العدد 196 -

السنة السابعة عشرة – جمادى الأولى 1424هـ – تموز 2003م

مع القرآن الكريم: ثمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ في كُلِّ مَرَّةٍ

مع القرآن الكريم:

بسم الله الرحمن الرحيم

ثمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ في كُلِّ مَرَّةٍ

  قال تعالى: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ! الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ! فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ! وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ! ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون)  [الأنفال].

إن هذه الآيات تتضمّن بعضاً من قواعد تعامل المسلمين مع أعدائهم، وبخاصة اليهود، في السلم والحرب، ونظرة الإسلام إلى العهود والمواثيق.

قال ابن كثير «أخبر تعالى أن شرّ ما دبّ على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين كلما عاهدوا عهداً نقضوه، وكلما أكدّوه بالأيمان نكثوه. (وهم لا يتقون) أي لا يخافون من اللَّه في شيء ارتكبوه من الآثام». ومثل هذا قوله تعالى: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) . قال ابن كثير في تفسيرها «ليس في الأرض عهدٌ يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غداً» قال سيد في الظلال: «قيل إن المقصود إنهم بنو قريظة وقيل إنهم بنو النضير وقيل أنهم بنو قينقاع.. والتاريخ يقول إن اليهود نقضوا عهودهم مع رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) طائفةً طائفة فهؤلاء كانوا ينقضون كل عهدٍ أبرموه». ذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما قدم المدينة صالح طوائف اليهود الثلاث ودعاهم. وهم بنو قينقاع وبنو النضير، وبنو قريظة، وكانوا يقيمون حول المدينة.

l أما اليهود من بني قينقاع فقد كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) وحاربوه، فيما بين بدر وأحد. فقد روى ابن هشام أن امرأةً من العرب قدمت بجلب لها فباعته في سوق قينقاع، ثم جلست إلى صائغ بها. فجعلوا (اليهود) يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها فصاحت. فوثب رجلٌ من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع، فحاصرهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) خمس عشرة ليلة ثم أجلاهم.

l أما يهود بني النضير، فقد خرج الرسول (صلى الله عليه وسلم) إليهم يستعينهم في ديّة العامريين اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) عقد لهما. فلما خلا بعضهم إلى بعض، قالوا: لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن. فمَن رجل يعلو هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب أنا. فأتى رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الخبر، فانصرف عنهم ثم حاصرهم وأجلاهم من حصونهم التي ظنوا أنها مانعتهم من اللَّه.

l أما بنو قريظة فقد غدرت بالرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد أن كان قد عاهدها، وظاهرت الأحزاب عليه. فكان أن أتى جبريل رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) بعد أن انفرط عقد الأحزاب وكفى اللَّه المؤمنين القتال، وأمره بالمسير إلى بني قريظة. فأذّن مؤذّن الرسول أنّ من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلينّ العصر إلاّ في بني قريظة. فحاصرهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) واستسلموا له شرط أن يحكم فيهم سعد بن معاذ الذي حكم بأن تقتّل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.

ثم إن اللَّه تعالى أمر المسلمين فقال (فإما تثقفنهم في الحرب) قال ابن كثير «أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب» (فشرد بهم من خلفهم) أي نكّل بهم. قال ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدّي، وعطاء الخراساني وابن عينية ومعناه غلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصير لهم عبرة (لعلهم يذكرون) وقال السدّي يقول لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.

ثم إن القرآن بعد أن بيّن خلق اليهود في نقض العهود، بيّن خلق الإسلام في حفظها وعدم نبذها إلا بعد خيانتهم وإلا بعد إعلامهم بنبذها. قال ابن كثير: «يقول تعالى لنبيّه (وإما تخافن من قوم) قد عاهدتهم (خيانة) أي نقضاً لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود (فانبذ إليهم) عهدهم أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك، وأن لا عهد بينك وبينهم (على سواء) أي تستوي أنت وهم في ذلك.
(إن الله لا يحب الخائنين) أي حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضاً. ثم يقول تعالى: (ولا يحسبن) ولا تحسبنّ يا محمد (الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) أي فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا».

إن القرآن الكريم فيه حكم ما قبلنا، وحكم ما بيننا، وحكم ما بعدنا… وإنّ الآيات الكريمة التي ذكرناها مع ما حدث مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوضح لنا، لواقعنا، عدة أمور:

–  إن اليهود الذين شهد اللَّه لهم بالنكث والغدر ما زالوا هم هم. وهم لم يعقدوا معاهدة مع حكام اليوم إلا لينقضوها ويأخذوا منها المغنم، ويطرحوا المغرم على المسلمين. وهم من اتفاقية إلى اتفاقية يحاولون أن يحقّقوا ما لم يحققّوه في الحروب.

–  إن اليهود لا يضع حداً لاحتلالهم ونكثهم ويحقق فيهم التشريد والذبح كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا دولة إسلامية. لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يفعل ذلك كحاكم للمسلمين.

–  إن الأعمال الجهادية التي تقوم ضد اليهود يجب أن تستمرّ حتى تقوم دولةٌ إسلامية تستأصل شأفتهم فلا يجوز الدخول مع اليهود في مفاوضات ولا إبرام معاهدات لأنهم على أرضٍ للمسلمين اغتصبوها ويجب دفعهم وعدم مفاوضتهم فضلاً عن أنّ إبرام المعاهدات هي من عمل الدولة الإسلامية لا الجماعات الجهادية.

–  إنّ العمل الجهادي على مشروعيته لن يستطيع أن يحقق دفع اليهود؛ لأنّ حكام المسلمين يقفون في صفّ أعدائهم. فكان لا بدّ من إزاحتهم، فضلاً عن أنّ إزاحتهم فرض مستقلّ بذاته، ثم إقامة دولة إسلامية ثم دفعهم كما هو مطلوبٌ شرعاً.

–  إنّ خارطة الطريق، كما هي سائر المعاهدات التي أبرمت سابقاً ترعاها أميركا التي تمد يهود، وهي أشدّ على المسلمين من يهود ويعاونها حكام المسلمين، على حساب المسلمين.

–  إنه لا يستطيع أن يواجه اليهود ومن وراءها إلا كيان دولة للمسلمين يواجه كيان دولة اليهود، وجيش يواجه جيشها، فإنّ الأعمال الجهادية والاستشهادية لا تكفي. وبهذا يتحقق قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) «تقاتلكم يهود فتقتلونهم…». واللَّه أعلم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *