مع القرآن الكريم: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
2003/10/20م
المقالات
1,839 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
مع القرآن الكريم: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ)
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
نورد تفصيل حكم اللَّه تعالى، فيمن يحكم بغير ما أنزل اللَّه، مأخوذاً من كتيّب (تحكيم القوانين)، لسماحة الشيخ محمد بن ابراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، مفتي الديار السعودية سابقاً – رحمه اللَّه تعالى: فانظر كيف سجّل تعالى، على الحاكمين بغير ما أنزل اللَّه الكفر، والظلم والفسوق. ومن الممتنع أن يسمي اللَّه سبحانه الحاكم بغير ما أنزل اللَّه كافراً، ولا يكون كافراً، بل هو كافرٌ مطلقاً، إما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد. وما جاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في تفسير هذه الآية… يدلّ على أن الحاكم بغير ما أنزل اللَّه كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن الملّة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملّة.
أما الأول، وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:
أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل اللَّه أحقيّة حكم اللَّه ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير، أن ذلك هو جحود ما أنزل اللَّه من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم. فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم، أن من جحد أصلاً من أصول الدين، أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً، فإنه الكفر الناقل عن الملّة.
الثاني: أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل اللَّه، كون حكم اللَّه ورسوله حقاً، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتمّ وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقاً، أو بالنسبة إلى ما استجدّ من الحوادث، التي نشأت عن تطوّر الزمان، وتغيّر الأحوال، وهذا أيضاً لا ريب أنه كفر، لتفضيله أحكام المخلوقين، التي هي محض زبالة الأذهان، وصِرْف حثالة الأفكار على حكم الحكيم الحميد.
وحكم اللَّه ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطوّر الأحوال، وتجدّد الحوادث، فإنه ما من قضيةٍ، كائنة ما كانت، إلا وحكمها في كتاب اللَّه تعالى، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، نصًا أو ظاهراً أو استنباطاً، أو غير ذلك، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله، وليس معنى ما ذكره العلماء، من تغيّر الفتوى بتغيّر الأحوال، ما ظنّه من قلّ نصيبهم، أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنّوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوّراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعةً لها، منقادةً إليها، مهما أمكنهم، فيحرفون لذلك الكلم عن مواضعه، وحينئذٍ معنى تغيّر الفتوى بتغيّر الأحوال والأزمان، مراد العملاء منه: ما كان مستصحبه فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مرادٌ للَّه تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية، عن ذلك بمعزل. وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم، كائنة ما كانت، والواقع اصدق من شاهد.
الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم اللَّه ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافراً الكفر الناقل عن الملّة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة، والمعاندة، لقوله عزّ وجلّ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ونحوها من الآيات الكريمة، الدالّة على تفرّد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين، في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل اللَّه، مماثلاً لحكم اللَّه ورسوله، فضلاً عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم اللَّه ورسوله، فهذا كالذي قبله، يصدق عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز ما علم، بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة، تحريمه.
الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندةً للشرع، ومكابرةً لأحكامه، ومشاقة للَّه ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي: القانون الملفّق من شرائع شتّى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأميركي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين.
فيا معشر العقلاء، كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم، ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثر من صوابهم بكثير. بل لا صواب في حكمهم، إلا ما هو مستمدٌّ من حكم اللَّه ورسوله، نصاً أو استنباطاً، تَدَعونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم وأعراضكم، وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم اللَّه ورسوله، الذي لا يتطرّق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل، من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميد. وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم، خضوع ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه. فكما لا يسجد الخلق إلا للَّه، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق فكذلك يجب أن لا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا، إلا لحكم الحكيم العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق، الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات. فيجب على العقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكّم فيهم بالأهواء والأغراص، والأغلاط والأخطاء، فضلاً عن كونه كفراً، بنص قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).
السادس: ما يحكم به كثيرٌ من رؤساء العشائر، والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمّونها «سلومهم» يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به، ويحصلون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءً على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبةً عن حكم اللَّه ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا باللَّه.
وأما القسم الثاني من قسمي كفر لحاكم بغير ما أنزل اللَّه، وهو الذي لا يخرج من الملّة، فقد تقدّم أن تفسير ابن عباس، رضي اللَّه عنهما، لقول اللَّه عز وجل (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) فقد شمل ذلك القسم. وذلك في قوله، رضي اللَّه عنه، في الآية: (كفر دون كفر) وقوله أيضاً (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه). وذلك أن تحمله شهوته وهواه، على الحكم في القضية، بغير ما أنزل اللَّه، مع اعتقاده أن حكم اللَّه ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ، ومجانبة الهدى. وهذا، وإن لم يخرجه كفره عن الملّة، فإنه معصيةٌ عظمى، أكبر من الكبائر، كالزنا وشرب الخمر، والسرقة، واليمين الغموس، وغيرها. فإن معصية سماها اللَّه في كتابه: كفراً، أعظم من معصيةٍ لم يسمّها كفراً. نسأل اللَّه أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقياداً ورضاءً، إنه وليّ ذلك والقادر عليه .
2003-10-20