العدد 178 -

السنة السادسة عشرة ذو القعدة 1422هـ – شباط وآذار 2002م

نظرة على أحداث الحادي عشر من أيلول: ما قبلها وما بعدها

(نص محاضرة ألقيت في ندوة أقامتها «كتلة الوعي» في جامعة بوليتكنك فلسطين في الخليل في 19/11/2001)

بدأت زعامة أميركا للغرب وقيادتها له تهتز بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فأميركا كانت زعيمة حلف الأطلسي وقائدته، وكان لهذا الحلف خصم هو الفكرة الشيوعية والدول الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي… فلما سقطت الشيوعية ونبذها أهلها، بدأت تتكون تساؤلات جدية في أوروبا عن المبرر لبقاء الحلف خاصة وأن أميركا تتخذ منه أداة لتحقيق مصالحها وفرض إرادتها على أوروبا.

كما أن من برنامج الحلف وأهدافه ضم دول أوروبا كلها إذا وفت بالشروط، فالحلف آيل إلى أن يضم دول أوروبا كلها وربما ضم روسيا نفسها في وقت لاحق، قال فلاديمير بوتين في الأسبوع الأخير من شهر أيلول “لم يعد هناك سبب لدى الغرب يمنع من إجرائه محادثات مع روسيا من أجل عضويتها في الناتو”. فالسؤال الذي يفرض نفسه على أعضاء الحلف هو “من أجل ماذا كل هذا التكتيل للدول؟” إنه تكتل هائل ولا يمكن إبقاؤه متماسكاً دون خصم يستأهل هذا التكتل الدولي.

ولأجل هذا وشعوراً من أوروبا بهيمنة أميركا عليها عن طريق الحلف ـ بوصفه إحدى أدوات الهيمنة الأميركية ـ بدأت أوروبا بالعمل للاستقلال والانعتاق من أميركا في المجال الدفاعي، فبدأت العمل على إنشاء قوة أوروبية مستقلة ـ وهي التي تسمى أحياناً قوة التدخل (السريع) الأوروبية ـ ومن المقرر أن يكون قوامها ستين ألف رجل بما يلزمهم من المؤن والعتاد لخوض الحرب سنة كاملة.

وقد حاولت أميركا منع ذلك ولما لم تستطع عملت على التاثير على شكل هذه القوة ونظامها الداخلي بحيث يكون الحلف هو حجر الزاوية أو العمود الفقري في الدفاع عن الشركاء الأطلسيين.

وكان مما عمق الشرخ بين أميركا وأوروبا الميل المتنامي في أميركا إلى اتخاذ قرارات انفرادية كثيرة في السياسة الخارجية، ضاربة عرض الحائط آراء ومصالح شركائها الأوروبيين بل والعالم أجمع، ما يعني عملياً إسقاط أوروبا عن مرتبة الشريك المزعومة, فمثلاً رجعت أميركا تحت إدارة بوش الابن عن اتفاقية كيوتو بعد أن وقع عليها كلينتون علماً بأن أميركا هي أكبر مسبب للاحتباس الحراري في العالم، ولم يكن المبرر الذي أعطاه بوش للتراجع إلاّ قوله “إن هذه الاتفاقية ليست جيدة للصناعة الأميركية”. وقل مثل ذلك في مبادرة الدفاع ضد الصواريخ التي صرحت أميركا بأنها ستسير فيها بغض النظر عن كل الاعتبارات، ما يعني عمليا الانسحاب من معاهدة الصواريخ البالستية المعقودة مع الاتحاد السوفييتي المنهار, والذي يؤدي بدوره إلى فتح باب سباق عالمي جديد في التسلح. حتى إن أميركا قد قالت ذلك صراحة وليس ضمنياً فقد ورد على لسان أكثر من مسؤول منهم مستشارة شؤون الأمن القومي أن تلك المعاهدة هي “طلل من أطلال الماضي”. كما أنها رفضت أو انسحبت من اتفاقيات دولية كثيرة، فلم تقر معاهدة حظر التجارب النووية ولا المعاهدة المتعلقة بالألغام الأرضية، وانسحبت من المباحثات المتعلقة بالأسلحة والحرب الجرثومية المعقودة عام 1972، كما رفضت إنشاء محكمة جنائية دولية وعارضت ميثاقاً يضم مئة وتسعاً وثمانين دولة يتعلق بالاتجار بالأسلحة الخفيفة، وغير ذلك كثير.

ولم تبدأ هذه الانفرادية ـ أو الانعزالية كما يسميها بعض الأوروبيين ـ في عهد بوش الابن، بل بدأت قبل ذلك، ولكنها بلغت في عهد بوش الابن درجة تعالت معها أصوات الأوروبيين من شركاء أميركا، فمثلاً:

l قال وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين “إن وضع أميركا كقوة متضخمة هو وضع خطير ويمكن أن يؤدي بإدارة بوش أن تظن أن قوتها تعني أنها غير ملزمة بالتفاوض مع حلفائها”.

l وعبر الوزير الكندي للشؤون الخارجية جون مانلي عن قلق كندا بخصوص السياسة الأميركية فقال: “يجب أن نقنعهم أن الانفرادية ستؤدي في النهاية إلى المواجهة”.

وباختصار صار الحديث عن هذه الحالة حديثاً مألوفاً على ألسنة السياسيين والخبراء الأوروبيين والأميركان فتارة يصفونه بالتصدع وتارة بالفراق بين الأوروبيين والأميركان وتارة بالسير في طريق الطلاق، حتى تعالت الأصوات داخل أميركا أن عليها أن تغير نهجها في تعاملها مع حلفائها بالمشاورة ومراعاة المصالح وأن عليها أن تعاملهم بطريقة تيسر لها أن تجدهم وقت الحاجة. ولما كان هذا النهج الذي بدأت الدعوة إليه لا يكون إلاّ على حساب المصالح الأميركية لأن المشاورة وحدها لا تنفع إذا لم تأخذ أميركا بشيء منها فإن أميركا كانت في مأزق التفريط ببعض المصالح أو تآكل قيادتها لشركائها الأوروبيين.

وقد وجدت أميركا ضالتها في حادث 11/9 ـ رغم الأذى البليغ الذي أصابها منها ـ فكان الحدث لجسامته يصلح أن يستغل ليكون نقطة تحول في ترسيخ قيادة أميركا للغرب وتطوير النظام العالمي الجديد, وقد تجسد ذلك في الأمور التالية:

1)  أكملت أميركا إيجاد عدو جديد للغرب هو الإسلام، صحيح أن دول الكفر وشعوبهم كلها تعادي الإسلام ولكن الإسلام لم يكن متبلوراً كعدو سياسي للغرب، بل كان عدواً فكرياً، ولم يكن وصم الإسلام بالإرهاب قبل هذا الحدث يوجد أكثر من زيادة الكراهية للإسلام والمسلمين عند الكفار. أما بعد الحدث فقد أحس الكفار أن الخطر داهم وحقيقي وأن هذا الخطر هم المسلمون، وبرز في الحملة الإعلامية التسوية بين الإسلام والإرهاب، فلم يشمل الحديث عن الإرهاب في خضم هذه الحملة إرهاباً غير إرهاب الإسلام والمسلمين.

ويندرج تحت هذا الأمر انتشال حلف الأطلسي من حالة فقدان الهوية والهدف التي أصابته في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، فأعادت أميركا تعريف مهمة الحلف عملياً ودون إعادة صياغة لنصوص ميثاق الحلف، وعلى ذلك فقد تحول الحلف بشكل عملي ومن ثم بشكل رسمي من حلف دفاعي يستنفر في حالة اعتداء دولة على الحلف أو على إحدى دوله تحول إلى منظمة أمنية تشمل الدفاع العسكري ضد دولة أو جماعة أو فرد، كما تشمل الأعمال الوقائية والاستباقية وليس الرد على العدوان الواقع بالفعل، وتشمل الإجراءات الأمنية غير العسكرية. وبعبارة أخرى تحول الحلف من منظمة دفاعية تصد العدوان إلى منظمة أمنية تشمل كل ما يتعلق بالأمن في العالم كله وبغير قيود.

ورب سائل يسأل كيف استطاعت أميركا أن تجر معها أوروبا، بل والعالم كله في حربها هذه مع أن مصالحهم تختلف عن مصالحها والمستفيد هي وليس هم؟ كيف استطاعت أن تُفَعِّل المادة الخامسة من ميثاق حلف الأطلسي في أقل من أربع وعشرين ساعة بعد وقوع الهجوم؟ وكيف بدأت دول العالم تتسابق إلى إعلان الوقوف بجانبها؟

والجواب على ذلك أن أميركا اعتمدت في عملها السياسي هذا على فكرة ظلت تبنيها وتروج لها هي وحلفاؤها عقوداً من الزمن ألا وهي فكرة الإرهاب، والذي حصل ينطبق عليه تماماً وصف الإرهاب كما يصفونه، فظاهره عمل إرهابي هائل الحجم، ولذلك استخدمت أميركا تأصل فكرة الإرهاب ومحاربته عند دول العالم، فلم يكن من المتوقع أبداً أن يقف في وجهها أحد في هذا الأمر أو أن يتلكأ في مساعدتها بقدر استطاعته، وقد استخدمت أميركا ما يسمى بفترة “فورة الدم” لأجل وضع الخطوط الأساسية لعملها أمام العالم، فيضطر للقبول بكل ما تقول، ففعّلت الناتو وأعلنت أنها في حالة حرب وأنها ستضرب كل الدول التي تؤوي الإرهاب من الساعات الأولى للهجوم.

2)  جعلت أميركا السير معها ومحاربة أعدائها هو المعيار في منح شهادات حسن السلوك للدول، فالمقياس كما قال بوش “إما أنكم مع أميركا أو مع الإرهابيين”، فلا يوجد حل وسط ولا يوجد تصنيف ثالث. فكان هذا مدخلاً لها على دول العالم غير المتعاونة معها أو التابعة لغيرها. وينطبق هذا أكثر ما ينطبق على العالم الإسلامي ودوله. والأخطر من هذا أن أميركا تحت شعار محاربة الإرهاب أصبحت تستطيع أكثر من أي وقت مضى الاعتداء على أية دولة وضربها عسكرياً أو غير ذلك، إذا لم تف بما تريده أميركا، فحديث الساسة الأميركان عن ضرب كل الدول التي تؤوي الإرهاب ـ ولو بالشبهة ـ وحديث الناطق الرسمي الأميركي عن إنهاء دول في إطار هذه الحملة أبلغ تعبير عن هذا التوجه.

3)  باشرت أميركا العمل الجدي من أجل إقامة وجود عسكري لها في جنوب آسيا وفي آسيا الوسطى بشكل دائمي لاحتواء التصاعد الإسلامي هناك وإحكام سيطرتها على بلاد المسلمين وكذلك من أجل احتواء الصين وغيرها من دول المنطقة وتهديدها إن لزم الأمر، زد على ذلك قصقصة النفوذ الروسي في تلك المنطقة، ولا يقتصر وجودها هناك على الأهداف العسكرية والسياسية ـ رغم أولويتها ـ بل يشمل كذلك الناحية الاقتصادية المتمثلة في نفط حوض قزوين. أما كون أميركا تسعى لإقامة وجود دائمي لها هناك فظاهر في قولها منذ اللحظات الأولى للهجوم حيث أجمع الساسة الأميركان في تصريحاتهم على أن حملتهم ستستغرق سنوات طويلة.

أما أثر هذه الحملة بشكل عام فيتلخص في أن العالم سيسير مع أميركا مكرهاً حتى حين وستعربد أميركا فترة من الزمن، ولكن هذا لن يطول بإذن الله، فقيادة أميركا للعالم من أجل محاربة الإرهاب ستضعف بمرور الوقت خاصة أن الإرهاب ليس جهة مشخصة وليس له عنوان ولا يحمل فكرة عن الحياة يريد أن ينشرها. وإن اشتداد قبضة أميركا على دول العالم وخاصة الدول ذات الوزن والتأثير سيجعل من التمرد على أميركا حاجة ماسة، فالعقلية الأميركية التي تنظر إلى العالم كمزرعة لم تتغير بل ربما ازدادت قبحاً وأنانية وعربدة خاصة في عهد الرئيس الحالي.

إن حلفاء أميركا لا يجمعهم معها سوى عدائهم للإسلام والمسلمين، فهذا العداء لا يختلف عليه كافران، ولكن هذا لا يكفي لجعل مصالحهم السياسية واقتسامهم للمنافع يسير بشكل آلي بل إن بأسهم بينهم شديد، ومبدؤهم ليس كمبدأ الإسلام يجمع العربي والأعجمي والأحمر الأسود من الناس أخوة في الله، حربهم واحدة وسلمهم واحد. بل لا يجمعهم إلا المصلحة فإذا اختلفت المصالح صار لا بد من الضغط والتهديد، قال جورج بوش “في حرب الإرهاب هذه، يتعين على كل منا أن يكون مسؤولاً عما فعله أو لم يفعله. بعد وقوع أي فاجعة، هناك وقت للمواساة والعزاء. وإن بلادي ممتنة لما تلقته من تلك المشاعر. إن الاحتفالات التذكارية والتعازي التي شملت مختلف أنحاء العالم لن تنسى. غير أن زمن المواساة مرّ وفات، وجاء الآن وقت العمل. وقال “سأوجه تنبيهاً إلى كل أمة بأن تلك الواجبات تشتمل على أكثر من مجرد التعبير عن التعاطف ومجرد الأقوال. لا يمكن لأي أمة أن تكون محايدة في هذا النـزاع لأنه لا يمكن لأي أمة متمدنة أن تكون آمنة في عالم يتهدده الإرهاب.” وبعد هذه العبارات التي يظهر فيها التهديد وافقت فرنسا على إرسال مائتي جندي ولكنها اشترطت أن يكون لها دور في اتخاذ القرارات العسكرية”، بينما تذمر الرئيس الفرنسي من أن الطلب جاءه من رئيس الأركان الأميركي مع أنه كان مع الرئيس بوش الذي لم يحدثه في هذا الموضوع.

وإن ظهور الدعوات الكثيرة في أوروبا وغيرها إلى إزالة المظالم السياسية والاقتصادية وأسباب الإرهاب في العالم، وإظهار وسائل الإعلام غير الأميركية المفارقات في الحزن نفاقاً على أموات أميركا وغض الطرف عن ملايين القتلى في العالم الإسلامي خاصة وإن أميركا مسئولة مباشرة أو غير مباشرة عن قتل هؤلاء يدل على أن هذه الموجة من العربدة الأميركية إلى زوال.

أما أثر هذه الهجمات والحملة التي تبعتها على المسلمين فهي أهم ما يعنينا ويمكن تلخيصها فيما يلي:

1)  ظهر للمسلمين الذين ظنوا أن أميركا قدراً لا يرد، أنها ليست كذلك بل ظهر أنه يمكن المس بها وإيذاؤها وضربها ضرباً شديداً مؤثراً إذا وجدت النية لذلك. وكان للأعمال السابقة مثل ضرب المدمرة كول ـ رمز التكنولوجيا العسكرية الأميركية والمصممة للدفاع ذاتياً عن نفسها ـ أثر في بدء البعض بتصور إمكانية ذلك. وهذا من شأنه أن يجعلهم يتفاعلون مع الدعوة والعمل الجاد لطرد أميركا من بلاد المسلمين. فمشكلة كثير من المسلمين هي اليأس الناتج عما يصوره الإعلام من أن خوض مواجهة مع أميركا أمر محكوم عليه بالفشل الحتمي، ولكن ضرب المدمرة كول وضرب أبراج نيويورك والبنتاغون وموجة الأنثراكس أظهرت للقاصي والداني أن صورة أميركا التي يرسمها الإعلام هي صورة غير حقيقية. يقول الأميركان إن التخطيط لعملية البرجين دام ثلاث سنوات فأين كانت المخابرات التي تدعي أنها تراقب النمل في كل أرجاء الأرض، ويقول الأميركان إن لديهم قوات جاهزة للتحرك إلى أي نقطة في العالم خلال خمس عشرة دقيقة للقيام بأية عملية تتعلق بالأمن الأميركي فأين كانت هذه القوات والطائرات عندما حلقت الطائرات المخطوفة خمساً وأربعين دقيقة في عقر دارها, ولا نريد الخوض في شواهد فهي كثيرة مثل الرجل المسؤول عن مكافحة التجسس الذي تجسس سنوات طويلة لصالح روسيا ولا تموثي ماكفي وجماعته.

2)  عاد الشعور بالهزيمة إلى الشعب الأميركي بعد أن محته حرب الخليج الثانية، فعقدة فيتنام زالت أو تكاد من نفسية الشعب الأميركي، صحيح أن الهجمات هي من صنف مختلف عن وضع فيتنام ولكن الصدمة الهائلة المركزة فعلت الفعل نفسه. وهذا شيء يمكن البناء عليه، فالمهزوم يتحمل هزيمة أخرى، خاصة إذا لم يكن يحمل فكرة عن الحياة تناقض الهزيمة ولا تستطيع العيش معها. ومن تنـزل به هزائم متلاحقة تصيبه المناعة ضد الهزائم فيتأقلم معها. نقول إنه يمكن البناء على هذه الحالة النفسية عند الأميركان فيمكن ابتداءً طرد أميركا من بلاد المسلمين من الخليج وغيره ويمكن منعها من أن تستقر في جنوب آسيا ووسطها.

3)  برزت وحدة الأمة وهويتها بروزاً واضحاً ساهمت فيه الأحداث ونطقت وقالت للمسلمين أنتم أمة من دون الناس، أنتم أمة واحدة والكفار المستعمرون أعداؤكم وهم يحقدون عليكم ويريدون القضاء عليكم وعلى دينكم وهم يحتقرون دينكم ويحتقرونكم لأجل أنكم مسلمون. فمن كان يكابر وينكر أن العداء بيننا وبين الكفار عداء مبدئي: إسلام وكفر قد سمع رئيس أميركا يقول للعالم إن هذه حرب صليبية وسمع رئيس وزراء إيطاليا يقول لهم “إن قيم الحضارة الغربية أسمى من قيم الإسلام”.

كما فرضت طريقة معاملة الكفار في أميركا وأوروبا للمسلمين. فرضت على المسلمين الشعور بأنهم ليسوا جزءاً من تلك الشعوب، وإن حملوا تابعيتها وأقاموا فيها وتزوجوا وعملوا وتنازلوا عن شيء من دينهم وعاشوا حسب طريقتهم، فالاسم وحده أو اللون وحده كاف ليضع صاحبه على قائمة الإرهابيين الأعداء.

ولقد سمعنا لأول مرة منذ هدم الخـلافة الأخبار في وسائل الإعلام الرسمية ـ وبغض النظر عن الأسباب السياسية لذلك ـ تتحدث عن الإسلام والكفر والمسلمين والكفار وكون الجهاد فرضاً على المسلمين إذا اعتدي على واحد من أقطارهم، ومجرد صيرورة هذه العبارات والمعاني موضع النقاش والتداول على مستوى الأمة يساهم إسهاماً كبيراً في استعادة الأمة لهويتها. إن الله قد من على أمة الإسلام أن صارت هذه العبارات جزءاً بديهياً وطبيعياً من قاموس الحديث اليومي عند الخاصة والعامة.

لقد أرادت أميركا أن تؤلب الغرب الكافر بل العالم كله على الإسلام والمسلمين بوصفهما العدو الجديد للحضارة الإنسانية، ولكنها خشيت أن تُظهر للمسلمين أنها تعادي الإسلام صراحةً، فهي تعرف معنى استفزاز الأمة في دينها. فالأمة الإسلامية تختلف اختلافاً جذرياً عن الشيوعيين الذين لم تتورع أميركا أن تعلن للعالم كله والشيوعيين معه أنها تريد أن تقضي على الشيوعية لأن الشيوعية نظام فاسد وشرير، لقد شن الأميركان ومعهم الأوروبيون جميعاً حرباً لا هوادة فيها على الشيوعية بالاسم وألفت الكتب والمقالات الكثيرة وخطب السياسيون آلافاً من الخطب ضد الشيوعية كمبدأ وطريقة حياة، وأطلق عليها رونالد ريغان “إمبراطورية الشر”. نعم أميركا لا تجرؤ أن تقول للمسلمين مثل هذا ولا شيئاً يشبهه. ولذلك حاولت أن تغلفه بالهجوم على الإرهاب، وحاولت جاهدة التمييز بين نوعين من الإسلام: نوع حقيقي مسالم متعايش مع الحضارة ونوع ممسوخ شوهه الإرهابيون ليخدم مصالحهم. حسب زعمها.

ولكنها لم توفق في ذلك، بل ظهر الحقد الدفين الأعمى في أعمالهم وأقوالهم (قد بدا البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) (آل عمران).

مما اضطر جورج بوش أن يخاطب الشعب الأميركي بأن العدو ليس الإسلام ولا المسلمين المتحضرين، وتحدث في ذلك في أكثر من مناسبة وزار بعض المراكز الإسلامية والمساجد في محاولة يائسة لإصلاح الضرر الذي حصل، كما قام غيره بخطوات مشابهة وكان منها المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي عقد في روما ودعي إليه مشايخ من المسلمين. وصار من المألوف الحديث عن تجنب صراع الحضارات والحرب الدينية.

4)  أبرزت الأحداث فساد النظام الرأسمالي بشكل ملموس وكبير، فلم تستطع أميركا وأوروبا أن تحمي أمنها إلاّ بالخروج على المبدأ القائل بالحريات، فلم يعد وجود للحريات ولم يعد هنالك سلطة للقانون، بل صارت الدول الغربية لا تجد بداً من المراقبة والتجسس العلني والتدخل في حرية الصحافة والسجن دون اتهام. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد ظهرت هشاشة الاقتصاد الرأسمالي، فحادث طائرة كان مرشحاً لأن يودي بالاقتصاد العالمي لولا أن تداركته الدول بالدعم بالأعمال الاستثنائية وتدخل البنوك المركزية ودعم الشركات التي أفلست أو صارت على حافة الإفلاس. ولقد سمعت في الغرب كله أصوات تتحدث عن إعادة النظر في النظام الاقتصادي الغربي. ولن يتوصل هؤلاء بالطبع إلى التغيير الكلي في نظامهم، بل سيكون عملهم محصوراً في دائرة التجميل والتعديل في نظامهم، أما النظام الصحيح الذي يشعرون بالحاجة الماسة إليه فإنه ستحمله إليهم طلائع الفتح الإسلامي منفذة مهمتها في العالم وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور.

5)  لقد وضعت الحملة الإعلامية الضخمة عقبات جديدة أمام الدعوة إلى الإسلام عند الكفار وصار لا بد من بذل مجهود أكبر من أجل محو آثار هذه الحملة والتضليل، والملاحظ أن دول الكفر كلها شاركت في الحملة الإعلامية ضد الإسلام وكأنها تقوم بحركة استباقية في شعوبهم من أجل أن يصموا آذانهم أمام دعوة الإسلام التي يشعر الغرب أنها ستحمل إليهم وإلى شعوبهم بين عشية وضحاها. وإن عبارة برلسكوني التي طمأن بها الشعوب الأوروبية قائلاً “إن القيم الغربية أسمى من القيم السائدة في العالم الإسلامي” ليس لها إلا هذا المعنى. وسيسهل بإذن الله تعالى تجاوز هذه العقبات، ذلك أن الفكر الصحيح الصادق الموافق لفطرة الإنسان لا يملك الإنسان أمامه إلا الإذعان والتسليم، فلن يزيد الأمر بإذن الله عن جهد إضافي من أجل أن يقبل الكفار أن يستمعوا، فإذا استمعوا لم يملكوا إلا أن يدخل الإسلام شغاف قلوبهم، فيحملوه ويكونوا مستعدين للموت من أجله. فكل جهود قريش وتضليل كبرائهم لعامتهم وللعرب أجمعين ذهب هباءً بمجرد أن أتيح للناس أن يستمعوا إلى رسالة الإسلام، (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) (الأنفال) اللهم اجعل اليوم الذي نحمل إلى هؤلاء رسالة الإسلام قريباً، إنه سميع مجيب، اللهم آمين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *