العدد 192 -

السنة السابعة عشرة – محرم 1424هـ – آذار 2003م

شيْءٌ مِنَ الفِقهِ في اللُّغَةِ والأَحْكَامِ (القرائن المبينة لنوع الطلب)

شيْءٌ مِنَ الفِقهِ في اللُّغَةِ والأَحْكَامِ

(القرائن المبينة لنوع الطلب)

 

بيَّنا في الأعداد السابقة أساليب الطلب عند العرب في الأمر والنهي. ومن المعلوم أنّ الأمر والنهي يفيدان طلب فعل وطلب ترك على التوالي. والأحكام الشرعية تتوقف على نوع الطلب: إن كان جازماً في الفعل كان فرضاً، وإن كان جازماً في الترك كان حراماً. أما إن كان غير جازم لكنه راجح في الفعل كان مندوباً، وإن كان راجحاً في النهي كان مكروهاً. فإذا كان للتخيير في الفعل أو الترك كان مباحاً.

         فما الذي يبيّن نوع الطلب؟ إنها القرائن المصاحبة للطلب. فما هي هذه القرائن؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

         القرائن المبينة لنوع الطلب:

         القرينة لغة: هي من قَرَنَ الشيءَ أي: جمعه وصاحبه.

         وهي هنا: كلّ ما يبين نوع الطلب ويحدد معناه إذا ما جمع إليه وصاحبه.

         ولتحديد الحكم الشرعي لفعل الإنسان يُسلك المسلكان التاليان:

  1. يبحث عن الدليل الذي ينص على الطلب سواء أكان القيام بالفعل أو الترك للفعل.

  2. يبحث عن القرينة التي لو جمعت للدليل الأول بينت نوع الطلب وحددت معناه.

         والقرينة ثلاثة أصناف:

         أولاً:  التي تفيد الجزم: وهي التي تلزم لتعيين الفرض والحرام (طلب جازم للقيام بالفعل أو طلب جازم لترك الفعل)، نذكر منها:

         أ. ما كان فيها بيان من قول أو فعل: “لعقوبة في الدنيا أو الآخرة” أو ما في معناها، وذلك على ترك الفعل أو القيام به.

         (ما سلككم في سقر @ قالوا لم نك من المصلين) [المدثر].

         (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله) [المائدة/38].

         (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)  [النساء].

         ب.  ما كان فيها بيان من قول أو فعل لدوام تنفيذها إلا من عذر فرخصة أو قضاء أو عفو.

         (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ @ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: من الآية184) )

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) إلى قوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) [المائدة/6].

         “من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها”([1]).

         l إعفاء المرأة من قضاء الصلاة أيام حيضها. كما جاء في الحديث عن فاطمة بنت حبيش قول الرسول لها: “دعي الصلاة أيام أقرائك”([2]).

         ج. ما كان فيها بيان من قول أو فعل بضرورة الالتزام بها مع المشقة دون استبدال بغيرها.

         (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) [البقرة/216].

         l التزام الرسول طريقة معينة لإقامة الدولة وهي طلب النصرة، وتكبد الرسول في سبيل ذلك المشاق دون أن يغير هذه الطريقة يدل على أن طلب النصرة لإقامة الدولة فرض وأي فرض!

         روى ابن هشام في سيرته قال:

         قال ابن إسحاق: ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن نالته في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله، فخرج إليهم وحده، إلى أن قال… فلم يفعلوا وأغروا بهم سفاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به.

         وقال ابن إسحاق: حدثنا ابن شهاب الزهري أنه أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له فليح، فدعاهم إلى الله جل جلاله وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه.

         قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه رداً منهم.

         قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه.

         وكذلك طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرة بني شيبان، فأجابوه واستثنوا أن يقاتلوا معه الفرس لاعتبارات ذكروها، فلما أعلمهم الرسول أن المطلوب هو نصرة الإسلام وتبليغه للناس كافة أبوا ذلك.

         واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب نصرة القبائل دون أن يغيرها بطريقة أخرى رغم الردود الصعبة التي حدثت، ورغم الأذى الشديد في بعضها الذي أصاب الرسول في جسمه الشريف، وبقي على ذلك إلى أن نصره الله باستجابة الأنصار له، وكانت بيعة العقبة الأولى والثانية والهجرة إلى المدينة وإقامة الدولة.

         “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة”­([3]).

         ووجه الاستدلال أن الرسول لو أمر المسلمين بالسواك عند كلّ صلاة مع ما فيه من مشقة لفهموه فرضاً والتزموه، فلم يأمرهم الرسول به عند كلّ صلاة خشية المشقة عليهم، أي أن الفعل الذي مشقة تنفيذه ظاهرة إذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم به يكون هذا الأمر فرضاً.

         د. ما كان فيها بيان لأمر حكمه الوجوب أو موضوعه فرض أو مدلوله حراسة للإسلام.

         “خذوا عني مناسككم”([4]).

         “صلوا كما رأيتموني أصلي”­([5]).

         (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)  [آل عمران/104].

         “مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع”([6]).

         ه. ما كان فيه بيان لتنفيذ أمر على التخيير بين عدة أحكام محصورة فيه.

         (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) [النساء/86].

         (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) [المائدة/89].

         و. ما كان فيها بيان لتكرار فعل لو لم يكن فرضاً لكان ممنوعاً كالركوعين الزائدين في صلاة الخسوف، وذلك لأن زيادة ركن فعليّ عمداً يبطل الصلاة، فلو لم يكونا واجبين لكانا ممنوعين، أي لكانا مبطلين للصلاة، فكون الرسول صلى الله عليه وسلم كرر هذا الركن يدل على أنه واجب. روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها في وصف صلاة الخسوف قالت: «خَسَفَت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فأطال القيام جداً ثم ركع فأطال الركوع جداً ثم رفع رأسه فأطال القيام جداً وهو دون القيام الأول ثم ركع فأطال الركوع جداً وهو دون الركوع الأول ثم سجد…» إلى آخر الحديث.

         ز. ذكر لفظة تدل على الفرضية أو الوجوب أو الحرمة في نفس النص، مثال ذلك:

         (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) إلى قوله تعالى: (فريضة من الله) [النساء/11].

         (حرمت عليكم أمهاتكم) [النساء/23].

         (إنما حرم عليكم الميتة) [البقرة/173].

         “لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم“­([7]).

         ح. أن يوصف العمل بوصف مناسب مفهم للنهي الجازم كالمقت من الله أو الغضب، ذم أو وصف شنيع كالفاحشة أو من عمل الشيطان، نفي الإيمان أو نفي الإسلام…الخ.

         (إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً) [النساء] يفيد الذم الشديد وبالتالي التحريم.

         (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) [الصف].

         (ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله) [النحل/106].

         (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان) [المائدة/90].

         (إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً) [النساء/22].

         (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) [آل عمران/28].

         “أيّما أهل عرصة بات بينهم امرؤ جائع إلا برئت منهم ذمة الله”­([8]).

         ط. إذا كان الطلب مقترناً بالإيمان أو ما يقوم مقامه كأن يكون متبوعاً بـ (لمن كان يرجوا لله واليوم الآخر) فإنها قرينة على الوجوب.

         (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) [الأحزاب/21].

         (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [النساء/59].

         (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر) [البقرة/232].

         ي. أن يقترن مع الطلب منع المباح.

         (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة].

         ك. الأمر بالتطوع أو الصدقة بعد أمر بأصل هذا الموضوع يكون قرينةً على أن الطلب بهذا الأصل طلب جازم.

         (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) [البقرة/280].

         فالأمر بالصدقة على المدين (بإعفائه من دينه أو جزءٍ منه) بعد الأمر بإمهاله في الدين يعني أن إمهاله فرض على الدائن إن كان المدين معسراً.

         ل. إن كان مشمولاً بقاعدة [ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب] فإذا كان هناك واجب ولا يتم إلا بأمر آخر فإن هذا الأمر يكون واجبا ويشترط في هذه الحالة أن يكون هذا الأمر جزءاً من الواجب الأصلي، كأركان الصلاة بالنسبة للصلاة، وأما إن كان خارجاً عنه كالوضوء فإنه يحتاج إلى دليل آخر على وجوبه، لأنه ليس جزاً من الصلاة بل هو شرط فيها.

         ثانياً:  التي تفيد عدم الجزم وهي التي تلزم لتعيين المندوب والمكروه (طلب غير جازم بالقيام بالفعل، أو طلب غير جازم لترك الفعل)، نذكر منها:

         أ. طلب فعل أو طلب ترك دالٌّ على الترجيح ومجردٌ عما ذكر في (أولاً).

         “تبسمك في وجه أخيك صدقة”­([9]).

         “إن الله نظيف يحب النظافة”([10]).

         “للمسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه”([11]).

         عن عقبة عن عمرو: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام­([12]).

         إن نفراً أتوا النبي فوجد منهم ريح الكراث، فقال: “ألم أكن قد نهيتكم عن أكل هذه الشجرة، إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان”([13]).

         ب. اجتماع طلب ترك مع تقرير أو سكوت عن الفعل.

         حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء»([14]) عن التداوي بالحرام (الخمر)، وحديثه عن القوم الذين أذن لهم أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها دواء لهم: “عن أنس أن أناساً اجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا براعيه – يعني الإبل فيشربوا من ألبانها وأبوالها”­([15]). والبول نجس وشربه حرام. الحديث الأول فيه نهي عن التداوي بالحرام والثاني فيه إقرار للتداوي بالحرام (شرب البول)، والنهي مع الإقرار يفيد كراهة التداوي بالحرام.

         ج. ما كان فيه قربة إلى الله جل جلاله ومجرداً عما ذكر في (أولاً).

         “ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتها مرة”­([16]).

         “ما تصدق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب – إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرةً فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، ويربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله”­([17]).

         “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بصيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ويقول: هو كصوم الدهر أو كهيئة صوم الدهر”([18]).

         قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الدعاء هو العبادة“([19]).

         ثالثاً:  التي تفيد الاستواء بين طلب القيام بالفعل وطلب تركه أي الإباحة، نذكر منها:

         أ. ما فيها بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام حيناً بهذا الفعل وتركه حينا آخر.

         أخرج الطبراني في الأوسط أن جنازة مرت على ابن عباس والحسن بن علي، فقام أحدهما وقعد الآخر، فقال القائم للقاعد: أليس قد قام رسول الله؟ فقال: بلى، وقعد­([20]). فنفهم منه الإباحة للقيام والقعود.

         ب. ما فيها بيان العفو عن الفعل في التشريع العام، أي بدون عذر.

         سئل رسول الله عن السمن والجبن والفراء، قال: “الحلال ما أحلّ الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه“­([21]).

         ج. ما كان من الأفعال الجبلية المرتبطة بخصائص الجسم، وما كان مما خلقه الله جل جلاله مسخراً للإنسان ولم يرد تخصيص أو تقييد لأي منهما.

         (وسخر لكم الأنهار) [إبراهيم].

         (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره) [الجاثية/12].

         (كلوا واشربوا من رزق الله) [البقرة/60].

         (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) [الأعراف/31].

         (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض) [الأعراف/185].

         (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه)  [الأنعام/99].

         (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)  [الملك/15].

         [1]عن خالد بن الوليد “أن رسول الله أتى بضبٍّ مشوي، فقرب إليه، فأهوى بيده ليأكل منه، فقال له من حضره: يا رسول الله، إنه لحم ضبٍّ، فرفع يده عنه، فقال له خالد: يا رسول الله، أَحَرامٌ الضبّ؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرضي فأجدني أعافه. قال: فأهوى خالد إلى الضبّ فأكل منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه”­([22]).

         د. كل فعل حرم، أي نهي عنه جازماً لسبب ثم أعيد تحليله بعد زوال السبب، فإن هذا التحليل يعني الإباحة، أما إذا كان النهي لوجود مانع ثم أعيد تحليله لزوال المانع فإن هذا التحليل يعني العودة إلى ما كان عليه قبل حدوث المانع إن كان فرضاً أو مندوباً أو مباحاً، أي أن التحليل بعد التحريم لوجود مانع لا دلالة له.

         إباحة الانتشار بعد صلاة الجمعة وإباحة الصيد بعد فكّ الإحرام.

         (وإذا حللتم فاصطادوا) [المائدة/2]، فإنه يأمر بالصيد بعد فكِّ الإحرام، ولكن هذا الأمر لا يدلّ على أن الصيد بعد فكِّ الإحرام فرض أو مندوب، بل يدلّ على أنه مباح بقرينة أخرى، وهو أن الله أمر بالصيد بعد الإحرام وكان قد نهى عنه خلال الإحرام (غير محلي الصيد وأنتم حرم) [المائدة/1]، فيكون الصيد بعد فكِّ الإحرام مباحاً، أي عاد إلى أصله كما كان قبل الإحرام.

         ومثل هذا: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا) [الجمعة/10]، فإن حكم الانتشار هو الإباحة بقرينة أن الله قد أمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة بعد أن كان قد نهى عنها عند صلاة الجمعة كما في أول الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)  [الجمعة/9]، أي أن الانتشار بعد صلاة الجمعة مباح، حيث عاد إلى أصله كما كان قبل الصلاة وقبل النهي عنه.

         أما بعد المانع فقد يعود إلى الإباحة أو الندب أو الفرض، أي لا دلالة له، فمسّ المصحف مباح لمن هو على طهارة، فإذا حصل المانع حرم مسّ المصحف، فإذا زال المانع عاد مسّ المصحف إلى نفس حكمه السابق. وأما الصلاة التي هي فرض فتحرم لحصول المانع، فإذا زال المانع عاد الحكم إلى أصله، أي أصبح فرضاً. وأما صلاة السنة فهي مندوب قبل المانع، وعند حدوث المانع تحرم، فإذا زال المانع عادت لحكمها وهو الندب.

         وفهم القرائن ودلالتها على الجزم وعدمه أمر يحتاج إلى بذل جهد وإفراغ وسع لأن الحكم الشرعي مرتبط بها وقائم عليها، والله عون لمن استعانه سبحانه وكان صادقاً مخلصاً في عمله .

  ([1]) البخاري: مواقيت الصلاة 562، مسلم: المساجد 1097، 1102، أبو داود: الصلاة 374، الترمذي: الصلاة 162، النسائي: المواقيت 610، ابن ماجة: 690، مسند أحمد: 11534، الدارمي: 1201.

  ([2]) مسند أحمد: 24500، الدارمي: الطهارة 791 رقم 182 واللفظ “اجتنبي الصلاة أيام محيضك، اجلسي أيام أقرائك”.

  ([3]) البخاري: الجمعة 838، التمني 6699، مسلم: الطهارة 370، أبو داود: الطهارة 43، النسائي: الطهارة 7، ابن ماجة: الطاهرة 283، مسند أحمد: 573، 921، 7037، موطأ مالك: الطهارة 132، الدارمي: الصلاة 1447.

  ([4]) مسلم: الحج 2286، النسائي: الحج 3012، أبو داود الناسك 1680، مسند أحمد: 13899، 14091.

  ([5]) البخاري: الأذان 595، 5549، مسلم: 1297، الدارمي: الصلاة 1225، أحمد: 5/53، البيهقي: 2/345.

  ([6]) أبو داود: الصلاة 418، مسند أحمد: 6402، 6467.

  ([7]) البخاري: الجمعة 1026، مسلم: الحج 2383، أبو داود: المناسك 1465، مسند أحمد: 11200.

  ([8]) مسند أحمد: 3/33، وإسناده صحيح، المستدرك: 2/14، مسند أبو يعلى: 10/115.

  ([9]) الترمذي: البر والصلة 1879.

([10]) الترمذي: الآداب 2723 وقال هذا حديث غريب، أبو يعلى: 2/12.

([11]) الترمذي: 2737 وقال: حديث صحيح، ابن ماجه: الجنائز 1424، مسند أحمد: 513، ابن حبان: 1/477.

([12]) مسلم: المساقاة 2931، النسائي: الصيد 4220، 4594، ابن ماجه: التجارات 2156، مسند أحمد: 7635، 8039.

([13]) ابن ماجه: الأطعمة 3356، أبو دود: 3423، النسائي: 3423، ابن حبان: 1646.

([14]) في رواية ابن ماجه عن علقمة عن طارق بن سويد سأل النبي r فقال: إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها. قال: لا، فراجعته. قلت: إنا نستشقي به للمريض. قال: إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء. ابن ماجه: 3500.

([15]) البخاري: 1430، 5362، ابن ماجه: 3503.

([16]) ابن ماجه: الأحكام 242 رقم 2430 وإسناده ضعيف ولكن استعمله السرخسي في المبسوط 22/39 فهو إذن حسن.

([17]) مسلم: 1014، الترمذي: 661، النسائي: 2525، ابن ماجه: 1843، الموطأ: 1806، الدارمي: 1675، أحمد: 2/331، ابن حيان: 8/109.

([18]) أبو داود: 2449، النسائي: 2345، 2420، ابن ماجه: 1707، أحمد: 5/27، ابن حبان: 8/411، البيهقي: 4/294.

([19]) ابن ماجه: 3828، أحمد: 4/267، 271.

([20]) الطبراني في الأو سط: 2490.

([21]) الترمذي: 1726 وقال: هذا حديث غريب.. وكأن الموقوف أصح، ابن ماجه: 3367، البيهقي: 10/12.

([22]) البخاري: 5076، مسلم: 1946، والنسائي: 4316، ابن ماجه: 3241، الدارمي: 7/20، أحمد: 4/86.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *