دلالة إجماع الصحابة الكرام (رضوان الله عليهم) على بدء التأريخ بالهجرة دون غيرها
2010/07/17م
المقالات
1,991 زيارة
دلالة إجماع الصحابة الكرام (رضوان الله عليهم)
على بدء التأريخ بالهجرة دون غيرها
د.محمود محمد
لقد بعث الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوم أميين، لا يعرفون القراءة والكتابة إلا قليلاً، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة 2]. روي عن مجاهد قوله إنهم: «العرب» وعن قتادة إنه قال: «كان هذا الحي من العرب أمة أمية، ليس فيها كتاب يقرؤونه، فبعث الله نبيه محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة وهدى يهديهم به». وليس غريباً أن يبدأ الوحي يتنـزل بقول الحق تبارك وتعالى: (اقْرَأْ)، مع علمه سبحانه وتعالى بأن رسوله عليه الصلاة والسلام لا يقرأ ولا يكتب، ولكنها لفتة منه عز وجل لرسوله عليه الصلاة والسلام، ولنا من بعده، أن نتعلم وأن نسلك سبل العلم بالقراءة والسماع والتلقي والفهم والتفكير.
إذا كانت العرب لا تعرف الكتابة ولا القراءة، فهم لم يعرفوا التأريخ أيضاً. فقد ذكر الطبري: «فأما أهل الإسلام فإنهم لم يؤرخوا إلا من الهجرة، ولم يكونوا يؤرخون بشيء من قبل ذلك، غير أن قريشاً كانوا -فيما ذكر- يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل، وكان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المذكورة، كتأريخهم بيوم جبلة، وبالكلاب الأول، والكلاب الثاني». فالأمة الإسلامية، التي نهضت من بين ركام الجاهلية، حين بدأت تؤرخ جعلت ذلك صرخة مدوية في جنبات الأرض، وقد كان لبدء التأريخ عند المسلمين حكاية، إن دلت على شيء فإنما تدل على العمق في تقدير المواقف السياسية وإعطاء الأولوية لأيام العز والنصر والكرامة التي فقدتها أمة الإسلام اليوم. لقد كان في تأريخهم عبرة وعظة، وهي حادثة أجمع فيها الصحابة مرة أخرى على أهمية الخلافة، وعلى قدرها في نفوسهم وعقولهم، كما أجمعوا من قبل على تقديمها على دفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
نعم، بدأ الصحابة العمل بالتأريخ الهجري، أي من هجرة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة المنورة. وبعبارة أخرى، من تلك اللحظات الحاسمة في تاريخ الأمة حيث هاجر رسولها الكريم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة التي شرفها الله ليتسلم زمام الأمور فيها ويدخلها حاكماً بما أنزل الله، مُطاعاً آمناً مطمئناً شاكراً لأنعم الله.
وقد أختُلفَ متى بدأ العمل بالتأريخ الهجري، فقيل كان ذلك في السنة السادسة عشرة، وقيل السابعة عشرة في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وقيل إن بدء التأريخ كان في زمان المصطفى عليه الصلاة والسلام، وإن ذلك كان حين مقدمه إلى المدينة المنورة شرفها الله تعالى. والأول أولى وأصح، وقد تضافرت في ذلك الروايات. يضاف إلى ذلك أنه إذا كان بدء التأريخ قد حصل في عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام، فما معنى أن يجمع عمر بن الخطاب الصحابة رضوان الله عليهم ليستشيرهم في التأريخ؟!
فقد روي عن ابن المسيب، قال: أول من كتب التأريخ عمر، لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لست عشرة من الهجرة بمشورة علي بن أبي طالب. وذكروا في سبب عمل عمر (رضي الله عنه) التأريخ أشياء، ذكرها ابن حجر رحمه الله في الفتح منها:
أخرج أبو نعيم الفضل بن دكين في تاريخه من طريق الحاكم من طريق الشعبي: «إن أبا موسى كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أَرِّخْ بالمبعث، و بعضهم أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها، و ذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا قال بعضهم ابدؤوا برمضان، فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه».
وروى الحاكم في المستدرك عن سعيد بن المسيب قال: «جمع عمر الناس فسألهم عن أول يوم يكتب التاريخ، فقال علي: من يوم هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وترك أرض الشرك، ففعله عمر».
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «اتفق الصحابة (رضي الله عنهم) في سنة ست عشرة وقيل سبع عشرة أو ثماني عشرة في الدولة العمرية على جعل ابتداء التأريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر (رضي الله عنه) رفع إليه صك، أي حجة، لرجل آخر، وفيه أنه يحل عليه في شعبان. فقال عمر: أي شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها، أو السنة الماضية أو الآتية؟ ثم جمع الصحابة، فاستشارهم في وضع تأريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك، فقال قائل: أرِّخُوا كتأريخ الفرس فكره ذلك، وكانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحداً بعد واحد. وقال قائل: أرخوا بتأريخ الروم، وكانوا يؤرخون بملك إسكندر بن فيلبس المقدوني، فكره ذلك. وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وقال آخرون: بل بمبعثه. وقال آخرون: بل بهجرته. وقال آخرون: بل بوفاته عليه الصلاة والسلام فمال عمر رضي الله تعالى عنه إلى التأريخ بالهجرة، لظهوره واشتهاره، واتفقوا معه على ذلك… إلى أن قال: وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه قال: استشار عمر في التأريخ فأجمعوا على الهجرة. وقال أبو داود الطيالسي عن قرة بن خالد السدوسي عن محمد بن سيرين قال: قام رجل إلى عمر (رضي الله عنه) فقال: أرِّخوا. فقال: وما أرِّخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا. فقال عمر: حسن فأرخوا، فقالوا: من أي السنين نبدأ؟ فقالوا: من مبعثه. وقالوا: من وفاته. ثم أجمعوا على الهجرة. ثم قالوا: وأي الشهور نبدأ؟ فقالوا: رمضان. ثم قالوا: المحرم؛ فهو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم…» ثم قال بعد ذلك ابن كثير -رحمه الله تعالى-: والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم وهذا هو قول جمهور العلماء».
أخرج البخاري عن سهل بن سعد قال: «ما عدوا من مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة».
و أفاد السهيلي في الروض الأنف : أن الصحابة أخذوا التأريخ بالهجرة من قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) [التوبة 108] لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقاً، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر و هو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام، و عَبَدَ فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ربَّه آمناً، وابتداء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم.
إذاً، بدأ العمل بالتأريخ الهجري في زمن عمر بن الخطاب على الأصح، وكان إجماعاً، وحصل إجماع آخر متعلق بهذه المسألة، وهو إجماعهم على أن يكون بدء التأريخ من هجرة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة المكرمة شرفها الله تعالى إلى المدينة المنورة شرفها الله تعالى. والهجرة هي الحادث الفاصل بين دار الإسلام ودار الكفر، بين الاستضعاف والاطمئنان، بين أن يُحكم بالكفر وبين أن يُحكم بالإسلام في جميع مناحي الحياة.
نعم، أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أهمية الخلافة وذلك من خلال تقديمها على دفن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن خلال بدء التأريخ بالهجرة التي كانت مقدمة بناء هذه الدولة العريقة.
فهم «ما عدّوا من مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا من وفاته، ما عدّوا إلا من مقدمه المدينة». وذكر الطبري: «… فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل». وذكر الطبري أيضاً: «جمع عمر بن الخطاب الناس، فسألهم، فقال: من أي يوم نكتب؟ فقال علي (رضي الله عنه): من يوم هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وترك أرض الشرك، ففعله عمر (رضي الله عنه)». وعن سعيد بن المسيب يقول: جمع عمر بن الخطاب الناس، فسألهم من أي يوم نكتب؟ فقال على: من يوم هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وترك أرض الشرك. ففعله عمر.
فالصحابة لم يعدوا مولد الرسول الأعظم، ولا مبعثه، مع أن مبعثه كان قلباً لأوضاع البشرية قاطبة، وتغييراً لوجه الأرض، وكان النور الساطع وسط ظلام الكفر المدقع. ولم يعدّوا من وفاته، ما عدوا إلا من هجرته! ترى كان ذلك لأمر لا قيمة له ولا وزن؟! أم لأنهم يرون في ترك أرض الشرك، والتفريق بين الحق والباطل بإقامة دولة للحق يظهر بها على الدين كله، يرون في ذلك أمراً عظيماً؟! وأمراً مهماً فاق في نظرهم مولد ومبعث ووفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وليس مهماً هنا، السبب الفعلي وراء بدء التأريخ، أقصد الحادثة التي على أثرها طرح موضوع التأريخ على بساط البحث بين يدي الصحابة، سواء أكان ذلك بسبب صك الدين، أو الكتب التي ترسل غير مؤرخة أم غير ذلك، بل المهم في الموضوع، والذي لا بد من لفت النظر إليه، هو أنهم اختاروا حدثاً معيناً من بين أحداث جسيمة ليبدؤوا التأريخ به، وما كان هذا إلا لأهمية ذلك الحدث قطعاً.
الخلاصة:
1 – لقد كان بدء التأريخ في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
2 – أجمع الصحابة على أن يبدأ التأريخ بالهجرة لأنها فرقت بين الحق والباطل، ولأنها أول الزمن الذي عز فيه الإسلام وعَبَدَ النبيُ (صلى الله عليه وآله وسلم) ربَّهُ آمناً وترك أرض الشرك…
3 – هذا الإجماع دليل آخر صارخ منهم رضوان الله عليهم على أهمية الخلافة، ذلك أن الهجرة في حقيقتها إقامة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة.
فلمثل ذلك فليعمل العاملون.
الوعي: واهتداء بذلك، فعندما افتتح أمير حزب التحرير إذاعة الحزب في الإنترنت، وكان لا بد من توقيت للإذاعة، تم اختيار توقيت المدينة المنورة، وذلك لأن هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها كان هو التاريخ الذي اعتمده الصحابة رضوان الله عليهم، وهكذا يصبح التوقيت والتاريخ يخرجان من مشكاة واحدة.
2010-07-17