العدد 177 -

السنة السادسة عشرة شوال 1422هـ – كانون الثاني 2002م

( أُمَّـةً وَسَـطاً )

          قال الله سبحانه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) [البقرة/143].

          يذهب البعض في تفسير هذه الآية إلى القول بأن الوسطية هي ما بين الطرفين وأن الإسلام هو دين الوسطية، لأن الوسط خير من الطرفين، ويجعل هذه النتيجة قاعدة يبني عليها الأفكار والأحكام، ويضرب مثلاً لذلك توسط الإسلام بين إفراط النصارى وغلوهم في اتخاذ عيسى عليه السلام ابناً أو رباً، وبين تفريط اليهود وتقصيرهم في قتلهم الأنبياء، فكان الإسلام وسطاً بين الإفراط والتفريط، يعني أنه لا عبادة فيه للنبي ولا قتل، بل هو وسط بين ذلك. وهذا خطأ من عدة وجوه:

          أولها: أن “وسطاً” وصف للأمة لا للدين، فإن كانت المقارنة بين المسلمين وبين أتباع الأنبياء السابقين، الذين آمنوا بهم وصدقوهم، فالكل مؤمن، ولا توسط بين إيمان وإيمان. وإن كانت المقارنة بين أمة الإسلام وبين من يدعي أنه من أتباع موسى وعيسى عليهما السلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم      ، فإنهم كفار بإجماع. فاليهود كفار والنصارى كفار، فكيف تكون الأمة الإسلامية “وسطاً” بين كفر وكفر؟! نعوذ بالله من الخذلان.

          ثانيهما: أن الله سبحانه قد وصف هذه الأمة في الكتاب بالخيرية فقال جل وعز: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وفسّر الرسول صلى الله عليه وسلم        “وسطاً” بالعدالة، أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم       في قوله: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) قال: «عدلاً». قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. فيكون معنى “وسطاً” عدلاً أي أخياراً. قال الزجاج: [وسطاً عدلاً وقال بعضهم أخياراً واللفظان مختلفان والمعنى واحد، لأن العدل خير والخير عدل]، وقال البغوي: [وسطاً أي عدلاً خياراً] وقال القرطبي: [وليس من الوسط الذي بين شيئين في شيء].

          ثالثها: إن الله سبحانه قد علل وصفه للأمة بقوله (وسطاً) ليكونوا شهداء على الناس، والشهادة تقتضي العدالة. فلأنه أراد للمسلمين أن يكونوا شهداء على الناس يوم القيامة أثبت عدالتهم بقوله (وسطاً).

          رابعها: وسط بتسكين السين وفتحها ترد بمعنى الظرفية كقوله صلى الله عليه وسلم : «لعن الله من جلس وسط الحلقة» وقولك: جلست وسط الدار، وهي هنا منصوبة على الظرفية. وقد تكون قريبة من معى الظرفية ولا تعرب ظرفاً وإنما تكون بمعنى التوسط بين طرفين كقولك: قبضت وسط الحبل وإعرابها مفعول به، وكقول الشاعر:

إذا رحلتُ فاجعلوني وَسَـطاً           إني كبيرٌ لا أُطـيقُ العُـنَّدا

والمعنى اجعلوني وسطاً لكم ترفقون بي وتحفظونني، فإني أخاف إذا كنت وحيداً متقدماً أو متأخراً عنكم أن تفرط دابتي أو ناقتي فتصرعني. وإعراب “وسطاً” في البيت مفعول به ثانٍ. وهي في كل ما سبق ليست صفة. إلا أنها ترد صفة كما في قول زهير:

هُمْ وَسَـطٌ يَرضى الأنامُ بِحُكْمِهِمْ               إذا نَزَلَتْ إحدى الليـالي بمعظـمِ

و”وسط” هنا لا تعرب صفة لأنها نكرة و”هم” معرفة، وإنما تعرب خبراً، وهذا لا ينفي أن الممدوحين هذه صفتهم. وكونها صفة في الآية أوضح وأجلى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) فلفظ “وسطاً” صفة للمفعول به الثاني لجعل وهو أمة.

          والذي يراد إثباته من هذا هو أن “وسطاً” في الآية صفة، وليست ظرفاً ولا تفيد البينية بين شيئين. والقائلون بالوسطية يفسرونها على أنها تفيد الظرفية أو البينية بين شيئين، وليس الأمر كما أرادوا. بل هي في الآية الكريمة صفة لا تحتمل غيرها. وصدق القرطبي عندما قال: [وليس من الوسط الذي بين شيئين في شيء].

          خامسها: قولهم إننا وسط بين إفراط النصارى وتفريط اليهود، أي بمعنى التوسط بين طرفين هما اتخاذ عيسى رباً وقتل الأنبياء، هذا الكلام خطأ، فنحن لسنا بينهما بل نقيضهما تماماً، فنحن لم نقتل ولم نتخذ محمداً صلى الله عليه وسلم        ربّاً، فكيف نكون بينهما، إذ وسط الحبل من جنس طرفيه، وكذلك وسط الرحل ووسط الطريق، فإن كنا وسطاً بمعنى طرفين هما اليهود في تفريطهم والنصارى في إفراطهم، فينبغي أن يكون عندنا شيء من الإفراط وشيء من التفريط، وليس الأمر كذلك. واستدلالهم بأننا وسط بين عقوبة اليهود العين بالعين وبين ما يقال عن النصارى من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، فعندنا السن بالسن وواقعة ثنية الربيع معروفة، وكذلك حكم عمر على ابن الأكرمين، ابن عمرو بن العاص إذ حكم بالقصاص لطمةً بلطمة، فأين التوسط بين طرفين؟!

          فالوسطية قاعدة رأسمالية، وليست من الإسلام في شيء، وإن تمحل المتمحلون .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *