العدد 188 -

السنة السابعة عشرة – رمضان 1423هـ – تشرين الثاني 2002م

التاريخ والتوقيت وعلاقتهما بالأحكام الشرعية

التاريخ والتوقيت

وعلاقتهما بالأحكام الشرعية

 

عن سهل بن سعد قال: ما عدُّوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته ما عدُّوا إلا من مقدمه المدينة. أخرجه البخاري. أخرج الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان التاريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها ولد عبد الله بن الزبير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الجوهري: التاريخ تعريف الوقت. قال في اللسان: التوقيت تحديد الأوقات وقال الشافعي في الأم: والموقوت والله أعلم الوقت. والتاريخ في دولة الخلافة هو التاريخ الهجري، ويبدأ في السنة التي قدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كما دل عليه حديث سهل وحديث ابن عباس.

         وقد انعقد إجماع الصحابة على هذا. وممن حكى هذا الإجماع النووي في تهذيب الأسماء والصفات قال: “فصل في بدء التاريخ الهجري: ابتدأ التاريخ في الإسلام من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وهذا مجمع عليه”، وممن حكى هذا الإجماع أبو الزناد نقله عن الواقدي كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية.

         قال: “وقال الواقدي حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه قال: “استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة”، وممن حكى الإجماع محمد بن سيرين ذكر ابن كثير في المصدر السابق عن أبي داود الطيالسي عن قرة ابن خال الدوسي عن محمد بن سيرين قال: “قام رجل إلى عمر فقال أرّخوا، فقال: ما أرّخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر: هذا حسن فأرخوا، فقالوا من أي السنين نبدأ؟ قالوا من مبعثه وقالوا من وفاته، ثم أجمعوا على الهجرة. ثم قالوا وأي الشهور نبدأ، قالوا رمضان ثم قالوا المحرم فهو مصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم”.

         وأخرج الحاكم وصححه عن سعيد بن المسيب قال: “جمع عمر الناس فسألهم من أي يوم يكتب التاريخ؟ فقال علي بن أبي طالب: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أرض الشرك ففعله عمر رضي الله عنه“.

         والسنة شرعاً اثنا عشر شهراً، قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة]. وروى البخاري عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان” .

         وأشهر السنة الهجرية تبدأ بمحرم بدليل الإجماع الذي نقله الطيالسي عن محمد بن سيرين المذكور آنفاً وفيه “فاجتمعوا على المحرم” وسماه الشعبي اتفاقاً أخرج بن حجر في الفتح عن الحاكم عن الشعبي: “أن أبا موسى كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ فجمع عمر الناس، فقال بعضهم أرخ بالمبعث وبعضهم أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها وذلك سنة سبع عشرة. فلما اتفقوا قال بعضهم ابدأوا برمضان فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم فاتفقوا عليه”. وقد فسر ابن عباس قوله تعالى: (وَالفَجْرِ) الذي يرويه البيهقي في الشعب وسعيد بن منصور في السنن وقال عنه السيوطي في تدريب الراوي بسند حسن ولفظ سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى (وَالفَجْرِ)، قال: “الفجر شهر المحرم وهو فجر السنة”. وروى القرطبي عن قتادة قال: هو فجر أول يوم من المحرم منه تنفجر السنة.

         والأشهر الهجرية هي محرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الثاني، وجمادى الأولى، وجمادى الثانية، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

         والشهر تسع وعشرون ليلة وإلاّ فثلاثون لا يزيد بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين”. وتعرف بداية الشهر برؤية الهلال بالعين المجردة لقوله: “فلا تصوموا حتى تروه”. وفي رواية مسلم “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم عقد إبهامه في الثالثة فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين“، والضربات الثلاث باليدين تساوي ثلاثين فإذا أنقصنا الإبهام من الثالثة كان الشهر تسعاً وعشرين كما في حديث البخاري. ويكون ثبوت رمضان برؤية هلاله وثبوت شوال برؤية هلاله، وكذلك سائر الأشهر. وتكون الرؤيا بالعين المجردة لا بالحساب ولا بالآلات، وقد حكى ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم الإجماع على ذلك حيث قال: “وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون إلا من شذَّ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تقام بالرؤية عند إمكانها لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى”. وهذا الإجماع الذي يحكيه ابن تيمية يشمل إجماع الصحابة وهو الذي يعتبر حجة.

         ومعرفة بداية الشهر فرض لتعلق الأحكام بها من صوم وحج وجزية. أما الصوم والحج فواضح، وأما الجزية فإنه لو دخل مستأمن إلى دار الإسلام في الأول من محرم وأقام فيها إلى الأول من محرم الذي يليه ضربت عليه الجزية بخلاف ما لو خرج في نهاية ذي الحجة قبل رؤية هلال محرم.

         ومعرفة أيام الأسبوع فرض لأنها يتعلق بها أحكام منها ما هو واجب ومنها ما هو مندوب كصلاة الجمعة وتحري ساعة الاستجابة في يومها والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وقراءة سورة الكهف للنجاة من فتنة الدجال، وصوم الاثنين والخميس وغيرها. فمعرفة أيام الأسبوع واجبة كمعرفة شهور السنة لتعلق الأحكام بها ومنها ما هو واجب، ولذلك كانت المعرفة واجبة من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

         ومعرفة اليوم والليلة واجبة لتعلق الأحكام بها، وبعض هذه الأحكام واجب كصوم أيام رمضان والوقوف بعرفة وبعض أعمال يوم النحر للقاعدة السابقة.

         واليوم لغة كما قال في اللسان “مقداره من طلوع الشمس إلى غروبها “، لكنه شرعاً من الفجر إلى الغروب فهو من المنقول، والمنقول هو بداية اليوم أي النهار نقلت بدايته من الشروق إلى الفجر، أما نهايته فهي هي لغة وشرعا وهي الغروب. وأما الليلة فتبدأ من الغروب وتنتهي بالفجر.

         وليلة كل يوم تكون دونه أي قبله بدليل حديث حذيفة المتفق عليه وفيه “… قلنا لحذيفة أكان عمر يعلم الباب؟ قال نعم كما يعلم أن دون غد ليله” وحديث علي عند عبد الرزاق وفيه “… ولأن كنت رأيتهما يفعلان ذلك فإنهما ليعلمان أن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على صلاة التطوع كما يعلمان أن دون غد ليله” وكلمة “ليله” مضاف ومضاف إليه، فالهاء مضاف إليه وهي ضمير عائد على غد، وليست تاء مربوطة أصلية، فكل غد دونه أي قبله ليله، وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: (ولا الليل سابق النهار)  [يس/40] لأن معنى الآية أن الليل لا يفوت النهار حتى يدركه ولكلٍّ حد لا يعدوه ولا يقصر دونه فلا يأتي الليل قبل انقضاء النهار، ومعرفة ليلة كل يوم تتعلق به أحكام كالليالي البيض وليلة النصف من شعبان والتراويح وقراءة الكهف ليلة الجمعة، قال الشافعي: وأحب قراءة الكهف ليلة الجمعة ويومها لما جاء فيها. فليلة الجمعة هي الليلة التي دون يوم الجمعة أي قبله، وليلة العيد هي الليلة التي دون يوم العيد أي قبله. أما عند الغربيين فليلة اليوم هي التي تأتي بعده لا قبله، فليلة الجمعة عندهم هي ليلة السبت عندنا وهكذا.

         وتقسيم الليل والنهار إلى ساعات ودقائق من المباحات، ولو أنَّ المواقيت الشرعية للعبادات لم تقدر في النصوص بالساعات والدقائق بل قدرت بالأهلة وأحوال اليوم كالفجر والشروق والزوال والظل والغروب والشفق، لكن قد يتعلق بها بعض الأمور الإدارية كالتوقيت في الدوائر والمؤسسات والمدارس والمصانع لضبط الدوام، فيكون من الجائز تقسيم اليوم والليلة إلى ساعات. وهناك أمور أدق تتعلق بالعلوم والصناعات تحتاج إلى ضبط أدق لكنها لا تخرج كلها عن كونها إدارية أو علمية لا علاقة لها بالشرع وتبقى من المباح إذ ما حاجة أهل كابل وسمرقند أو القيروان وغرناطة إلى توقيت مكة في عباداتهم ومعاملاتهم، أعني التوقيت بالساعات والدقائق. ولذلك وجدنا الشرع ربط الأوزان بوزن أهل مكة وربط المكاييل بكيل أهل المدينة في الحديث الصحيح، وربط بداية الشهر بمطلق الرؤية، ولكنه لم يضبط أو يوحد التوقيت بالساعات والدقائق. فحيثما كانت هناك حاجة للتوحيد وضع له ضابطاً شرعياً.

         وحديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الليل والنهار أربع وعشرون ساعة“. هذا الحديث قال فيه ابن الجوزي في العلل: هذا حديث لا يصح. قلت: لم تسلم كل طريق من طرقة من مقال. على أننا لو شئنا أن نحدد الساعة الأولى والثانية والثالثة إلى الرابعة والعشرين، فإننا نحتاج إلى ساعة ابتداء تكون الأولى وساعة انتهاء تكون الأخيرة، وذلك لحاجات الناس الإدارية فبناءً على أن الليل قبل النهار كما سبق فإنه يمكن أن تجعل بداية الليل هي بداية التوقيت وآخر النهار نهايته.

وإن شئنا أن نحدد خطاً وهمياً يسمى خط الصفر مكان غرينتش فإنه يمكن أن يكون مكة، أي الخط المار بمكة لأنها أول بقعة تَسحّب عنها الماء، ومنها مدت الأرض، أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ثم مدّت منه الأرض…“.

         ورواه الحاكم موقوفاً عن ابن عباس وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، فيمكن أن تكون مكة خط الصفر وعلى كل مدينة أو مكان على وجه الأرض أن يراعوا الفروق، لأن التوحيد في التوقيت غير ممكن وغير مطلوب شرعاً، فيما يتعلق بالساعات والدقائق، لكنه يبقى من المباحات .

ع.ع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *