العدد 282 - 283 -

العدد 282 – 283 ، السنة الرابعة والعشرون، رجب وشعبان 1431هـ، الموافق تموز وآب 2010م

«أورانك زيب» سلطان من الهند على سنة الخلفاء الراشدين

«أورانك زيب»

سلطان من الهند على سنة الخلفاء الراشدين

 

الأستاذ كامل ثوابتة

إذا كان القلب يعتصر حزناً وألماً على فقدان المسلمين للأندلس، فوالله ما كانت الأندلس بالنسبة للهند المسلمة إلا كمقاطعة صغيرة أو مدينة يحكمها أحد ولاة السلطان.

وإن كان خلّفَ المسلمون في الأندلس مسجد قرطبة، فهذا مسجد بادشاهي في لاهور أو المسجد الجامع في الهند يقف شامخاً ليدل على إبداع وروعة الحضارة الإسلامية في الهند.

وإن كان خلّف المسلمون في الأندلس الحمراء والقصبة، فذا حصن أجرا يقف اللسان عاجزاً عن وصف حسنه وجماله.

وإنْ خرج من الأندلس رجال ملؤوا الدنيا بعلمهم، فيكفي أن تسأل أحد طلبة العلم عن علماء الهند، وتحلَّ وقتها بالصبر لطول المدة التي ستقضيها سامعاً لأسماء العلماء الذين سيعدهم لك طالب العلم.

وإن خرج من الأندلس حكام عظام وخلفاء عظماء، فيكفي ذكر محمود بن سبكتكين وذكر اسم صاحبنا وسلطاننا “السلطان أورانك زيب عالكمير”.

ولادته ونشأته:

ولد السلطان أورانك زيْب (زينة الملك) في بلدة “دوحد” في كجرات بالهند في (15 من ذي القعدة 1028هـ الموافق لـ24/10/1616م).

نشأ في بيت عز وترف وشرف، فأبوه هو ” السلطان شاه جيهان” أحد أعظم سلاطين دولة المغول المسلمين في الهند، وهو باني مقبرة “تاج محل” الشهيرة التي تعد الآن من عجائب الدنيا السبع الحديثة، تم بناؤها في 20 عاماً، وعمل على إنشائها أكثر من 21 ألف شخص، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هكذا صرف أبوه في آخر أيامه كل جهده في إنشاء مقبرة لزوجته وظل مفتوناً بها، فضعف أمر السلطنة، وظهرت بوادر الفتن والثورات مما اضطر أورانك زيب أن يقوم بانتزاع السلطنة من أبيه كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وأن يقضي عليها باسم أبيه ويحل الحق والعدل بالحكم بالإسلام.

ظهر من “أورانك زيب” منذ صغره علامات الجد والإقبال على الدين والبعد عن الترف والملذات، وكان فارساً شجاعاً لا يشق له غبار، ويروى في ذلك قصة، فقد كان مع إخوته في يوم بحضور أبيه “السلطان شاه جيهان” في احتفال، وكان في الاحتفال فقرة لحلبة أفيال، فشرد فيل من الحلبة وجرى نحو “أورانك زيْب” وهو آنذاك ابن 14 عاماً، فضرب الفيل الفرس الذي يمتطيه أورانك زيب بخرطومه وطرح أورانك زيب أرضاً وأقبل نحوه، فثبت أوارنك زيب في مكانه واستل سيفه وسط ذهول الناس وإكبارهم بهذا الأمير الصغير، وظل يدافع عن نفسه أمام الفيل الضخم حتى جاء الحرس وطردوا الفيل الضخم.

ترعرع هذا الأمير محباً للعلم والدين واستقى الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، فنشأ وتربى تربية إسلامية خالصة لا تشوبها شائبة، فقد كان أبو جده “جلال الدين أكبر” في أواخر أيامه حمل الناس على دين جديد يجمع بين الديانة الهندوسية والإسلام -ولا حول ولا قوة إلا بالله- ومنع الجزية عن الهندوس وغير المسلمين، فأتى بذلك أمراً لم يسبقه إليه أحد من سلاطين المسلمين من قبل، ولم يقم في وجه هذا السلطان أحد، وظل الأمر كذلك، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، فظهر هذا الرجل الضعيف الجسم الشيخ الجليل أحمد السرهندي، وأخذ يدعو الأمراء وقواد الجيش، وذكرهم بالله وأحيا في نفوسهم حمية الدين، ولما مات السلطان أكبر جاء من بعده السلطان “جهانكير”، تولى الشيخ محمد معصوم السرهندي ابن الشيخ أحمد السرهندي تربية طفل صغير وبذل له رعايته كلها فنشأ نشأة دينية وقرأ القرآن فجوده، والفقه الحنفي وبرع فيه، والخط فأتقنه، وربي على الفروسية والقتال، فكان هذا الطفل هو “أورانك زيْب”. فكان، رحمه الله، محباً للشعر وكان شاعراً، ونشأ محباً للخط فكان خطاطاً بارعاً، وتعلم اللغة العربية والفارسية والتركية. هكذا جمع (رحمه الله) كل صفات الملوك العظماء في سن صغيرة.

أورانك زيب أميراً:

كان أورانك زيْب الأخ الثالث بين ثلاثة أبناء هم “شجاع” و”مراد بخش”، فتولى “شجاع” إمارة البنغال وتولى “مراد بخش” إمارة الكجرات وتولى “أورانك زيب” إمارة الدكن في وسط الهند.

فتعلم “أورانك زيب” الإدارة وأتقنها وسبر أغوارها فكان من ملوك المسلمين القلائل الذي برعوا في إدارة الدولة، ومع ذلك قاد الجيوش بنفسه في عهد أبيه، فقمع الثورات وطهر البلاد وأظهر في الأرض العدل وكانت له هيبة وسمت السلاطين، وظل الأمر كذلك حتى كان ما كان من وفاة أمه “ممتاز محل” التي بوفاتها انشغل السلطان “شاه جيهان” ببناء مقبرة يخلد فيها ذكراها، وصرف لذلك الأموال وحمل الناس على العمل الشاق فأهملت السلطنة، وظهرت بوادر الفتن والثورات، ولم يكن للسلطان يومها من همّ إلا النظر إلى ضريح امرأته، وكان قد أمر ببناء ضريح أسود اللون له مماثل لضريح زوجته، ثم ما كان من الأخ الأكبر لأورانك زيب إلا أن وثب على ملك أبيه، وكان هذا الأخ الأكبر مائلاً للدنيا يريد إرجاع الهند إلى ما كانت عليه في عهد أبي جده “جلال الدين أكبر”، فرفض بذلك أورانك زيْب المسلم الورع التقي وقام معه أخوه الآخر فاستطاع أورانك زيْب أن يأخذ الحكم لنفسه وقمع الثورات التي شنها إخوته عليه، وبذلك أعلن أورانك زيب نفسه سلطاناً على البلاد، وكان وقتها عنده من العمر 40 سنة، وابتدأ عهد العدل والحق، فقد آن الأوان أن يرى المسلمون كثيراً من صفات أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في شخص أورانك زيب عالمكير.

أورانك زيب سلطاناً على البلاد

قد يتخيل البعض بمجرد جلوس أورانك زيْب على كرسي السلطنة أنه ركن إلى العبادة والراحة وخصوصاً أنه كان متديناً، لا والله، ما هكذا فهم أجدادنا التدين، إنما التدين يكون بإعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وعلى هذا حكم أورانك زيب البلاد بالحزم والعدل.

لم يركن أورانك زيب إلى الدعة والراحة، بل لبس لأمة الحرب من أول يوم، وظل في جهاد دام 52 سنة، حتى خضعت له شبه القارة الهندية كلها من مرتفعات الهيمالايا إلى المحيط، ومن بنغلادش اليوم إلى حدود إيران، فاستولى على كل شيء إلا الاسم إذ ظل يحكم باسم أبيه.

شهدت إمبراطورية المغول الإسلامية في الهند في عهد أورانك زيْب (1658م-1707م) أقصى امتداد لها وذلك بفضل الجهود العسكرية التي بذلها حيث لم يبقَ إقليم من أقاليم الهند إلا وخضع تحت سيطرته، فاستطاع أورانك زيْب تحويل شبه القارة الهندية إلى ولاية مغولية إسلامية ربط شرقها بغربها وشمالها بجنوبها تحت قيادة واحدة، وقد خاض المسلمون في عهده أكثر من 30 معركة قاد هو بنفسه منها 11 معركة، وأسند الباقي لقواده. أبطل أورانك زيْب 80 نوعاً من الضرائب، وفرض الجزية على غير المسلمين بعدما أبطلها أجداده، وأقام المساجد والحمامات والخاناقات والمدارس والبيمارستانات، وأصلح الطرق وبنى الحدائق، وأصبحت “دهلي” في عهده حاضرة الدنيا، وعين القضاة وجعل له في كل ولاية نائباً عنه، وأعلن في الناس أنه “من كان له حق على السلطان فليرفعه إلى النائب الذي يرفعه إليه”.

وأظهر أورانك زيْب تمسكه بالإسلام والتزامه بشرائعه، فأبطل الاحتفال بالأعياد الوثنية مثل عيد النيروز، ومنع عادة تقبيل الأرض بين يديه والانحناء له، ومنع الخطب الطويلة التي تقال لتحية السلطان واكتفى بتحية الإسلام، كما منع دخول الخمر إلى بلاده، وصرف أهل الموسيقى والغناء عن بلاطه، وروي في ذلك قصة أنه كان يوماً خارج قصره فرأى الموسيقيين والقينات يلبسون السواد ويبكون ويحملون نعشاً، فسأل ما هذا؟ قالوا: هذا الغناء والمعازف نذهب لدفنها، فقال رحمه الله: إذاً أحسنوا دفنها لئلا تقوم مرة أخرى، وعين للقضاة كتاباً يفتون به على المذهب الحنفي، فأمر بتأليف الكتاب تحت نظره وإشرافه، واشتهر الكتاب باسم “الفتاوى الهندية” أو “الفتاوى العالمكيرية” يعرفه كل طلبة العلم.

أي رجل كان!! لقد بنى مسجد “بادشاهي” في لاهور بباكستان الآن، المسجد الذي ظل إلى الآن شاهداً على عصر عزّ المسلمين وتمكينهم، وقضى على فتنة البرتغاليين في المحيط، وكان رحمه الله لا يفطر في رمضان إلا على أرغفة من الشعير من كسب يمينه من كتابة المصاحف لا من بيت مال المسلمين!!

لم يستطع أن يحج إلى بيت الله الحرام فاستعاض بذلك أن كتب مصحفين بخط يده وأرسل واحداً إلى مكة والآخر للمدينة!!

وكان صاحب عبادة عظيمة، ويخضع للمشايخ ويقربهم ويستمع إلى مشورتهم ويعظم قدرهم، وأمر قواده أن يستمعوا إلى مشورتهم بتواضع شديد، حتى إنه سمع أن نائبه بالبنغال اتخذ مثل العرش يجلس عليه فنهره وعنفه وأمره أن يجلس بين الناس كجلوس عامتهم؛ فكان بهذا يذكرنا بعمر بن الخطاب (رضي الله عنه).

وكان يصوم الاثنين والخميس والجمعة من كل أسبوع لا يتركهم أبداً، ويأبى إلا أن يصلي الفرائض كلها في وقتها جماعة مع المسلمين، وكان يصلي التراويح إماماً بالمسلمين، ويعتكف العشر الأواخر في المسجد، فكان أعظم ملوك الدنيا في عصره.

وخصص موظفين يكتبون كل ما يقع من أحوال رعاياه ويرفعونها إليه، وأبطل عادة تقديم الهدايا كما كان يفعل من قبل أسلافه، وكان يجلس للناس ثلاث مرات يومياً دون حاجب يسمع شكاواهم… ووفق إلى أمرين لم يسبقه إليهما أحد من سلاطين المسلمين:

الأول: أنّه لم يكن يعطي عالماً عطيةً أو راتباً إلا طالبه بعمل، بتأليف أو بتدريس، لئلا يأخذ المال ويتكاسل، فيكون قد جمع بين السيئتين، أخذ المال بلا حق وكتمان العلم.

الثاني: أنّه أول من عمل على تدوين الأحكام الشرعية في كتاب واحد يُتخذ قانوناً، فوضع له وبأمره وبإشرافه وتحت ناظره كتاب “الفتاوى الهندية – العالمكيرية” على المذهب الحنفي.

في عهده دخل ملايين من البوذيين والهندوس في الهند في الإسلام، وألّف كتاباً شرح فيه أربعين حديثاً شريفاً -على غرار الأربعين النووية- وكان يكتب بخطه المصاحف ويبيعها ويعيش بثمنها لما زهد في أموال المسلمين وترك الأخذ منها.

وفاة السلطان أورانك زيب عالمكير.

توفي السلطان في 28 من ذي القعدة 1118هـ الموافق لـ20/2/1707م (بعد أن حكم 52 سنة)، وكان قد بلغ من تقواه أنه حين حضرته الوفاة أوصى بأن يُدفن في أقرب مقابر للمسلمين، وأن لا يعدو ثمن كفنه خمس روبيات!! وبذلك يكون عمر السلطان حين وفاته 90 سنة!! ولم يمنعه سنه من قيادة الجيوش أو قراءة القرآن، هكذا كانوا أجدادنا، لم يركنوا إلى الدعة والراحة بل كانت حياتهم كلها لله.

وبوفاة السلطان أبو المظفر محيي الدين محمد أورانك زيب عالمكير، انتهت عظمة دولة المسلمين في الهند، فجاء من بعده حكاماً ضعافاً، وظل الأمر كذلك حتى انتهت تماماً بسقوط آخر سلطان “بهادر شاه الثاني” عام 1857م بواسطة الإنجليز، ولم تقمْ للإسلام قائمة منذ ذلك الزمن في تلك البلاد الشاسعة.

إن مما دفعنا لنشر هذا المقال هو تذكير المسلمين أن بلادهم ممتدة بعضها مع بعض، وما نراه على الخريطة من أن الهند تفصل ما بين بنغلادش والباكستان، فإنما كانت بلاداً واحدةً جل أهلها مسلمون، وكان فيها الهندوس أهل ذمة… إنه الاستعمار الأوروبي الكافر والإنجليزي تحديداً الذي ما نال المسلمون منه، ولا يزالون، إلا شراً. إن تلك البلاد إسلامية، ويجب إرجاعها إلى أصلها، والحكم إلى أهله، وإن ذلك لكائن إن شاء الله ليس بسلطان المسلمين وإنما بخليفة راشدي يعيد الأمر على ما كان عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *