العدد الثاني -

السنة الأولى، العدد الثاني، ذو القعدة 1307 هـ، الموافق تموز 1987م

مع القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى:

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)

[سورة الأنفال: 73]

القرطبي:

قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ). قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية في تفسيره الشهير الجامع لأحكام القرآن: قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين فجعل المؤمنين بعضُهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم. وروي عن العلماء قولهم في المرأة الكافرة يكون لها الأخ المسلم: لا يزوّجها، إذ لا ولاية بينهما، ويزوّجها أهلُ ملتها. فكما لا يزوِّج المسلمةَ إلا مسلمٌ فكذلك الكافرةُ لا يزوِّجها إلا كافر قريب لها – أو أسقف، ولو من مسلم. وقال في الضمير في: (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ) أنّه عائد على الموارثة والتزامها. والمعنى: إلا تتركوهم كما كانوا يتوارثون، وقيل هي عائدة على التناصر والمؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي. وقال ابن إسحاق: جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض. ثم قال: (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ) وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمنين: (تَكُنْ فِتْنَةٌ) أي محنة بالحرب، وما أنجرَّ معها من الغارات والجلاء والأسر. والفساد الكبير: ظهور الشرك. قال الكسائيّ: ويجوز النصب في قوله: (تَكُنْ فِتْنَةٌ) على معنى تكون فعلتُكم فتنةً وفساداً كبيراً.

والموالاة المناصرة والموادعة والمرافقة في الدين، والفتنة أصلها الامتحان، وقد استعملت في أشياء منها الكفر والشرك وذلك على نحو قوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ)، وكذلك: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ)، وفيها العذاب، نحو قوله تعالى: (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)، وقوله: (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) يعني عذابكم بالتحريق بالنار، وفيها المعذرة في نحو قوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ)، أي معذرتهم، ومنها القتل في نحو قوله: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ) أي يقتلكم، وقوله: (عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)، ومنها الهرج والابتلاء على أثر البلاء، نحو قوله: (وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ)، (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

الطبرسي:

وابرز الطبرسي في تفسيره مجمع البيان في تفسير القرآن، معنى التناصر والتآزر في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، أي بعضهم أنصار بعض، وقيل بعضهم ببعض في الميراث: (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ)، وتقديره إلا تفعلوا ما أمرتم به، من التناصر والتعاون والتبرؤ من الكفار، ومخرجه مخرج الخبر والمراد به الأمر: (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) على المؤمنين الذين لم يهاجروا، ويريد بالفتنة هنا المحنة بالميل إلى الضلال، وبالفساد الكبير ضعف الإيمان، وقيل إن الفتنة هي الكفر، لأن المسلمين إذا والوَا الكفار تجرأ هؤلاء عليهم ودعَوهم إلى الكفر، وهذا يوجب التبرؤ منهم، والفساد الكبير سفك الدماء، على قول الحسن.

ابن كثير:

ووافق ابن كثير ما ذهب إليه القرطبي، في أن آية: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) مقرونة بالآية السابقة، والتي أشارت إلى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قد دلّت على قطع الموالاة بين المؤمنين والكفّار. ثم أورد حديثاً شريفاً ينهى عن توارث أهل ملّتين، «لا يتوارث أهل ملّتين، ولا يرث مسلم كافراً ولا كافرٌ مسلماً». ومعنى قوله: (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ)، أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل.

بعضهم أولياء بعض:

ومن ذلك كلّه يتبيّن لنا أن لا تلاقي ولا موالاة بين الكفار والمؤمنين، وأنهم ملّتين منفصلة إحداهما عن الأخرى وأن لكل واحدة منهما شأنها وعقيدتها ومعاملاتها التي لا يمكن التوفيق بينهما. فالمؤمنون أمة واحدة من دون الكافرين، يتلاقون ويتناصرون ويتوالون ويتعاضدون ويتراحمون، والكافرون ملّة دون ملّة الإيمان وعدوّة لها، وعلى الرغم من أن أمة الكفر أمة متناحرة تعصف بها رياح التنافس والتسابق والتحدي، ويكاد لا يربط بينها سوى رابطة المصلحة، إلا أنها أمة واحدة حين تقف موقف المواجهة مع الأمة الإسلامية، من حيث المناصرة والموالاة: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، ومن حيث بذل الجهود وإنفاق الأموال والصدّ عن سبيل الله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ). وعلى المسلمين أن يدركوا ذلك تمام الإدراك، وإلا وقع الفساد وقامت الفتنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *