العدد 182 -

السنة السادسة عشرة – ربيع الأول 1423هـ – أيار وحزيران 2002م

العربية بين الأمس واليوم

العربية بين الأمس واليوم

 لم تلق لغة من التشريف والتكليف والتكريم ما لقيته لغتنا العربية. فيكفيها شرفاً وتكريماً أن الله سبحانه وتعالى اختارها لتكون لغة قرآنه، ووعاء دينه الذي أنزله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الاختيار اختيار عليم خبير، فهو يعلم أي اللغات أقدر على أداء هذه المهمة الجليلة العظيمة، فاللغة العربية غنية عن البيان بما لها من خصائص ومميزات تجعلها في طليعة لغة البشر قاطبة، فهي لغة الجمال الخارجي بتنوع خطوطها ورسمها، ولا أتصور أن أحداً يطلع على رسمها وخطها ولا يعجب به سواء أكان أعجمياً أم عربياً، وكذلك هي لغة الجمال الداخلي ببلاغتها، التي بهرت ألباب أصحاب الفصاحة والبيان عندما نزل القرآن الكريم بثوب هذه اللغة الجميلة، وما أشد تأثيره في نفوسهم عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو على مسامعهم بعض الآيات، وقد عبر الوليد بن المغيرة عن ذلك بقوله: «إن به لحلاوة، وإن عليه لطلاوة…». واللغة العربية لغة شعرية ذات إيقاع وجرس متميزين، لما لدى حروفها من صفات كالجهر والهمس والتدقيق والتفخيم والمد وغيرها، تجعل أذن السامع تستلذ بسماعها وتتفاعل معها. فكيف بنا ونحن في هذه الأيام  أشد ضعفاً، لغةً وبلاغةً لا نبهر بها!

          هذا وقد بقيت اللغة العربية تتمتع بالاهتمام والتقدير والتكريم طيلة المدة التي كان فيها المسلمون في القمة، فهي عندهم اللغة الرسمية، لا يكتب إلا بها في دواوين الدولة، ولا يتحدث إلا بها ولا يؤلف إلا بها، وهي لغة الاجتهاد الشرعي الذي يعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعية وفي فهم النصوص الشرعية أيضاً. ولكن وللأسف، حين نزل المسلمون عن القمة، أنزلوا لغتهم معهم، وفقدوا ثقتهم في كل شيء حتى في لغتهم لغة التراث التليد، ولم يأت هذا من فراغ، أو برمية غير رامٍ، وإنما بتخطيط وتدبير أعداء الإسلام الذين شنوا حملتهم الفكرية الدعائية المغرضة على الإسلام ولغته، ليقنعوا أبناء الإسلام بضرورة فصل الدين عن اللغة العربية التي لا يفهم الدين إلا بها، وبضرورة البحث عن لغة أخرى تواكب روح العصر والتقدم، فكانت هذه الضربة التي أفقدت الإسلام حيويته، وأقعدت اللغة، فأصبحت كالشاة الجرباء التي يجب أن تعزل حتى لا تنقل عدواها إلى بقية القطيع، ولم تقف الهجمة الشرسة على اللغة العربية عند هذا الحد من التنظير والكلام بل وصلت إلى المناهج العقيمة في تدريس اللغة عن العلوم الأخرى، وعدم إعطاء تدريسها الوقت الكافي، والأهم من ذلك عدم ربط تدريسها بكتاب اللغة العربية الأول ألا وهو القرآن الكريم، كي لا تأخذ العربية سبيلها إلى نفوس المسلمين، إضافة لتجاهل الحديث بها في المؤسسات التعليمية والندوات والمحاضرات.

          وهكذا أهملت لغة القرآن على أيدي أبنائها الذين وقعوا في شَرَكِ الكافر المستعمر، فعقُّوا فضلها، وقدرها، ومكانتها، وأصبح الواحد منهم يتباهى أمام الآخرين بإتقان لغة أخرى كالإنجليزية، أو الفرنسية، أو غيرها. في حين يخجل هذا أن يتكلم بلغة قرآنه التي اختارها الله عز وجل لتكون لغة أهل الجنة، ومن قبل لتكون لغة أهل الأرض مخافة أن يعير بالتخلف والرجعية وعدم مواكبة تطور الحياة. ومن الطبيعي بعد هذا، أن يرى أبناء الأمة من الناشئة وغير الناشئة لغتهم الأم غريبة عنهم، وغير صالحة لزمانهم، وهي سبب تخلفهم، وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:

رَجَعْتُ لِنَفْسِي فَاتهَمْتُ حَصَاتِي
رَمَوْنِي بِعُقْمٍ في الشَّبَابِ وَلَيْتَنِي
وَلَدْتُ وَلَمّا لَمْ أَجِدْ لِعَرَائسِي
وَسِعْتُ كِتَابَ اللّهِ لَفْظاً وَغَايَةً
فَكَيْفَ أَضِيقُ اليَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ

وَنَادَيْتُ قَوْمِي فَاحْتَسَبْتُ حَيَاتِي
عُقِمْتُ فَلَمْ أَجْزَعْ لِقَوْلِ عُدَاتِي
رِجَالاً وَأَكْفَاءً وَأَدْتُ بَنَاتِي
وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بهِ وَعِظَاتِ
وَتنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ؟

          والحقيقة التي لا ينكرها أحد، أن ولاة أمور المسلمين كانوا يمتعضون أشد الامتعاض عندما كان يلحن أحد الرعية في قوله أمامهم، والشواهد على ذلك كثيرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم القدوة كان عندما يتكلم أحد أمامه فيلحن، يقول لأصحابه أو لمن حوله: «أصلحوا لسان أخيكم». وكذلك مما ورد عن عمر بن الخطاب t أنه كان يقول: لأن يخطئ أحدكم في رمية أهون من أن يخطئ في لسانه. فهذه الشواهد وغيرها الكثير إن دلت على شيء فإنما تدل على اهتمام الدولة الإسلامية بإصلاح ما كان يفسد من اللسان عند رعيتها، لإدراكها مدى خطورة هذا الفساد على الإسلام وعلى الأمة الإسلامية. وأما حكام اليوم فقد أوكلوا هذه المهمة لما اصطلحوا على تسميته بمجامع اللغة العربية، التي كانت بدورها تلعب دور المفرق لا المجمع فلم تنتج شيئا يذكر في خدمة هذه اللغة الجليلة، وواقع هذه اللغة العربية اليوم أنها ليست بحاجة لجهود العلماء المخلصين والمجتهدين ليقوموا بعملية تعريب أسماء المخترعات والآلات لتدخل العربية وتدرج ضمن أوزانها، وهذا الأمر وغيره لا يمكن أن يكون بالصورة المطلوبة إلا في ظل دولة الإسلام التي ستتبنى خطة مدروسة للنهوض باللغة العربية لغة القرآن الكريم لتعيدها إلى المكانة التي تليق بها كلغة لخير دين ارتضاه الله عز وجل للبشرية جمعاء، وما ذلك على الله بعزيز .

محمد الفقيه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *