا ابن صاحبة الشكال ، فعندها رميت بنفسي عليه، فقبلت بين عينيه، ومسحت التراب والدم عن محاسنه، وقلت: يا حبيبي، لا تنس عنك أبا قدامة، اجعله في شفاعتك يوم القيامة، فقال مثلك لا ينسى، تمسح وجهي بثوبك ؟ ثوبي أحق به من ثوبك، دعه يا عم حتى ألقى الله تعالى به، يا عم هذه الحور التي وصفتها لك قائمة على رأسي ، تنتظر خروج روحي وتقول لي: عجل فأنا مشتاقة إليك.

بالله يا عم، إن ردك الله سالما، فتحمل ثيابي هذه المضمخة بالدم لوالدتي المسكينة الثكلى الحزينة، وتسلمها إليها، لتعلم أني لم أضيع وصيتها، ولم أجبن عند لقاء المشركين، واقرأ مني السلام عليها، وقل لها: إن الله قد قبل الهدية التي أهديتها، ولي يا عم أخت صغيرة، لها من العمر عشر سنين؛ كنت كلما دخلت استقبلتني تسلم علي، وإذا خرجت تكون آخر من يودعني، وإنها ودعتني عند مخرجي هذا، وقالت لي: بالله عليك يا أخي لا تبطيء عنا، فإذا لقيتها فاقرأ عليها مني السلام، وقل لها: يقول لك أخوك : الله خليفتي عليك إلى يوم القيامة، ثم تبسم، وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ثم خرجت روحه، فكفناه بثيابه، وواريناه، رضي الله عنه وعنا به.

قال أبو قدامة: فلما رجعنا من غزوتنا تلك ودخلنا الرقة، لم تكن لي همة إلا دار أم الغلام، فإذا جارية تشبه الغلام في حسنه وجماله، وهي قائمة بالباب، وكل من مر بها تقول: يا عم من أين جئت؟ فيقول: من الغزاة، فتقول: أما رجع معكم أخي؟ فيقولون: لا نعرفه، فلما سمعتها تقدمت إليها، فقالت لي : يا عم من أين جئت؟ قلت من الغزو، قالت : أما رجع معكم أخي، ثم بكت وقالت : ما بالي أرى الناس يرجعون، وأخي لم يرجع ، فغلبتني العبرة ” الدمعة” ، ثم تجلدت خشية على الجارية.

ثم قلت لها : يا جارية ، قولي لصاحبة المنزل : كلمي أبا قدامة، فإنه على الباب، فسمعت المرأة كلامي، فخرجت إلي وقد تغير لونها، فسلمت عليها، فردت السلام وقالت أمبشرا أنت يا أبا قدمة أم معزيا؟ قلت بيني لي البشارة من التعزية رحمك الله، قالت إن كان ولدي رجع سالما فأنت معز، وإن كان قتل في سبيل الله فأنت مبشر ، فقلت أبشري ، فقد قبل الله هديتك، فبكت وقالت : قبلها؟ قلت : نعم، فقالت الحمد لله الذي جعله ذخيرة إلى يوم القيامة.

قلت : فما فعلت الجارية أخيت الغلام؟ قالت : هي التي كانت تكلمك الساعة، فتقدمت إلي، فقلت لها : إن أخاك يسلم عليك ويقول لك : الله خليفتي عليك إلى يوم القيامة، فصرخت وخرت على وجهها مغشيا عليها، فحركتها بعد ساعة، فإذا هي ميتة، فتعجبت من ذلك ، ثم سلمت ثياب الغلام التي كانت معي لأمه، وودعتها، وانصرفت حزينا على الغلام والجارية، ومتعجبا من صبر أمهما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *