العدد 274 -

العدد 274 – السنة الرابعة والعشرون، ذو القعدة 1430هـ، الموافق تشرين الثاني 2009م

تبديد ضباب الأزمة المالية العالمية

تبديد ضباب الأزمة المالية العالمية

 

بقلم: حسن الحسن

اجتاحت الأزمة المالية العالم كإعصار “مفاجئ” أطاح بكثيرين من أرباب المال وأباطرة الاقتصاد ورجال الأعمال. كذلك انهارت شركات وبنوك ومدن اقتصادية بشكل تراجيدي كانهيار برجي التجارة العالمية في 9/11! وعلى نحو ما حصل آنذاك أصيب كثيرون الآن بالذهول والهلع، كما بدت الصورة غائمة في أذهان غالبية المتابعين والمتصدين لهذه القضية.

قلة نادرة حاولت تجميع أجزاء الصورة المبعثرة وربط الأحداث ببعضها بشكل متناسق انطلاقاً من واقع الأزمة وما تستند إليه من فكر وسياسات وما ارتبط بها قبلاً ولاحقاً. على رأس هؤلاء المفكر الإسلامي يوسف البعدراني، الذي قدم محاولة جادة وعميقة للفهم في بحث مطول حول الموضوع بعنوان “ضباب الأزمة المالية”. والذي يمكن تلخيص العناوين العريضة فيه على النحو الآتي:

  1. إنّ موضوع الأزمة الاقتصادية العالمية هو في حقيقته موضوع الرأسمالية بعينها، بمعنى أن الأزمة الحالية تشكلت جراء تطبيق الفكر الرأسمالي بحذافيره، ما يؤكد فساد هذا النظام وعقمه وفشله وعدم قدرته على معالجة الشؤون الاقتصادية للبشر، وهنا يمكن القول: إن تطبيق الرأسمالية يولد الأزمات طبيعياً فكان المبدأ الرأسمالي بحق هو مبدأ أزمات.

  2. إنّ التصدي للرأسمالية الديمقراطية يجب أن يستهدف الفكر الذي تستند إليه والذي أدى إلى إفقار العالم وتحويله إلى غابة ينجو فيها الأقوياء ويهلك فيها الضعفاء. فالمشكلة في هذا النظام أنه ينتج بطبيعته نمطاً متوحشاً من السياسات التي تنتهك كل القيم الإنسانية بذرائع متهافتة، من مثل أنّ فئة صغيرة تقبع في أقصى الأرض تشكل تهديداً استراتيجياً للغرب وحضارته، تلك الذريعة وأمثالها كأكذوبة نشر الديمقراطية جعلت أميركا تشن حروبها الشعواء في “حرب استباقية” دمرت العراق وأخرى انتقامية سحقت أفغانستان. والعجب أن يتفاخر قادة هذه الحروب ببدء نجاح الديمقراطية في شوارع كابول بدليل تجرؤ المرأة على الخروج سافرة من بيتها، وقرع أصوات المعازف على مسامع الملأ!

  3. إنّ أميركا -الدولة الرأسمالية الأقوى في العالم- قد عمدت إلى استغلال الأزمة المالية لإفقار العالَم بقصد تركيع دوله بعد أن أخفقت في تحقيق ذلك من خلال حملتها البشعة لسنوات فيما سمي “الحرب على الأرهاب”. وكما فرَضَت على دول العالَم التسليم “بحقها” باحتلال البلد الذي “تشك” في عدم ولائه لها أو “تعاونه” معها كما يجب، تفرض اليوم على دول العالَم أن يعلنوا تمسكهم بشروطها “الإصلاحية”، التي تريد أن تكبلهم من خلالها، وتجعل لها الهيمنة على مقدراتهم، بحجة معالجة تداعيات الأزمة القائمة.

  4. تصرّ أميركا على أن يتعهد العالَم بالتزام الرأسمالية الديمقراطية كمنهج عيش كي تزود من يطلب مساعدتها فيه للخروج من الأزمة القائمة، وهي إذ تفعل ذلك، تدرك تماماً بأن عالماً تحكمه الرأسمالية يكمن البقاء فيه والهيمنة عليه للأقوى، بينما يجبر الإنسان الضعيف على أن يتحول إلى مجرد عبد يكافح في الحياة مِن أجل الرغيف الذي يسيطر عليه الرأسمالي القوي.

  5. إنّ الأزمة الاقتصادية التي بدأ العالَم يمخر ضبابها أجبرَت عقول الساسة والمفكرين على بيان كثيرٍ مِنَ خَطَلِ الأفكار الرأسمالية. وأجبرتها أيضاً على تبرير استعارة معالَجاتٍ مِن اجترار العقل الرأسمالي ولو من خارج الفكر الرأسمالي، معتبرين ذلك براغماتية متجانسة مع طبيعة مبدئهم.

ويحدد البحث بأنَّ أس بلاء الفكر الرأسمالي كونه فكر مؤامرة على طبيعة الإنسان وعلى سبب وجوده وعلى حياته. ولتضليل الناس عن هذه الحقيقة، يسارع أرباب هذا الفكر إلى تبرير مصائب النظام الرأسمالي الديمقراطي بأنه مجرد سوء بالأداء وليس مشكلة بالفكر! وأنَّ معالَجَة الوضع (لدى هؤلاء) لا يكون ببحث الفكر وصحته من عدمها، بل باعتماد وسائل الخروج مِن تداعيات الأزمة إلى غيرها. وهو ما يصر عليه السياسيون والاقتصاديون الغربيون، محاولين دوماً طمأنة شعوبهم وأتباعهم “بأن الأسس الاقتصادية متينة جداً ولن تتأثر، وأنها مجرد أزمة سيعود بعدها الاقتصاد أقوى مما كان عليه”.

وعن البعد السياسي للأزمة المالية، فقد خططت الولايات المتحدة لإدارة الأزمة وتوجيهها بشكل يحقق لها هيمنة مالية واقتصادية على جميع الدول، بما فيها الدول الأوروبية -وهذه هي طبيعة الفكر الرأسمالي فإنه تنافسي لا يرحم حتى أهله- وهذا ما تداولته الأخبار عن عدم وجود خطة أوروبية – أميركية واحدة لمواجهة وتجاوز الأزمة المالية التي تعصف بالجميع على نفس المستوى، بل عن عدم وجود ثقة بينهم، وفي هذا المجال وضعت الولايات المتحدة خطة جبارة لاستحداث وضعٍ مالي يسهل فيه ضرب رؤوس أموال الدول الأخرى وخاصة الأوروبية منها، والسيطرة عليها بعد تحجيمها إلى الحدِّ الأدنى، وشلِّ طاقتها التوسعية في المستَقبَل، وبذلك تضرب طاقة النمو في دولها. وأيضاً لضرب اقتصادات العالَم التي تتنامى في آسيا ولشفط أموال الأثرياء والصناديق الاستثمارية الخليجية، وأموال احتياطات دول العالَم وإدخالها مضطَرَّةً في نفق الاستدانة لشلِّ حركتها المستَقبَلية. في هذا المجال يحدد البحث عدة أمور سارت فيها الولايات المتحدة لاستثمار هذه الأزمة على النحو الأمثل لصالحها كما يلي:

أ. لاحظت الحكومة الأميركية منذ أواخر 2006م وبداية 2007م ( قبل أيّ إشارة علنية حول هشاشة السوق النقدي وتدهوره) أنَّ الفارق بين سعر السِّلَع الحقيقي وسعرها في التداول أصبح يفوق قدرة الكتلة النقدية على استيعابه. وملاحظة هذا الشيء أمر سهل بسبب توفر الأنظمة المالية وأجهزة الرقابة النقدية وتعدد المجالس والأسواق المالية وسلطة الاحتياط الفدرالي ووزارة المالية وعشرات المجالس والإدارات الرديفة والمتخصِّصة في المجالين المالي والنقدي، ما يجعل السوق النقدي والمالي والاقتصادي برمته تحت المجهر دائماً.

ب. قامت الحكومة الأميركية بتنفيذ إجراءات تمكِّنها مِن مواجهة الأزمة المتوقعة/القادمة بترتيب أمور خزينتها من خلال زيادة الكتلة النقدية في صناديقها الفارغة. ولهذا ساهمت بشكل فعّال في رفع سعر النفط (رغم أنّ التوازن بين العرض والطلب كان قائماً) والغذاء بمضاعفة السعر مرتين وثلاثة في أجواء رفع سعر الأسهم الجنوني  في الأسواق بدون أي مبرر.

ج. قامت أميركا بتغشية العقول من خلال الأرباح العارمة التي طاشت بعقول أصحابها من أصحاب شركات ومؤسسات ودول، حتى لا يتسنى لها التفكير فيما تقوم به الولايات المتحدة، ما سمح للأخيرة أن تطبع كميات هائلة مِنَ الدولارات دون أن يفطن أحد للسبب الحقيقي وراء ذلك، مكتفين بالتصور أنها حاجة طبيعية لاحتياجات السوق جراء ارتفاع الأسعار.

د. عصفت الأزمة المالية بالأسواق العالمية فتضاءلت السيولة النقدية في الأسواق المالية بشكل ملحوظ، وتساقطت الأسعار (العقارات والنفط والأسهم والسندات الخ)، وباتت الأسواق بحاجة إلى كمية نقد لتغطية التعاملات المالية والسلع المتوفرة. وهنا جاءت أهمية التريليونات من الدولارات الأميركية التي تمت طباعتها في فترة ارتفاع أسعار النفط والغذاء.

هـ. إنّ الحكومة الأميركية كانت تعلَم أنَّ هذا الذي يحصل سيقع، وكانت تدرك أيضاً أنها لا تستطيع منعه أو التخفيف من شدَّته، وأنَّ أقصى ما تستطيع فعله هو التهيؤ لمعالَجَة آثاره، والاستفادة مِن وضعه، خاصة بعد أن تضخم سوق المشتقات المالية ليصل إلى 600 تريليون دولار!

و. إنّ طبيعة تشابك العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية، دفعت بالأزمة التي بدأت أميركياً إلى أن تتحول إلى أزمة عالمية. وبالتالي فإنّ أي إصلاحات أو تعديلات أميركية ولو بالسوق المحلي، فإنها ستؤثر في بقية أنحاء العالم بشكل آلي، مما يمنح أميركا القدرة على التأثير الكبير في الوضع الدولي وفي ابتزاز العالم والتحكم بشؤونه.

وهكذا تمكنت أميركا من استثمار هذه الأزمة، سواء من خلال تأمينها النقد اللازم للتحكم بتغطية الأسواق كما تشتهي من جهة، إضافة “للإصلاحات” التي تريد فرضها على العالم من جهة اخرى، ما يمكنها من العبث به وتمرير مصالحها من خلال دهاليز هذه الأزمة على الصعيد العالمي.

يسقط هذا التصور الافتراض القائم على أنّ الأزمة المالية قد أسقطت أميركا من كونها قوة اقتصادية كبرى، وأنها باتت ضعيفة قليلة الحيلة آيلة للسقوط، في مهب الريح. لا سيما أنّ منافسيها في المعترك الدولي دونها بمسافات بعيدة، فضلاً عن أنهم لا يملكون فكراً مغايراً بديلاً عن النظام الاقتصادي الرأسمالي، ليهددوا به التصورات أو السياسات الأميركية.

هذا ما يؤكده الكاتب بقوله “لا يمكن أن توجَدَ قوة تواجه قوة أميركا الاقتصادية إلا إذا سيطرت أيديولوجية جديدة ينبثق عنها فكر اقتصادي شامل للاقتصاد والنقد والتجارة. لا يوجَد عند الإنسان اليوم غير أيديولوجية الرأسمالية الديمقراطية التي تقبض على السلطة في العالم وأيديولوجية الإسلام التي ليست اليوم في السلطة. إن القيود والإجراءات التي سيعلَن عنها قريباً ستضبط حركة التمويل في العالَم لتكون ضمن نسبٍ صارمة مِن الكتلة النقدية المتَوافِرَة للدول. نسبة النقد لحاجة الدول للتمويل في واقعها أنها في معظم الدول نسبة تافهة ستضغط على النمو الاقتصادي في معظَم الدول. حتى دول الاتحاد الأوروبي ستكون تحت وطأة الشحِّ النقدي. وحدها أميركا ستكون كتلتها أكبر مِن حاجتها ما سيجعلها المسيطر الأول على سوق السيولة النقدية في العالم. أميركا تخطط أن تخرج مِن هذه الأزمة كزعيمة أقوى في عالم تُقاسُ فيه القوة بحجم السيولة التي بها يمكن السيطرة على الاقتصادات المؤثِّرَة بفضل السيولة الإضافية التي وفَّرَتها لها (خطة أزمة النقد)”.

 وللتدليل على أن أميركا تعبث بالاقتصاد العالمي محاولة الهيمنة على مقدرات الأمم الأخرى وقراراتها ساق الكاتب جملة من الأمور أبرزها:

موقف رئيس دورة الاتحاد الأوروبي (الرئيس الفرنسي) ساركوزي وتصريحه عند وصوله إلى واشنطن للقاء بوش برفقة رئيس المجلس الدائم باروسو في 18/10/08: “نحضر إلى هنا ومعنا تفويض من الـ27 دولة أوروبية التي اجتمعت بشأن الأزمة المالية الدولية وأنها تريد اجتماع قمة عالمية سريعاً للاتفاق على إجراءات مالية جديدة”. بعد لقائهم، صرح بوش إنه يرى إمكانية لعقد الاجتماع بعد شهر! ساركوزي يصرِّح: “يستحيل أن تستمر أميركا بالتحكم بالسياسة المالية للعالم. بوش لا يعلق. ها هو الاجتماع قد انعقد، فما النتيجة؟!

عندما تضخ أميركا السيولة في أسواقها فهو جزء من فصول المسرحية وليس جزءاً من عملٍ حقيقي، بينما عندما تقوم به الدول الأخرى كبريطانيا وألمانيا فإنها تفعل ذلك مِن أجل الحياة وعدم الموت. وبالمقارنة فإنّ ما ضخَّته أميركا في سوقها قليل جداً نسبياً مع ما ضخته الدول الأخرى، ففرنسا ضخت بمقدار ما ضخَّته أميركا تقريباً أو أقل بقليل وكذلك فعلت بريطانيا، رغم تفوق السوق الأميركية بأضعاف كثيرة عن هاتين الدولتين! ما يؤكِّد أن دولةً ضاربة تسيطر على تفاعلات مجرى الأمور ودولة تنهال عليها الضربات لا ترى مخرجاً فهي تفعل المستحيل وتقذف بكل ما تستطيع رميه حتى تبقى السفينةً عائمةً ولو في ’المغطس‘ الأميركي الذي لا يعوم فيه إلا ’صيصان‘ الفَرخَة.

  1. خطة أميركا في إحداث هذه الهزة المالية الدولية هي أن تستمر بوضع إصبعها على صفحة مياهها حتى تستمر ارتداداتها طويلاً في الأمم الأخرى لا سيما الأوروبية. ومن مظاهر تمرير المؤامرة رغم أنف الأوروبيين هو رفع وتيرة التلاعب بأسواق الأسهم ليكون استقرار هذه الأسواق هو المطلَب وليس الإصلاحات المالية الدولية التي تريدها أوروبا. أميركا تريد إصلاحات مالية تفرض أن تتصرف كل دولة بإمكاناتها النقدية. هذا يسمح لأميركا أن تتلاعب باقتصادات الدول منفردة وبالأسواق الدولية مجتمعة؛ لأنها تعتمد على السوق المحلي الأميركي وعلى النقد الأميركي وسيولته لتحقيق سياساتها وأهدافها المالية والاقتصادية والتجارية.

وخلاصة البحث هي أن مناقشات موضوع “الإصلاح المالي” العالمي ومفاوضاته ستطول، لكنها لن تكون بحال “إصلاحات” حقيقية، بل مجرد ترقيعات وتعديلات لا أكثر، لأن الإصلاح الجدي لا يكون إلا بتغيير نظرة الفكر الرأسمالي إلى النقد والاقتصاد والإنسان وعن دوره في هذه الحياة المرتبط بما قبلها وما بعدها. وهو ما لا يمكن تحقيقه من خلال الفكر الرأسمالي الذي هو صناعةُ عقلِ فردٍ أو مجموعة من البشر، ولذا كان لزاماً نقض هذا الفكر الوضعي من جذوره جملَةً وتفصيلاً، أصولاً وفروعاً، وفضح سياسات الدول القائمة عليه ومخططاتها، وطرح النظام الإسلامي كبديل متكامل بشكل واع ومبلور ومفصل، والعمل على تطبيقه من خلال دولة الخلافة التي تؤمن به وتجسده واقعاً حياً في المجتمع والدولة، وتجعله مثالاً صادقاً لما ينبغي التأسي به واعتماده من قبل الأمم والدول والشعوب الأخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *