تُشَكِّلُ الغاباتُ والأحراشُ الطبيعيةُ رئَةً طبيعيةً مُكَمِّلَةً لدورةِ الحياةِ على الأرضِ، فالنباتاتُ تقومُ بالتقاطِ ثاني أكسيدِ الكربونِ منَ الجوِّ، وامتصاصِ الماءِ والموَّادِ الأساسيةِ منَ التربةِ، وتُحَوِّلُها عنْ طريقِ التمثيلِ الكلوروفيلِيِّ إلى أُكسجين تُطْلِقُهُ في الجوِّ، وإلى موادَ غذائيةٍ تختَزِنُها في الورقِ والثَّمَرِ. ولذلكَ كانتِ الغاباتُ والأحراشُ ضروريةً لبقاءِ الحياةِ واسْتِواءِ نظامِ الطبيعةِ مُتَّزِنًا، حيثُ إنَّ الإنسانَ والحيوانَ بِحاجةٍ إلى هذا الأُكسجين والموادِّ الغذائيةِ، وأَنَّ بعضَ الحيواناتِ تحتاجُ هذه الغاباتِ كأوساطٍ بيئيةٍ تعيشُ فيها. لذلكَ كانَ الحفاظُ على الغاباتِ والأحراشِ لازمًا للحفاظِ على الدورةِ الحياتِيَّةِ، وكانَ على الدولةِ الإسلاميةِ أَنْ تهتمَّ بحمايةِ هذهِ الغاباتِ والأحراشِ منَ القَطْعِ أو الإزالَةِ، وتحمِيَ الكائناتِ الحيَّةِ فيها منَ الصيدِ أوِ التهجيرِ، ما دام هذا لازماً لبقاء الدورة الحياتية الطبيعية مكتملَةً صحيحةً.
وَتُعْتَبَرُ الأحراشُ الطبيعيةُ والغاباتُ من الأَعْيانِ التي تمنعُ طبيعةُ تكوينِها اختصاصَ الأفرادِ بحيازَتِها، ولذلكَ تكونُ منَ الملكياتِ العامَّةِ، ولا يجوزُ لغيرِ الدَّولةِ أنْ يحمِيَ ما هُوَ لعُمومِ الناسِ، لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواهُ أَبو داودٍ في سُنَنِهِ وصحَّحَهُ الألبانيُّ: “لا حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ”، أي لا حِمَى إلا للدولَةِ. وللدولةِ أَنْ تحمِيَ منَ الملكياتِ العامةِ ما تحتاجُهُ لمصالحِ المسلمينَ، والدليلُ على ذلكَ أَنَ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حَمَى النَّقيعَ -هوَ موضعٌ معروفٌ بالمدينةِ- لِخَيْلِ المسلمينَ، كما رَوى أَبو عُبَيْدٍ عنْ ابنِ عمر (رضي الله عنه)، وكذلكَ حَمَى أبو بكرٍ (رضي الله عنه) الرَّبَذَةَ لإبِلِ الصدقةِ، وحَمَى عمر (رضي الله عنه) الشَّرَفَ والرَّبَذَةَ.
والحفاظُ على الدورةِ الحياتيةِ وميزانِ الطبيعةِ بإنشاءِ محمياتٍ طبيعيةٍ وغاباتٍ مِنْ مصالحِ المسلمينَ، لذلكَ تحمي الدولةُ ما يكفي منْ هذهِ المحمياتِ لهذا الهدفِ، وتمنعُ قَطْعَ هذهِ الغاباتِ أوِ الصيدَ فيها. ويكونُ القرارُ بحمايةِ أَرْضٍ مُعينةٍ دونَ أُخْرى راجِعًا لتقديرِ الخليفةِ وَفْقَ ما يَراهُ منْ مصلحةِ المسلمينَ، ولا يُلْتَفَتُ إلى الضغوطِ الدوليَّةِ المُتَذَرِّعَةِ بحمايةِ البيئةِ لتحديدِ ما يُحْمى منْ أراضي الدولةِ الإسلاميَّةِ. وَتُراعى أَيْضًا في حِمايَةِ الأَراضِي وَزِراعَةِ الغاباتِ قَضِيَةُ مُقاوَمَةِ التَّصَحُّرِ، وَتُشَجِّعُ الدولةُ رَعِيَّتَها كذلكَ على زراعةِ المناطقِ التي تُعاني منْ خطرِ التَّصَحُّرِ منعًا لامتدادِهِ.
وتكمنُ أهميةُ الصرفِ الصحيِّ في الضررِ الجَسِيمِ الذي يمكنُ أنْ يُسَبِّبَهُ سوءُ الإدارةِ في هذا المجالِ على التوازُنِ البيئيِّ وصِحَّةِ الجماعةِ، فالتقديراتُ تُشيرُ إلى أَنَّ 88% منَ العبءِ العالميِّ للأمراضِ يُعْزَى إلى إمداداتِ المياهِ غيرِ المأْمونةِ وانعدامِ الصرفِ الصحيِّ والنظافةِ الصحيةِ. ويعيشُ 2.6 مليارِ شخصٍ في العالمِ -منهمْ مِليارُ طفلٍ على وجهِ التقريبِ- في ظلِّ انعدامِ القواعدِ الأساسيةِ للصرفِ الصحيِّ. وَتُشِيرُ التقاريرُ الغربيةُ إلى أَنَّ طفلاً واحدًا يُفارِقُ الحياةَ كلَّ عشرينَ ثانيةً نتيجةَ رَداءَةِ الصرفِ الصحيِّ، أيْ ما يقاربُ 1.5 مليونَ وفاةٍ سنوياً. وقدْ اعتبرتِ المجلةُ الطبيةُ البريطانيةُ في استطلاعٍ أجرتهُ معَ مجموعةٍ منَ المختصينَ أَنَّ الإنجازَ الصحيَّ الأهمَّ مُنْذُ سنةِ 1840م هوَ الصَّرْفُ الصحيُّ، وقدْ فاقَ في الأهميةِ اكتشافَ المُضَادَّاتِ الحيويةِ وجميعَ إِنجازاتِ القرنِ العشرين الطبيةَ.
لذلكَ كانَ منَ الواجبِ على الدولةِ أَنْ تُهَيِّئ شبكاتٍ للصرفِ الصِّحِّيِّ في التجمعاتِ السَّكَنِيَّةِ لتصريفِ مياهِ المجاري والفضلاتِ، وأنْ تقومَ أيضًا بإنشاءِ مراكزَ لعلاجِ هذهِ الفضلاتِ، بِدَفْنِها أو حرقِها أوْ إعادَةِ تدويرِ النفاياتِ غَيْرِ النجسَةِ منها واستغلالها مُجَدَّدًا، منْ بابِ رعايةِ الشؤونِ ومنعِ الضررِ. ومن هذا البابِ أيضًا ينبغي أنْ تكونَ المزابلُ ومراكزُ مُعالجةِ الفضلاتِ بعيدةً عنْ التجمعاتِ السكنيةِ ومواردِ المياهِ.
أمَّا بالنسبةِ لإعادةِ تدويرِ الفضلاتِ النجسَةِ كالبَرَازِ والبَوْلِ وغيرِها وتحويلِها إلى موادَّ نقيةٍ لاستعمالِها مُجَدَّدًا، فلا يجوزُ شرعًا، لأنَّ النجاساتِ لا يحلُّ الانتفاعُ بها مُطْلَقاً، لا بالاستعمالِ ولا بالبيعِ ولا بالإهداءِ ولا بالإرثِ، ولا تُعدُّ مالاً محترماً مُقوَّماً شرعاً، باستثناءِ جِلْدِ الميتَةِ بعدَ دباغِهِ، لورودِ النصِّ باستثنائهِ، فقدْ جاءَ في السُّنَنِ الكبرى لِلْبَيْهَقِيِّ أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: “طَهُورُ كُلِّ إِهَابٍ دِبَاغُهُ”، وَقالَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رُوَاتَهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.
وعليهِ فإنَّ ما تقومُ بهِ بعضُ الدولِ منْ تَقْطِيرِ الأَبوالِ والعِذَرِ كمياهِ مجاري المُدُنِ لِتَسْتَخْرِجَ مِنْها الماءَ المُقَطَّرَ لاستعماله والانتفاع به هو حرامٌ لا يجوزُ للمسلمينَ أنْ يفعلوهُ، بل الواجب التخلص من هذه النجاسات بدفنها أو حرقها… وإذا رأت الدولة الإسلامية أن التخلص منها بعد تحويلها إلى مواد أساسية هو أفضل للبيئة وإبعاداً للضرر عن الرعية، كتحويلها إلى مياه مقطرة ثم إعادتها للبحار أو دفنها، إذا رأت ذلك، فإنه يجوز للدولة هذا الفعل بالفضلات النجسة للتخلص منها وليس لاستغلالها أو استعمالها. وذلك لأن الحرمة واقعة على الانتفاع بالنجاسة، أما مجرد تكريرها للتخلص منها دون الانتفاع بها، بل لإزالة الضرر الناتج عنها، فلا حرمة فيه.