العدد 90 -

السنة الثامنة جمادى الأولى 1415هـ, تشرين الأول 1994م

المؤتمر القومي – الإسلامي

بقلم: محمود عبد الكريم حسن

انعقد في بيروت في فندق الكارلتون ما بين 10 – 12 تشرين الأول 1994 مؤتمر تحت إسم (المؤتمر القومي – الإسلامي) وقد حضره مائة وواحد (حسب البيان الختامي للمؤتمر) ممثلين لقطاعات (الأمة!) بدياناتها المتعددة. وتدارس المؤتمرون ورقة عمل قومية وأخرى إسلامية وخرجوا بمقررات وتوصيات. وتم انتخاب لجنة متابعة ضمت 36 عضواً يمثلون مختلف الأديان والمذاهب والتيارات القومية العربية.

لم يظهر بوضوح من هي الجهة التي حركّت هذه المتناقضات لعقد هذا المؤتمر وتشكيل لجنة متابعة ليصبح المؤتمر بمثابة مؤسسة دائمية. وكان مؤتمر شبيه بهذا عُقِد في القاهرة سنة 1989 بترتيب من «مركز دراسات الوحدة العربية» التابع للقذافي. وقد أظهر المؤتمرون أنهم يموّلون المؤتمر من تبرعاتهم ولا يأخذون من حكومات. وقد قدم لهم الشيخ محمد مهدي شمس الدين شيئاً من المساعدة. وبغض النظر عن كون القذافي هو صاحب الفكرة أو غيره فالمهم أكثر هو الأساس الذي قام عليه المؤتمر وأسّسَ جمعية متابعة دائمية.

جاء في ورقة العمل (الإسلامية!): «اللقاء القومي – الإسلامي ضرورة لا غنى عنها، ولا يملك أي من التيارين ترف التفريط فيها أو إهمالها». «اللقاء بين التيارين الإسلامي والقومي… هو السبيل في نظر التيار الإسلامي إلى إحياء حضاري يصل مستقبل الأمة بما انقطع من ماضيها». «التيار الإسلامي يرى أن قبول مبدأ التعددية الفكرية والسياسية يفرض معارضة الأفكار التي مؤداها (نفي الآخر)». «بقي لنا أن يحترم كل فريق عقائد الآخرين، وأن نتعاون جميعاً لصياغة مشروعنا لنهضة تسع الجميع». «من مسلمات الفقه الإسلامي أن النصوص المحدودة لا يمكن أن تتسع لحكم لوقائع المتجددة غير المحدودة». [الوعي: كل هذا الكلام مناقض للإسلام. والذي يوافق عليه آثم عند الله تعالى].

وجاء في البيان الختامي والمقررات للمؤتمر: «العزم المشترك لديهما على التجدد الحضاري للأمة، وفقاً للنموذج الحضاري المتميّز بالعروبة والإسلام». «إن لقاء تياري الأصالة العربية الإسلامية على هذا العمل المشترك هو طوق نجاة الأمة مما يدبَّر لها ويحيط بها». «الدعوة إلى مصالحة عربية شاملة، تبدأ بمصالحة الحكومات العربية وشعوبها». [الوعي: الحكومات عميلة للغرب وتتنازل عن فلسطين لإسرائيل وتُصالِحُها فكيف ستصالحون هذه الحكومات مع شعوبها؟]. «التأكيد على حق كل القوى السياسية في مباشرة العمل العام في ظل الشرعية الدستورية والمشروعة القانونية». «الحوارات على المستوى القويم بين الطرفين حول القضايا الفكرية التي تهمها، وفي مقدمتها صياغة المشروع النهضوي القومي الإسلامي بجميع أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية». «فتح المنابر الإعلامية المتوافرة للطرفين من أجل الإسهام في مزيد من التفاعل الفكري بينهما». «دعوة التيارين القومي والإسلامي إلى التعاون والتنسيق في تعزيز الصف الوطني، وبخاصة في مجالات الانتخابات المحلية والتشريعية والنقابية».

هذه العبارات التي اقتطفناها من أعمال المؤتمر كلها تخالف الإسلام، ويوجد غيرها كثير يخالف الإسلام، وقد اقتصرنا على هذه كنماذج فقط. ولم نأخذ نماذج من ورقة العمل التي قدمها التيار القومي والتي يصرّ فيها على أن يفسّر المسلمون الإسلام بشكل يرضي النصارى ويرضي الملحدين والعلمانيين، لأن الأمة حسب رأيهم لها أديان وليس ديناً واحداً.

الشرع الإسلامي يميّز اللغة العربية على سائر اللغات لأنها لغة القرآن ولغة الحديث الشريف. وما عدا ذلك فليس للعرب ميزة على غيرهم، فالعِرْق العربي هو عرق مثل سائر الأعراق.

والشرع الإسلامي ميّز الرسول محمداً -صلى الله عليه وسلم- وميّز آله وعترته الطيبين الطاهرين على سائر البشر. وما عدا ذلك فالناس سواسية أكرمهم عند الله أتقاهم.

الدعوة إلى النهضة عند المسلم لا تكون إلا إسلامية فقط، أي على أساس الإسلام وحده، أي على أساس عقيدة الإسلام كعقيدة سياسية وروحية في آن واحد، وليس على أي أساس آخر. فلا يمكن أن يجتمع عند الفرد – مفهوم حياتي معين حول شيء ما مع مفهوم حياتي آخر مناقض للأول. ولذلك كان لا بد لدعاة الإسلام وفي مقدمتهم رواد هذه الدعوة أن يدركوا أن إيجاد الإسلام يعني قلع كل ما عداه. ففكرة الحاكمية لله لا توجد عند أي إنسان بشكل صادق وواضح مع فكرة الديمقراطية أو حاكمية الشعب. تماماً كالمفهوم عن الشيء. فلا يمكن أن يوجد عند أي إنسان مفهوم عن النار أنها تحرق ومفهوم أنها لا تحرق في نفس الحالة ونفس الظرف. وكذلك الأمر إذا كان المفهوم حياتناً أو متعلقاً بوجهة النظر في الحياة أي بطريقة العيش. فلا يمكن أن يوجد في نفس أي إنسان أن الزنا أو أكل الخنزير عمل صحيح وعمل غير صحيح أو جائز ومحرم في نفس الحالة ونفس الظرف.

ولذلك كان لا مناص من قلع مفاهيم الكفر أثناء غرس مفاهيم الإسلام إذ من المستحيل أن يوجداً معاً. وكان لا بد للداعية المسلم وهو يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يتعهد بالرعاية والتعميق والحفظ المفاهيم والأفكار الإسلامية أن يجهز على أفكار الكفر والمفاهيم المنبثقة عنه ويطعنها في مقتلها.

لقد تمكنت فكرة القومية من عقول ونفوس الكثيرين من المسلمين ردحاً من الزمن وكان للمطارحات القومية وجود بارز على ساحة العمل السياسي في فترة الانحطاط الفكري عند المسلمين، ورغم ذلك فالقومية لم تقدم إلا الشعارات الطنانة والخطابات الرنانة بعيداً عن أي أثر إيجابي على الأرض. وَوُجد للقومية أحزاب وسياسيون ورؤساء وصحف وكتب ومنابر، ولم نشهد في مقابل ذلك على الأرض سوى تخلف مادي وانحطاط فكري وهزائم عسكرية وديون متراكمة،وعمالة وارتباط وثيق واستجداء ذليل للجهات غير المنتمية إلى القومية المزعومة. وبدل الوحدة القومية ازداد عدد الدول المستقلة، وترسخت قوانين المحافظة على التفسخ والتمزق، وبدل إزالة كيان اليهود في فلسطين، تم الاعتراف به، بل وتشريع الدفاع عن وجوده.

وقد استيقظت الأمة الإسلامية في كل بقاع الأرض، وكان استيقاظها مترافقاً مع لفظها ودوسها بأقدامها لأفكار الفكر. وكان إحساسها بعظمة الإسلام وثقتها بأفكاره مترافقاً مع إحساسها بتفاهة الاشتراكية وعفن الرأسمالية ووضاعة القومية وانحطاط الوطنية. وها نحن نلاحظ على الأرض ونرنو بأمل وتفاؤل واعدَيْن إلى اتساع وانتشار الحركة الإسلامية الواعية والتي تزداد وعياً وشموخاً كل يوم، ونرى في نفس الوقت انهيار الشيوعية والاشتراكية وتخلي دعاتهما عن دعوتهم. ونلمس أيضاً موت وانتهاء الأحزاب والتوجهات القومية وقبوع دعاتها في الزوايا فاشلين متحسرين.

نعم نقولها بكل ثقة ويقين، لقد انتهت الأحزاب غير الإسلامية كلها، انتهت إلى غير رجعة بإذن الله. والإسلام كعقيدة وكهدف عائد بسرعة وتسارع.

إن النهضة – نهضتنا – إسلامية ليس غير، وطريقها إسلامي ليس غير، وإسلاميته ليس وصفاً عارضاً، ولا مجرد انتساب وراثي، ولا حنيناً تاريخياً، ولا ردة فعل عمياء.

إن إسلامية طريق النهضة تعني أن الإسلام كعقيدة هو الأساس الذي يوجب التغيير، وهو أساس الرابطة الحقيقة الصحيحة للأمة. وهو الأساس الذي يحدد الهدف أو الأهداف، والذي يرسم الطريق الذي يجب أن يسلك للتغيير وللوصول إلى الهدف.

وإن آكد وأوضح المفاهيم الإسلامية على طريق النهضة، أن لا نتعاون مع الشيطان ولا نضع يدنا بيده، بل ولا نتعاون ولا نصافح من يتعاون معه أو يصافحه. والشيطان هنا هو كلم من لا تقوم دعوته على أسا: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

في ظل هذه الصحوة الإسلامية، والتقدم عند الأمة في الوعي على الواقع بأنه يجب أن يتغير والوعي على الإسلام بأن التغيير لا يكون إلا إسلامياً، وآجراك أن القومية قد انهزمت وانهارت وانتهت، يطرح بعضهم التعاون بين القومية والإسلام للخروج بمشروع نهضوي. وهذا لا يفهمه الواعون على الواقع وعلى الإسلام والمخلصون لله، إلا محاولة لإحياء الطرح القوميين محاولة لإحياء العجوز الهرم الطريح فراشه. وليس إلا محاولة لطعن الصحوة الإسلامية وحرفها عن مسارها المؤسس على العقيدة.

إن الذين يريدون النهضة من هذا الواقع الذليل المرير، واقع الحكم بالكفر، عليهم أن يثبتوا أنهم يريدون ما يقولون، وأنهم ليسوا عملاء بأثواب علماء، وأنهم لا يبحثون عن شهرة أو مكسب مادي دنئ يشبع غرائزهم على حساب تكبيل الأمة وضياعها ودمارها. عليهم أن يثبتوا أنهم جزء من هذه الأمة وأنهم ليسوا جواسيس أدعياء فيها يظهرون غير ما يبطنون. وطريق النهضة له أسس وضوابط، لا يمتلك القوميون منها شيئاً.

القوميون سقطوا، وهم يدركون أنهم فاشلون وأنهم ليسوا على شيء، ولا يهمنا اليوم أن نحاورهم، فالأمة لفظتهم، وإنما يهمنا أن نخاطب الأمة الإسلامية ناصحين، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، كاشفين لها مصائد وفخاخ الكافر المستعمر، ورجالاته العملاء واتباعه المضبوعين به، وأذنابه المظهرين غير ما يبطنون.

الدعوة إلى القومية – وحديثنا هنا عن القومية العربية – تدعو إلى ارتباط العربي بالعربي على أساس أنه عربي، فالعرب لأنهم عرب العرق أو الدم أو باللغة يشكلون وحدة، يجب أن يكون لها كيان سياسي واحد. وهذه نظرة غير إنسانية تثير الاشمئزاز. فالعروبة مسألة وراثية وهي لا تعطي أي ميزة لإنسان على آخر. ونحن المسلمون نسأل كل داع إلى القومية، هل مجرد كون المرء عربياً يجعله أفضل من التركي أو الأفغاني مثلاً. ما هو الشيء في العربي الذي يجعله مؤهلاً أكثر من الإندونيسي للارتباط معه؟ هل مجرد ولادة الطفل من أبوين عربيين، ووعيه فيما بعد على تاريخ معين، يفرض عليه ارتباطاً معيناً بعيداً عن إنسانيته، عن تفكيره، عن مفاهيمه وعن إدراكه للحياة وللصواب والخطأ فيها. إن هذه الدعوة واضح فيها أنها غير إنسانية وليست ناتجة إلا عن تعصب لا يتمسك به إلا البعيدون عن الموضوعية والعقلانية في التفكير. وهذا كله فضلاً عن مخالفة العقيدة الإسلامية ومصادمة نصوصها الشرعية. يقول -صلى الله عليه وسلم- عن هذه العصبية الجاهلية: «دعوها فإنها منتنة». ويقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ويقول: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ). والأمة المقصودة هنا هي الملّة الإسلامية، يدخل فيها كل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله ولو لم يكن عربياً. ولا يدخل فيها من كان لا يؤمن بالشهادتين ولو كان عربياً. فكيف تلتقي الدعوة الإسلامية مع الدعوة القومية والصراع قائم بينهما في الأسس. ويقول القرآن أيضاً: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ويقول: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). فلم يقل إن العرب أخوة أو إن القوميين أخوة ولكن قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وليس للإيمان جنسية، ولا يتبع الإيمان عرقاً أو لوناً. والآية الثانية جعلت الكرامة للتقوى، ولا تقوى بدون الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، ولا قيمة لأي التزام بدون التصديق الجازم بالشهادتين، فلم يُعطَ العربي كرامة زائدة إلى غيره لأنه عربي وإنما أعطيت الكرامة للتقوى وحسب. وهذا ما ينطق به بوضوح -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الشريف: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى». وإذا كان العربي غير مسلم فكل مسلم آخر مهما كانت جنسيته ومهما كانت قوميته أفضل منه وأكرم منه عند الله.

الدعوة إلى القومية إذن تخالف الإسلام في قطعياته، وهي جاهلة مُقيتة، والمؤمن بها كافر بالإسلام، ومن يدعو إليها من المسلمين غير مؤمن بها – أي نفاقاً – هو عاصٍ لله ومرتكب كبيرة لأنه يدعو إلى محرم قطعي.

ونسأل القوميين سؤالاً عمره بعمر دعوتهم: ما هو الأساس الفكري الذي تقوم عليه دعوتكم وأفكارهم ومفاهيمكم إن كان لديكم أفكار ومفاهيم؟ ما هو المضمون الفكري للقومية التي تتمسكون بها؟ ما هي القاعدة الفكرية التي تطرحونها لترتبط بها الأفراد أو الأجزاء لتشكل أمة؟ ما هو النظام الحياتي الذي تدعون إليه ليكون دستوراً وقانوناً لحياة الأمة؟

إن الذي نحسه ونلمسه وندركه إدراكاً قطعياً أن القومية لا تقوم على أساس عقلي، وليس لها مضمون فكري، وبالتالي ليس لها قول أو رأي في السلوك الإنساني فلا تستطيع أن تحدد أو تقرر الخطأ والصواب، أو الجائز والحرام، وبناء عليه لا يمكن أن يكون لها دستور أو نظام، فيستحيل أن يقوم أو يوجد على أساسها أمة. ولم يسبق أن وجد في التاريخ شيء اسمه الأمة العربية، أو كيان سياسي عربي نظامه منبثق من العروبة. وما يسمى بالتاريخ العربي أو الدولة العربية هو محاولة كاذبة متهافتة، وإنما هو تاريخ إسلامي ودولة إسلامية، وكيان سياسي إسلامي نظامه منبثق من العقيدة الإسلامية.

والقومية عندما ابتدأت، ابتدأت حركة علمية للغرب للقضاء على الدولة العثمانية الإسلامية، وعندما استمرت، استمرت كي تكون بديلاً عن لملمة المسلمين جراحهم واتحادهم على (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، كي تكون مانعاً من نهضة المسلمين وإقامة دولة إسلامية واستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، فكانت الحركة القومية تنفيذاً لسياسة استعمارية كافرة، لتمزيق الأمة الإسلامية تنفيذاً لسياسية فرق تسد. ولأنها فارغة ليس فيها شيء يدعى إليه وليس فيها طريق للنهضة، فقد توسل القوميون بالاشتراكية كمبدأ سياسي له وجهة نظر في الحياة وفي السلوك الإنساني. وبهذا يتأكد هدفهم بأنه تدمير الأمة الإسلامية وإخفاؤها ليس النهضة. فقد كانت الرابطة القومية بديلاً عن رابطة العقيدة الإسلامية، وكانت الاشتراكية بمثابة روح تنفخ في القومية لتعطيها الحياة. وقد كان اختيار الاشتراكية لأنها كفر، لأنهت تبعد الأمة عن عقيدتها، وتحولها بالتعاون مع الوطنية إلى مِزَق من كيانات كرتونية جاهلية هزيلة تدور في أفلاك الدول الكافرة المستعمرة وتتبعها وتشبه ما كان عليه العرب قبل الإسلام.

ورغم كل هذا، فقد ولدت الحركة الإسلامية الواعية وكافحت وناضلت كفاحاً سياسياً قاسياً مرّاً، ووقفت في وجه القومية ودعاتها ومن ورائهم، وتحملت شتى صنوف الاتهامات والأذى والضيق.

فاستمرت الدعوة إلى النهضة على أساس الإسلام وبدأت تنتشر وتدخل العقود والقلوب، وتشكل بديلاً عن كل الدعوات الهدامة كالاشتراكية والقومية والوطنية والعلمانية.

والقومية ليس لها عقيدة عقلية، وبالتالي ليس فيها نظام حياتي أو سياسي، فما كان إلا أن بدأت تظهر فيهم دعوات تنادي بالإسلام بديلاً عن الاشتراكية، ليكون الإسلام هو السند الفكري للقومية. أي ليكون الإسلام دعامة للقومية. وهذا بعد هزيمة القومية الاشتراكية. فبدأنا نسمع أصواتاً تقول إن النهضة تقوم على دعامتين دعامة الإسلام ودعامة القومية. فيتراجع القوميون خنقاً غلى الوراء مخلين مواقعهم للحركة الإسلامية: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) يا لله ما أروعه من وصف. إنها سنة الصراع بين الحق والباطل بين الإسلام والكفر.

وتستمر الدعوة إلى الله، وتستمر اليقظة الإسلامية، وتفرغ الساحة من كل دعوة إلا دعوة الحق لإقامة نظام إسلامي صرف، واحد للأمة الإسلامية جميعاً. وتدرك الأمة أن الحركة القومية حركة علمانية، وإن الذين عدَّتهم الأمة في يوم من الأيام شهداء قوميين أعدمتهم الدولة العثمانية الظالمة، تدرك الأمة أنهم لم يكونوا سوى عملاء مربوطين بالكفر، وأنهم كانوا يصدروا عن أوامر وتعليمات من لندن وباريس، وهدفهم الإفساد في الأرض لإسقاط الدولة الإسلامية. وتدرك الأمة أن الرابطة والوحدة لا تكون إلا على أساس العقيدة الإسلامية، وأن الدعوة إلى القومية دعوة إلى الكفر، وأن دعاتها هم الذين قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وأنهم دعاة على أبواب جنهم من أجابهم إليها قذفوه فيها وأنهم يجب اعتزالهم ولو كلف اعتزالهم الموت».

في ظل هذه الأوضاع يعقد مؤتمر إسلامي – قومي لمحاولة نفخ الروح في الميت، علَّة يحيا ثم ينتفض على الإسلام. وهيهات هيهات.

وحتى تنطلي الخدعة على المسلمين، يعمد المؤتمر ومَنْ وراءه إلى إبراز نقاط تلاق بين الدعوتين. فالطرفان يبحثان عن مشروع للنهضة، والطرفان يقوي أحدهما الآخر، والطرفان يعبران عن آمال وآلام مشتركة، والطرفان يؤمنان بالديمقراطية، والطرفان يتفهمان بعضهما.

وكل هذا هراء أمام من يبحث عن النهضة الصحيحة مخلصاً. وقد قلناها سابقاً وما زلنا نقولها: من كان يريد النهضة، فالنهضة لا تكون إلا بعقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، والعقيدة العقلية هي فكرة كلية عن الكون والحياة والإنسان وعن علاقة هذه الأشياء بما قبل الحياة الدنيا وما بعدها، والعقيدة العقلية الصحيحة هي العقيدة الإسلامية وحدها. فهي وحدها التي تقدم التفسير الصحيح والقطعي للكون والحياة والإنسان وعلاقة هذه جميعها بما قبل الحياة الدنيا وبما بعدها. وعليه فالنهضة الصحيحة لا تكون إلا بالإسلام.

وبما أن القومية لا تقدم أي تفسير للكون والإنسان والحياة ولا لعلاقتهم بما قبل الحياة الدنيا وبما بعدها، لا تفسيراً صحيحاً ولا تفسيراً خاطئاً، فمن المستحيل أن تحتوي القومية على مشروع للنهضة، لا نهضة صحيحة ولا نهضة غير صحيحة.

أما الديمقراطية التي يجعلها دعاة العروبة والإسلام معاً، قاسماً مشتركاً فلا علاقة لها بالعروبة ولا بالإسلام. فالعروبة قد بيّنا أنها ليست منهجاً فكرياً وإنما يتم لصق الديمقراطية بها لدعمها ولجعلها ذات مضمون سياسي يشكل مادة للحديث. وحتى لو ألصقنا الديمقراطية بالعروبة فلن يلتقي الإسلام مع القومية في شيء، لأن حكم الإسلام في الديمقراطية أنها كفر، لأن الإسلام يقرر أن الحاكمية لله والسيادة للشرع، والديمقراطية تعني أن الحكم والسيادة للشعب وليس لله. ولا ينادي بالديمقراطية من المسلمين إلا حملة الأفكار الغربية نتيجة جهلهم بالإسلام أو عدائهم له.

إننا ندعو إلى مجرد تعديل للأوضاع القائمة. إننا ندعو ونعمل لقلب الأمور رأساً على عقب. ولا ندعو إلى تغيير، أي تغيير. إننا ندعو إلى تغيير على أساس الإسلام، تغيير هدفه إيجاد حكم الله في الأراضي، وتعبيد الناس لله وحده، كل الناس وليس العرب فقط، وليس المسلمين فقط. إنّ الخلق كله لله، الأرض لله والناس لله والكون لله، ونؤمن أنه لا دستور ولا قانون ولا شرع ولا حكم إلا ما يأمر به الله، وما يأمر به الله ليس له مصدر إلا القرآن والسنة.

نستطيع أن نفهم محاولة القوميين اللجوء إلى دعاة الإسلام علًّهم يحسَّنون صورتهم قليلاً ويطيلون عمرهم قليلاً. ولكن لا نستطيع أن نجد مبرراً شرعياً للجزء بعض المسلمين إلى القومية أو القوميين.

إن القومية والوطنية والاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية ليست إلا سموماً سُمِّمَ بها المجتمع الإسلامي. وهو وإن كان في طريقه إلى التخلص النهائي منها، فالإسلام لا يرضى بالوقوف عند ذلك الحد، فلا بد من القضاء قضاء مبرماً على هذه الدعوات الكافرة، لا بد من طعنها طعنات نجلاء للتأكد من أنها لن تعود. وأنه لن يعود إلا الإسلام وهو وحده أمر الله.

(فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) صدق الله العظيم.       

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *