العدد 87 -

السنة الثامنة صفر 1415هـ, تموز 1994م

خرافة الضمير (1)

بقلم: فضيلة الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود

إذا بحثنا في معاجم اللغة العربية، عن معنى كلمة «الضمير» فإننا لا نجد من بين معانيها، المعنى الأخلاقي، الذي نفهمه من هذه الكلمة في العصر الحاضر، ونستعملها فيه ونُطلقها عليه، وهل لم ترد بهذا المعنى في القرآن، أو الحديث، أو في الشعر العربي القديم، إنه معنى مُحدَث، أخذناه عن الغرب في العصور الحديثة.

وقد استعمله الغرب كثيراً، وأشاد به، حينما أراد أن يضع للأخلاق أساساً ومقياساً، منفصلين عن الدين.

وكان ذلك على الخصوص، حينما أراد الغرب، أن يتخلص من سيطرة الكنيسة، وأن يخرج عن سلطاتها، ويثور على قواعدها وأوضاعها، ويفرق أو يفصل بين الدين والدولة. وكان الدين، إذ ذاك أساساً ومقياساً للأخلاق. ولا مناص – إذا أريد التخلص من الدين – من البحث عن أساس ومقياس للأخلاق فلا بد – لاستقرار المجتمع، وهدوئه وأمنه – من أن تستقر الأخلاق وتقوم على دعامة قوية، وإلاّ، لانهار المجتمع، وناله الفساد من جميع أقطاره.

وتلفت زعماء الثورة على الكنيسة يميناً وشمالاً لعلهم يجدون ما يقوم مقام الدين – وقد تحللوا منه بالنسبة للأخلاق، فوجدوا – كسراب يتألق – الضمير، فتشبثوا به، ورفعوا من شأنه، واعتبروه أساساً ومقياساً للأخلاق.

وما من شك – كما يقول العالم الفرنسي الكبير الأستاذ «أندريه كرسون» «أن الأكثرية من الناس، بل ربما جميعهم، يكون لهم ضمير متى أدركوا سن الرشد. فحينما يشرعون في عمل، فإنهم يشعرون بأن هذا العمل، إما أن يكون واجب التنفيذ، وإما أن يكون واجب الترك، وإما أن يكون من قبيل المباح. وحينما يقومون بالعمل – سواء أراعوا الضمير أم لم يراعوه – فإنهم يشعرون، أثر القيام به بمشاعر مختلفة. فإذا كانوا قد خضعوا لحكم الضمير، فيما أوجبه، فإنهم يشعرون بتقدير لأنفسهم تصحبه لذة ظاهرة: الرضا الأخلاقي.

أما إذا كانوا لم يستجيبوا لصوت الضمير، فإنهم يشعرون باحتقار لأنفسهم شديد الإيلام «تبكيت الضمير».

ورأى القائمون، على الثورة ضد الكنيسة إذن: أن يستعيضوا عن الدين بوحي الضمير، وأن يتخذوا من وحي الضمير، الأساس الذي لا يخطئ، والمقياس الذي لا ريب فيه بالنسبة للأخلاق.

(2)

وحينما هدأت الأمور في الغرب، وعادت الحياة إلى مجراها الطبيعي، بعد الصراع العنيف، بين الكنيسة والثوار، الذي دام فترة طويلة من الزمن، أخذ العلماء، يراجعون أنفسهم، ويدرسون، في هدوء ودعة المبادئ التي قامت عليها الثورة المنتصرة، والأهداف التي حددت، والغايات التي رسمت، والقواعد التي خططت، ثم هذّبوا في كل ذلك وغيّروا وبدلوا. وكان مما راجعوا أنفسهم فيه: مسألة «الضمير».

ويقول «أندريه كرسون»:

ولما استعرضوا التاريخ والوقائع والمشاهدات، يستنيرون بها في أمر الضمير رأوا: «أن الناس في كل العصور، وفي جميع الأقطار، يستشيرون ضمائرهم. ولكنها لا تُسمِعهم جميعاً، لحناً واحداً إذ أن ما يظهر عدلاً وخيراً، لبعض النفوس المخلصة في عصر خاص، لا يظهر عدلاً ولا خيراً لنفوس أخرى، هي أيضاً مخلصة، ولكنها في عصر آخر، أو مكان آخر».

أما إذا أردنا أمثلة على ذلك فإننا سنجدها كثيرة، عندما نوازن بين أحوال الضمير خلال مختلف العصور.

ويضرب لنا الأستاذ – أندريه كرسون – الأمثلة الكثيرة:

«ففي العصور القديمة اليونانية، اللاتينية كان نظام الرق مشروعاً: إن أشرف القلوب، إذ ذاك كانت تجد من الطبيعي، أن يباع الرجال والنساء والأطفال، وأن يعاملوا معاملة السوائم.

ويقول:

وكانت القوانين الرومانية القديمة، تجعل من المرأة والأطفال ملكاً للزوج، كما لو كانوا أمتعة وأنعاماً: لهذا كان للأب، من بين الحقوق الأخرى، الحق في أن يعرض ابنته المولودة حديثاً، في السوق العام، إذا كانت له بنت أخرى. ولسنا بحاجة إلى أن نذهب بعيداً.

فها هم أولاء أسلافنا، كان يرون شرعية تطبيق العقوبة على مجرد ظن الجريمة وكانوا بلا أدنى قلق يشاهدون الفرد مشنوقاً من اجل اختلاس تافه.

ولكننا عندما نوازن بين أحوال الضمير، في العصر الواحد في أقطار مختلفة، فإننا نجد أيضاً فروقاً لا تكاد تحصى ولا تعد.

فالشعوب التي يسود بها نظام تعدد الزوجات، لا تعتبر من يتزوج بعدد منهن بريئاً فقط، بل إنها، فوق ذلك، لتعد هذا العمل منه، سامياً ومشرفاً إلى حد كبير، وإن مشاعر الحياء القوية جداً عند الشعوب المتحضرة لا تهز قليلاً ولا كثيراً: مثل زنوج الكنغو، وسكان جزائر «تايتي».

ويقول:

ومن ناحية أخرى، فإنه لا شيء أغرب من مشاهدة بعض الالتزامات التي تقتضيها حياة بعض البدائيين. وليس من المجهول، ما يعد من المحرمات الدينية عندهم: مثل تحريم بعض أنواع اللحوم، أو بعض الأشربة، أو خروج النساء بدون حجاب.

وأمر الطقوس السائدة في البلاد «الأوقيانوسية» معروف مشهور.

فهي تعتبر من الآثار، ما قد يظهر لنا طبيعياً، بل فوق ذلك، ما يظهر ضرورياً: إنها تحرم تناول الطعام تحت السقف، والمكث في المسكن إذا كان المرء مريضاً، واستعمال الأيدي في التغذية، بعد فراغ المرء من حلق شعره، أو بعد فراغه من صنع زورق.

على أن الدلالة العميقة، إنما هي مظاهر اختلاف الضمير في البيئة الواحدة، وفي الجماعة الواحدة، المتحضرة المتمدينة.

وهل الرأسمالي، الذي يدافع عن نظام الميراث، أقل إخلاصاً من الشيوعي الذي يهاجمه؟ أو هل الديمقراطي، الذي يقرر ضرورة الانتخاب العام، أقل إخلاصاً من الأرستوقراطي الذي يعلن، عدم ملاءمة هذا النظام؟

وهل (فيلانت)، عندما يبيح أنواعاً من الكذب، أقل اقتناعاً برأيه من (ألسست) عندما يحرمها؟

إن «شارلون كردي» عندما قضت على حياة (مارا) كانت ترى، ولا شك، أنها إنما تقوم، بعمل أخلاقي عظيم بلا مراء. فهل المواطنون، الذين ساقوها إلى المقصلة، كانوا أقل إيماناً منها بالقيمة الأخلاقية لعملهم هذا؟

هذه الأمثلة، الذي ذكرها الأستاذ «أندريه كرسون»: إنما هي قطرة من بحر، مما يمكن أن يبرهن به، على اختلاف الضمير، بحسب اختلاف الزمن، أو اختلاف الثقافات في البيئة الواحدة.

وهناك أمثلة لا تحصى إذا ما قارنا ضمائر العرب في العصر الجاهلي، بضمائرهم في العصر الإسلامي، أو ضمائر الوثنيين في مكة بضمائر المسلمين فيها عند نشأة الإسلام، أو إذا ما قارنا ضمائر المتفرنجين في مصر العصر الحاضر، بضمائر المحافظين فيها!!

والنتيجة لكل هذه المقارنات، هي: أن اتخاذ الضمير كأساس للأخلاق أو كمقياس لها، إنما هو مجرد حماقة وعبث.

ومن الشُّبه، التي جعلت الناس يؤمنون، بمنزلة كبرى للضمير، ويرفعونه: أنه قد شاع بين بعض الطوائف، أن الضمير قوة فطرية معصومة بطبيعتها، ولكن هذه الدراسة السابقة تؤدي بنا لا محالة إلى أن الضمير قوة فطرية حقاً ولكنها قوة غير معصومة لأنها تربى وتكتسب فيما يتعلق باللون الذي تتخذه.

وهي وإن كانت قوة فطرية إلا أنها تتلون بحسب ما تتغذى به من ثقافة، ومن ورائه، وهي تختلف في الفرد الواحد بحسب اختلاف سنه، وبحسب تنقله من بيئة إلى بيئة وبحسب الكتب التي تمده بالثقافة العقلية، أو التهذيب الروحي، وبحسب اختلاف الأصدقاء الذين يلازمهم الإنسان في حياته الواحد تلو الآخر.

والضمير إذن متأرجح متقلب، لا يستقر له قرار، لأنه حتى لو مكث على حالة واحدة تجاه مسألة معينة فإنه في هذه الحالة النادرة يتأرجح أيضاً، قوة وضعفاً، واتزاناً وإسرافاً.

والوضع الصحيح إذن – بالنسبة لأساس الأخلاق – أن نلجأ إلى الدين، نستمد منه الهداية والإرشاد، فإنه هو وحده: المعصوم.

والدين الإسلامي قد أتى في الجانب الأخلاقي بكل ما تتطلبه النفوس المرهفة، والأفئدة المتعطشة للاستقامة. لقد أقر بذلك كبار الفلاسفة الإسلاميون «كابن سينا وغيره».

لقد رأى ابن سينا، أن الدين الإسلامي، أتى بكامل نظام أخلاقي تشريعي بالنسبة للمجتمع، وبالنسبة للأسرة، وبالنسبة للفرد، وتحدث ابن سينا عن ذلك غير مرة في مختلف كتبه.

أما صلة الدين بالضمير، فإنها صلة هيمنة وتوجيه وإرشاد وسيطرة إنها صلة هيمنة تستمر مدى الحياة، وإذا ما زالت هذه الهيمنة في أي فترة من فترات الحياة، فإن الضمير يختل اتزانه وتوازنه، لأنه يحتاج باستمرار إلى القائد المربي، وليس هذا القائد المربي إلا الدين.

من كتاب: (الإسلام والعقل).      

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *