شَيْءٌ مِنْ فِقْهِ اللُّغَةِ
2020/05/30م
المقالات
2,582 زيارة
شَيْءٌ مِنْ فِقْهِ اللُّغَةِ
التغليب
إن ألفاظ العموم تشمل جميع الأفراد المندرجة تحت جنسها، إلا أن العرب في حالات معينة استعملوا ألفاظ عموم لتشمل أفراداً أخرى لعلاقة بينهما بينوها في لغتهم وهذا ما يسمى (التغليب).
وباستقراء استعمالات العرب للتغليب في لغتهم يتبين أن هذا يتم في الحالات التالية:
تغليب اللفظ المذكر ليشمل المؤنث أي عموم لفظ الرجال ليدخل فيه النساء، فإذا خوطب الرجال والنساء بفعل لهما خوطبوا بلفظ المذكر كقوله تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) [آل عمران] فهي تشمل كذلك أولات الألباب. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) [البقرة/278] فهي تشمل كذلك اللائي آمنّ:
أ. فإذا كان الخطاب بفعل خاص بالرجال بقرينة فعندئذٍ لا تغليب كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) [الجمعة/9].
فالخطاب هنا (الذين آمنوا) ، (فاسعوا إلى ذكر الله) لا تغليب فيه لأنّ صلاة الجمعة فرض على الرجال فقط فتصرف (الذين ) كما هي للرجال و (فاسعوا) كذلك كما هي للرجال.
ب. وإن كان المقصود من الخطاب التنصيص على إبراز تعلق الحكم بالمرأة بنفس درجة تعلقه بالرجل لإزالة الالتباس فلا تغليب، ويفرد لكل منهما خطاب كاللاتي سألن الرسول صلى الله عليه وسلم عن تغليب خطاب الأحكام للرجال فلعلهنّ أقل أهمية فنـزلت بعض آيات بالتنصيص عليهن لإزالة هذا الالتباس وإبراز دورهنّ، كقوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) [آل عمران] وقوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) [الأحزاب/35] الآية وكقوله تعالى: (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً) [الحديد/18] الآية… هذا التنصيص على إبراز تعلق الحكم بالمرأة بنفس درجة تعلقه بالرجل من حيث المدح.
وقد يكون لإبراز تعلق الحكم من حيث الذمّ كقوله تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم) [التوبة/68] وقوله جل جلاله: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) [الفتح/6].
-
تغليب خطاب العاقل على غير العاقل إذا خوطب العقلاء وغير العقلاء كقوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) [الإسراء/67] فهم كانوا يدعون أصناما آلهة وغير أصنام عقلاء وغير عقلاء، فتمّ تغليب خطاب العاقل (من) لإبراز أن ما يزعمونهم آلهة يعبدونهم لن ينفعوهم في ذلك الموقف ولن يستجيبوا لهم حتى لو كانوا عقلاء، فكيف تنفعهم أو تستجيب لهم الأصنام الجامدة التي يعبدونها؟ وذلك للتأكيد على أن الله وحده هو الإله الخالق الذي لا شريك له والذي يستجيب دعوة الداعي إذا دعاه وأن غيره مخلوق له سبحانه. وكقوله تعالى: (وربك أعلم بمن في السموات والأرض) [الإسراء/55] في السموات والأرض العاقل وغير العاقل واستعمل خطاب العاقل (من) التي هي للعاقل:
أ. فإذا كان وجود العاقل مع غير العقلاء غير مؤثر في الحكم أي كان كأنه غير موجود معهم فلا تغليب للعاقل بل الخطاب لغير العقلاء، قال تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) [الأنبياء/98] وهم كانوا يعبدون الأصنام وكذلك يعبد بعضهم عيسى بن مريم – عليهما السلام – ولكنهم كانوا يعبدون عيسى بن مريم دون رضاه ودون استطاعة منعهم من ذلك، فسلط الخطاب على غير العقلاء باستعمال (ما) ولذلك فإن (الزِّبَعرى) لما احتج على رسول الله أن هذا يشمل عيسى كذلك فكيف يكون في النار نزلت الآية باستثنائه: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) [الأنبياء] مما يعني أن (ما) في الآية الأولى وهي لغير العاقل في اللغة استعملت من باب التغليب لتشمل عيسى – عليه السلام – وهو من العقلاء، ولهذا أصبح تخصيص عموم (ما) في الآية الأولى، وهذا هو المعنى الراجح لاستعمال (ما) في الآية المذكورة. وأما القول بأن (ما) لغير العاقل هنا دون تغليب فهو قول مرجوح لعدم الحاجة في هذه الحالة لاستثناء عيسى – عليه السلام – في الآية الثانية.
ب. وإن كان اعتبار العاقل كأنه غير موجود ليس لأنه غير مؤثر بل لأن مقصود الخطاب إبراز قلة حجمه بالنسبة لغيره من المخلوقات غير العاقلة، فلا تغليب حينئذٍ للعاقل، بل الخطاب لغير العقلاء، كقوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض) [آل عمران/109] فاستعملت (ما) وهي لغير العاقل لأن المقصود أن مخلوقات الله غير العاقلة الخاضعة لله جل جلاله كثيرة جداً بالنسبة إلى العقلاء.
وكذلك قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض) [الجمعة/1] أي أن الذين يسبحون الله وينـزهونه ويخضعون له جل جلاله من مخلوقات الله غير العاقلة في ملكوته هم كثرة كاثرة بالنسبة للعقلاء والمكلفين تهويناً لشأن غير المسبحين الله منهم.
ج. كذلك إذا كان العاقل مجهولاً في صفته وماهيته عند المخاطِب أو المخاطَب أو أراد المخاطِب أن يبحثه ابتداء كما لو كان مجهولا، فإن أسلوب المخاطب غير العاقل يستعمل معه، فالعرب تقول عند رؤيتها شيئا يتحرك نحوها من بعيد مجهولاً في صفته وماهيته (ما هذا) وهكذا عند سؤالهم عن مجهول في الصفة والماهية:
-
قال تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) [الفرقان/60].
-
قال تعالى: (قال فرعون وما رب العالمين) [الشعراء].
-
قال تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) [البقرة/228].
-
قال تعالى: (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي) [البقرة/133].
فأراد يعقوب – عليه السلام – أن يبحث موضوع الخالق المعبود ابتداءً كما لو كان غير معلوم للمخاطب ليبين أن الإنسان بفطرته وعقله يستطيع التعرف على خالقه والإيمان به دون أن ينقل ذلك نقلاً عن غيره.
د. فإذا سلط الخطاب على العاقل من حيث الحلّ والحرمة كشيء من الأشياء فإن خطاب غير العاقل يستعمل مثل:
-
قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) [النساء/3].
-
قال تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) [النساء/24].
-
قال تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) [النساء/22].
باستعمال (ما) التي هي لغير العاقل.
-
تغليب صفة العاقل:
فإذا وصف غير العاقل بصفة العقلاء فإن خطاب العاقل هو المستعمل بسبب تغليب الصفة، قال تعالى: (إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) [يوسف]. فقد استعملت (رأيتهم) في الآية الكريمة وهي للعقلاء بدلاً من (رأيتها) وهي لغير العقلاء، وذلك بسبب وصف القمر والشمس والكواكب بصفة ظاهرها في العقلاء (ساجدين) ومن باب تغليب صفة العقلاء استعمل خطاب العقلاء (رأيتهم) بدلاً من (رأيتها) لغير العقلاء.
ومثال آخر:
-
قال تعالى: (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون) [الأنبياء] فالسؤال والنطق صفة للعاقل، فغلّب خطاب العاقل بدل خطاب الأصنام غير العاقلة فجاء في الآية الكريمة (كبيرهم) للعاقل وليس (كبيرها) لغير العاقل، وكذلك (فسئلوهم) بدل (فاسألوها).
ملاحظة:
كما استعملت العرب التغليب في صيغ العموم – كما بيناه – فقد استعملته كذلك في ألفاظ الخصوص والذي سمي بتغليب المثنى.
فقد استعملوا تثنية لفظ مفرد ليدل على هذا المفرد ومفرد آخر ليس من جنسه ولكن بينهما علاقة فقالوا (القمران) وأرادوا الشمس والقمر، و(الأبوان) وأرادوا الأب والأم.
كذلك استعملوا تثنية صفة لتشمل مشتركين بها فقالوا (الأخشبان) لجبلي (أبي قيس وقعيقعان) في مكة لصلابتهما، وقالوا (الأسودان) للتمر والماء، وكذلك للعقرب والحية .
2020-05-30