العدد 287-288 -

العدد 287-288، السنة الخامسة والعشرون، ذو الحجة 1431هـ، محرم 1432هـ، الموافق تشرين الثاني وكانون الأول 2010م

أثر الروح عند المسلمين وأثر فقدانها في الحضارات الأخرى

أثر الروح عند المسلمين وأثر فقدانها في الحضارات الأخرى

 

الحمد لله الذي أنزل إلينا هذه الحضارة صافية نقية من فوق سبع سماوات فتعرضت لجميع مناحي الحياة فعالجتها، وإلى الإنسان وحاجاته فأشبعتها. الحمد لله الذي عرفنا إلى نفسه من خلال عقيدة عقلية. حكم العقل بصحتها، فبعد أن تتالت النصوص النقلية لتحديد علاقة الخــالق بالمخــلوق، وذلك أن الإنسان وما حوله في هذا الوجود مخلوق لخالق واجب الوجود، واستطاع العقل أن يقف على هذه الحقيقة ويقرها، فكانت الناحية الروحية عند المسلمين جلية واضحة في أبهى صورها، وهي حقيقة راسخة لا ريب فيها، وهي أن الكون وما عليه من إنسان وحياة مخلوق لخالق. فكانت هذه الصلة بين الإنسان وخالقه هي الناحية الروحية عند المسلمين، وكانت هي الأساس الراسخ لإدراك الصلة بالله أنها صلة عبد بمعبود، فكان إيماناً نابعاً عن إدراك، لا إيماناً شعورياً في مهب الريح.

فإدراك هذه الصلة، أي إدراك كون الأشياء مخلوقة لخالق هو الروح. وأن هذه الروح ليست من الإنسان و لا جزءاً من تركيبه، وإنما من الإدراك نفسه، ومن خلال هذا الإدراك يتقيد المؤمن بكل ما جاء به الوحي من عند الله من أفكار وأحكام طائعاً لله عز وجل وحده لأنه أدرك أنه عبد له وحده. فوجود هذه الروح عند المؤمن يشكل الضابط الأساسي في تقيده بالأحكام الشرعية بشكل ثابت و مستمر، فتجعل سلوكه الدؤوب في إشباع جوعاته سلوكاً منضبطاً بالوازع الداخلي، ومنطلقاً من إيمانه بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء 1] وذلك رغبةً في نيل رضوان الله ودخول جنته وهروباً من عذابه.

فما أعظم هذه الروح عند المؤمنين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن التابعين وغيرهم ممن تربوا في ظل خلافة تنمي عندهم هذه الروح وتحرسها من الضعف والضياع! فقد كان لها الأثر الكبير في بناء شخصيات عظيمة متميزة وبناء مجتمعات راقية يشار لها بالبنان.

وقد أثبت التاريخ الإسلامي على مر العصور أثر هذه الروح في بناء الشخصية الإسلامية المتميزة ذات اللون الواحد والطابع المحدد، وذلك من خلال التزامهم بأوامر الله التزاماً ثابتاً مبنياً على إدراك الصلة بالله عزّ وجل طمعاً بنيل رضوانه سبحانه لا لتحقيق مصلحة دنيوية أو منفعة زائلة، وإنما طاعة لله دون الالتفات إن كان في ذلك ضرر أو نفع، فكان الخير ما أرضى الله والشر ما أسخطه.

فقد التزم المسلمون بأوامر الله جميعها ولو خالفت أهواءهم، وأقلعوا عن عادات أحبوها وأسرت قلوبهم طوال جاهليتهم؛ فلم يكن ذلك إلا بفضل هذه الروح، فلم يكن الامتناع عن شرب الخمرة مثلاً إلا طاعة لله واستجابة لأوامره، فلم يكن ذلك لمذاق سيئ أو لغلاء سعر أو غيره، وكانت هذه الطاعة مبنية على إدراك الصلة بالله عز وجل، فما أن حرم شربها حتى جرت الخمرة في شوارع المدينة، هكذا كان التزام المسلمين بأوامر الله، وخاصة في زمن الصحابة الكرام وزمن من جاء بعدهم من التابعين، وهكذا يجب أن يكون (إن شاء الله تعالى) التزام الأمة في ظل الخلافة الراشدة القادمة، فتجعل أبناءها متصلين متواصلين مع ربهم، وتكون هذه الروح سبباً أساسياً في بناء شخصياتهم، وقوية حاضرة في كل لحظة من حياتهم، فيتمثل فيهم قوله عز وجل: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام 162].

إن غياب هذه الروح و ضعف الإدراك للصلة بالله عز وجل ولو لفترات بسيطة، تضعف المسلم في تقيده بأوامر الله وتجعله عرضة لحبائل الشيطان وعرضة للزلل؛ لأن هذه الروح ليست جزءاً من تركيب الإنسان أو المسلم وإنما هي طارئة عليه آتية من الإدراك ذاته، ولكن المؤمن الحق سرعان ما يفيء إلى أمر ربه فيجدد هذا الإدراك ويستحضر هذه الروح من جديد، فيرجع إلى إيمانه وتقواه، فها هي الغامدية في لحظة غياب هذه الروح وضعف هذا الإدراك فعلت ما فعلت من معصية، و لكنها عند تفعيل هذا الإدراك، أي تجديد هذه الروح أصرت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطهرها بإقامة حد الرجم عليها، خوفاً من عذاب الله، وقد أصرت على ذلك طيلة ثلاث سنوات، ولم يستطع الشيطان أن يردها عن ذلك، فما أعظم هذه الروح! وما أعظم هذه التقوى! عندما تكون مبنية على إدراك الصلة بالله (عز وجل)، أي مسيرة بهذه الروح!

ولا يغيب عن أذهاننا أثر هذه الروح على ترابط وتراحم المجتمع المسلم، و ذلك من خلال تقيد أبناء هذا المجتمع بالتراحم و التكافل والإيثار وغيره تقيداً دائمياً غير منقطع، ذا وتيرة واحدة طاعة لله وطمعاً بالأجر والثواب من عنده، وذلك أثراً لوجود هذه الروح، فيتسابقون على كفالة اليتيم طمعاً بالأجر والثواب من الله عز وجل لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» (رواه أحمد وأبو داود) وأشار بالسبابة والوسطى، كما ويؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وذلك كما آثر الجرحى في جيش المسلمين كلٌ أخاه على نفسه في شرب الماء، رغم عطشهم حتى استشهدوا جميعاً دون أن يشرب أحد منهم . فكان ذلك أيضاً بفضل وجود هذه الروح العظيمة عندهم، كما أن حرص المسلمين على أن لا يبات جار أو قريب جوعان لأثر لهذه الروح تقيداً منهم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» (رواه أحمد)، وإن وجود هذه الروح يجعل المسلمين في جد واجتهاد وطاعة وانضباط وإخلاص، في كل مجال من مجالات حياتهم ومن ضمنها طاعة الحاكم الذي يحكم بالإسلام حيث طاعته من طاعة الله، فيثمر ذلك في تقدم وازدهار وتطور الدولة والمجتمع؛ ليكون مجتمعاً ربانياً متميزاً يتمثل فيه وصف الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (رواه مسلم)؟ فكيف ينطبق هذا الوصف على واقعه إن لم تكن هذه الروح موجودة وحاضرة عند أبناء المجتمع المسلم حيث يتقيدون بأحكام الله سراً وعلانية، رغبة في ما عند الله ورجاء رضوانه؟ فكان عزوف المسلمين عن الغيبة والنميمة هو عزوف متصل بهذه الروح، استجابة لأمر الله تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات 12]، وكان انصراف المسلمون عن النميمة لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ»، وكان الالتزام بصلة الرحم لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يدخل الجنة قاطع رحم»، وانتهوا أيضاً عن قذف المحصنات الغافلات خوفاً من الله تعالى لقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور 23]، فكل ذلك وغيره كان بفعل هذه الروح التي تجعلهم متصلين مع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، ولهذا كانت العلاقات التي تربط أفراد المجتمع المسلم علاقات متينة مبنية على أساس واحد وهو خشية الله عز وجل، فكان مجتمعاً راقياً مصطلحاً مع نفسه، صادقاً مع ربه، يحكمه الوازع الداخلي، ويقوم على تقوى الله عز وجل النابعة بشكل مستمر من وجود هذه الروح أي هذا الإدراك القوي المتين.

لقد كان السواد الأعظم من هذه الأمة يتمتعون بهذه الروح، وعلى هذه الدرجة من التقوى، فقصة بنت بائعة اللبن لأعظم دليل على ذلك، فما أعظم هذه الروح عند هذه المؤمنة البسيطة، فهي من عامة الأمة، ولعلها فقيرة أو يتيمة لكنها كانت بهذه التقوى النابعة من الإدراك المتواصل بخالقها.

أليس هذا طبيعياً لمن تربى على مائدة الخلافة الراشدة! خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فشاء الله أن يَسمعها سيدنا عمر، عندما قالت مقولتها، فشاع صيتها ووصلنا خبرها، ولكن هناك الكثير الكثير من أبناء ذلك المجتمع الذين هم بنفس الروح والإدراك، ولكن لم يسمعهم ابن الخطاب أو غيره، فلم يصلنا خبرهم، ولكن المقطوع به أن السواد الأعظم من أبناء تلك الأمة كان لديهم نفس الروح، وسيعود ذلك إن شاء الله في ظل الخلافة الإسلامية الراشدة التي تقوي هذه الروح وتحرسها، وتربي أجيالاً على مائدة التقوى، فيظهر عندها رجال أمثال الخلفاء الراشدين وغيرهم، ويكون أفراد المجتمع بسواده الأعظم كبنت بائعة اللبن، مجتمعاً متميزاً يعيش لله ويموت لله.

وقد فرضت الشريعة الإسلامية الكثير من التشريعات بهذا الخصوص، فالتزم بها المسلمون بشكل ثابت بفضل وجود هذه الروح، فكان مجتمعاً متميزاً بعلاقاته وأفراده وحكامه، حيث كان تمثل هذه الروح عند ولاة الأمر كالخلفاء الراشدين واضحاً متميزاً، فلم يكن هناك فرق بين حاكم ومحكوم أمام شرع الله، فهذا سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يرى الفاحشة بأم عينه فيثور ويغضب لله ولكنه لا يستطيع البوح باسم الفاعل أو عقابه لغياب شهوده الأربع، فكان ذلك التقيد بالحكم الشرعي من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أثراً  لوجود هذه الروح، فلم يتجاوز أوامر الله رغم كونه رأس الهرم، كما تجلت هذه الروح العظيمة عند الصحابة بمن فيهم سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وهم يشكلون الوسط السياسي آنذاك، فلم يكونوا أقل التزاماً بأوامر الله من أمير المؤمنين حيث قال له سيدنا علي (رضي الله عنه): «والله لو كشفت الفاعل دون شهود لأقمنا عليك حد القذف يا أمير المؤمنين»، علماً أن الصحابة وعلي بن أبي طالب يعرفون قدر عمر بن الخطاب ويصدقونه، فهو الإمام التقي العادل الورع، ولكن وجود هذه الروح كان سبباً في تقيدهم جميعاً وحرصهم على أوامر الله عز وجل.

فما أروع هذا التقيد بأحكام الله كأثر كبير لوجود هذه الروح عند الحاكم والمحكوم في مجتمع متجانس يُحكم بنفس النظام الذي يؤمن به! فكان هذا التقيد بأحكام الله حامياً للمجتمع من كل سوء، وموفراً للأمة الأمن والأمان بشكل دائم، وما كان ذلك إلا أثراً وثمرة لوجود هذه الروح عند أبناء الأمة الإسلامية، لا فرق بين حاكم ومحكوم، وبهذه الروح تتحقق جميع القيم بالمجتمع الإسلامي بشكل متوازن، فتتحقق القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية وكذلك القيمة المادية.

و تتجلى هذه الروح عند المسلمين حتى في حملهم لدعوة الإسلام، فعندما خرجوا من الجزيرة العربية فاتحين البلاد وحاملين عقيدة الإسلام كانوا مسلحين بهذه الروح متقيدين بأحكام الله، فلم يخرجوا لاستعمار البلاد والعباد أو لنهب خيرات الأمم، وإنما خرجوا حاملين لواء الهداية طاعة لله وأملاً بنيل الشهادة أو النصر. فهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح (رضي الله عنه) يرجع الجزية لأهل حمص وهم نصارى، وذلك عندما اضطر للانسحاب من المدينة تطبيقاً لأحكام الله وبفضل هذه الروح، وقد اعتنق أهل إندونيسيا الإسلام بفضل أخلاق التجار المسلمين، الذين كانوا يرتادون بلادهم، وذلك بسبب تطبيقهم لأحكام الله في تجارتهم بفضل وجود هذه الروح لديهم، فكانت هذه الأخلاق ناتجة من ربط كل سلوك لديهم بعقيدتهم فكان هذا الربط هو الإدراك ذاته والروح عينها.

كما كان وجود هذه الروح عند أبناء الأمة الإسلامية في ظل دولة الإسلام سبباً في بروز العديد من العلماء المسلمين في شتى أنواع العلوم. شرعية كانت أو دنيوية، فلم تكن جهودهم إلا تقرباً من الله عز و جل لا تقرباً من أمراء أو حكام طمعاً بمال أو جاه، بل كان معظمهم يحرص على بعده من الأمراء والمناصب الهامة بالدولة حتى لا يشوب عمله وجهده أي شائبة من عرض الدنيا، بل يريدونها خالصة لوجه الله؛ وذلك لإدراكهم الصلة المستمرة بالله عز وجل. فقد رُوي عن أحد علماء الأمة أن والدته كانت تؤكله بيدها أثناء عمله الدؤوب حرصاً منه على عدم ضياع الوقت، فلو كان عمله من أجل دنيا يصيبها لما كان ذلك الحرص، ولكنهم كانوا لا يرجون في أعمالهم وعلمهم إلا وجه الله، فدل ذلك دون أدنى شك على إدراكهم العظيم الصلة بالله عز وجل، فلم تكن هذه النهضة العلمية في العصور الإسلامية السابقة إلا ثمرة لقوة هذه الروح لدى أبناء الأمة، حيث خاضوا شتى الميادين رابطين علمهم وعملهم بعقيدتهم تقرباً إلى الله، فبرعوا وأنجزوا، و سيعود ذلك قريباً بإذن الله في ظل خلافة راشدة ترعى شؤون الأمة بأوامر الله، وتهيئ كل الظروف للأجيال القادمة التي تنشأ وتتربى على مائدة الولاء والطاعة لله وحده، ويكون إدراكهم للصلة بالله عز وجل، قوياً متواصلاً، فيرهنون حياتهم للإسلام والمسلمين طاعة لله عز وجل، فيعيدون أمجاد أسلافهم في شتى الميادين، نسأل الله أن يكون ذلك قريباً.

كما ساهم وجود هذه الروح لدى المسلمين من حيث التزامهم بأوامر الله عز وجل مساهمة كبيرة في نمو الاقتصاد في الدولة الإسلامية، فشكل ذلك جانباً روحياً فريداً من نوعه في الاقتصاد الإسلامي حيث تفتقر إلى ذلك كافة الأنظمة الاقتصادية في العالم على مر التاريخ، فقد كان لتحريم كنز المال وتقيد المسلمين بذلك دون رقيب سوى الله عز وجل الأثر الكبير في اقتصاد الدولة الإسلامية، حيث كانت أموال الأمة في استثمار مستمر؛ فساعد ذلك كثيراً في عدم ظهور البطالة لتوفر فرص العمل في الدولة، كما حد ذلك من الحاجة والعوز، فما كان ذلك الالتزام إلا طاعة لله عز وجل وخوفاً من معصيته كأثر واضح لقوة هذه الروح لديهم. كما كان لالتزام المسلمين بالعبادات المالية الواجبة منها والمندوبة، سراً وعلانية، طاعة لله وتقرباً منه، أثر عظيم لتواصل إدراكهم لصلتهم بالله عز وجل، فتنافس المسلمون في ذلك للحصول على الأجر والثواب أضعافاً مضاعفة، إيماناً بقوله عز وجل: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 261]، ولم يكن هذا إلا للتقيد بشرع الله ولم يكن هذا الإنفاق نفاقاً أو رغبة في سمعة أو جاه، ولكن كان أكيداً بفضل هذه الروح، فتمثل قوله عز وجل في نفوسهم وسلوكهم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [البقرة 264]، ألم ينفق سيدنا عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) قافلة ضخمة طاعة لله وتقرباً من الله عز وجل ورغبة بدخول الجنة رغم أنه من المبشرين بالجنة، فلم تكن هذه البشرى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مدعاة للتقاعس، فمن أدرك هذه الصلة بالله عز وجل ووجدت عنده هذه الروح لا يسعه إلا أن يبذل الغالي والنفيس، ابتغاء مرضاة الله، فلم يكن هذا الصحابي الجليل ليطمع في سمعة أو جاه، و إنما كانت تجارة مع الله، وما أجملها، وما أسماها من روح!  فكيف يكون هناك فقر أو عوز وأبناء هذه الأمة يتحلون بهذه الروح العظيمة وهذا الإيمان الراسخ! يتقون الله ولو بشق تمرة  لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (البخاري ومسلم)، حتى أصبح الإنفاق في سبيل الله عند أبناء هذه الأمة سجية لا حدود لها.

وهذا سيدنا عثمان بن عفان يجهز جيش العسرة على نفقته الخاصة، ويشتري بئر رومة من يهود المدينة المنورة بعشرين ألف درهم، و يسبلها ليشرب المسلمون منها بلا مقابل طلباً للأجر والثواب من الله عز وجل، ورغبة في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. فما كان ذلك ليكون لولا هذه الروح. ويضع سيدنا أبو بكر الصديق ماله كله في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبإيمان راسخ مبني على إدراك وثقة بالله عز وجل يقول رداً على سؤال الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَاذَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» فيقول أبقيت لهم اللهَ ورسولَه، فلم يكن وجود هذه الروح لديهم لتجعلهم يخشون فقراً أو فاقة إيماناً بقوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 268] فكانوا بفضل هذه الروح كالريح المرسلة، هكذا كان وسيكون أبناء هذه الأمة بسبب هذا الإدراك، أي بسبب هذه الروح العظيمة.

إن هذه الأمة غنية ليس فقط لوفرة مواردها الطبيعية، وإنما أيضاً بتوفر هذه النفسيات العظيمة الملتزمة بشرع الله، كثمرة لوجود هذه الروح التي تجعل تقيدهم بشرع الله تقيداً ثابتاً دون حاجة لأي رقابة بشرية، وإنما بالوازع الداخلي المتمثل برقابة الله؛ فكان ذلك المحرك والمسير لهذا الالتزام.

ولا شك أن الشريعة الإسلامية زاخرة بالتشريعات التي يشكل التزام المسلمين بها إيماناً واحتساباً هذا الجانب الروحي في اقتصاد المسلمين، فنبذ المسلمون على سبيل المثال التعامل بالربا خوفاً من غضب الله وسخطه وتعاملوا بالقرض الحسن، وابتعدوا عن الاحتكار وغيرها من التشريعات، كما شكل هذا الالتزام بهذه التشريعات مع وجود هذه الروح الجانب الروحي في كل مجالات حياتهم.

نعم؛ إن التشريعات الإسلامية تشريعات سماوية من لدن عليم خبير، ولكن لو طبقت هذه التشريعات نفاقاً دون وجود هذه الروح لما أثمرت في الفرد ولا في المجتمع، لأنه لن يربط عندها السلوك بالعقيدة. وكذلك لو طبقت هذه التشريعات في أنظمة أخرى منفصلة عن عقيدتها لما أثمرت ولما تشكل هذا الجانب الروحي لغياب الروح عند تطبيقها. ولذلك فإن العبرة ليست في نوع التشريع فحسب، وإنما أيضاً بوجود الروح عند الالتزام بها حيث يكون هذا الالتزام طاعة لأوامر الله، ورغبة بنوال رضوانه لا نفاقاً أو جرياً وراء منفعة، وعندها يكون لهذا الالتزام ثمرة في جميع مناحي الحياة بفضل هذه الروح.

إنه لشرف عظيم لأبناء هذه الأمة المخلصين أن يهبوا لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الإسلام استجابة لأوامر الله، فتعيد الأمة الإسلامية لسابق عهدها لتنهض بها وتكون قدوة لباقي الأمم، فتخلصهم من الكفر والضلال، لاسيما وأن بني الإنسان يعيشون في هذا الزمان في ظل فكرة فاسدة ألقت بظلال فسادها على البشرية كلها، فطال ذلك كل شيء في حياتها حتى الحجر والشجر، فلم تُبقِ ولم تذرْ، إنها الرأسمالية الكافرة الفاجرة، التي أفسدت حياة البشر، وأفسدت فطرة الإنسان وانحرفت بها عن جادة الصواب، حيث تحمل فسادها في ثنايا عقيدتها ونظامها ومقياس أعمالها، فكان من فساد عقيدتها بأنها لم تحدد علاقة الإنسان بخالقه، ولم تقف من هذه المسألة موقفاً جاداً لتقرر أن لهذا الإنسان خالقاً واجب الوجود، بل كان موقفاً هامشياً. فكانت الناحية الروحية عندهم، أي كون الإنسان وما حوله في هذا الوجود مخلوقاً لخالق، قضية فردية يعتقدها من يشاء وينكرها من يشاء، فبقيت الناحية الروحية قائمة على إحساس غريزي وليس على أساس فكري قائم على إدراك العقل لها والتدليل عليها والوقوف على حقيقتها، فكان التقديس عند أفرادهم ناتجاً عن إحساس غريزي بحت، فلا يوجد للعقل أي وجود، بل يستبعد العقل والإدراك، فكان هذا التقديس ليس إيماناً ولا ناتجاً عن إيمان، وإنما هو ضلال وكفر، وهو ليس عبادة لله، و إن توجه فيه صاحبه لله أو لفكرة الألوهية.

وبهذا يكون هذا النظام قد فقد إدراك الصلة بالله، أي فقد أفراده الروح في أعمالهم، لاسيما وأنهم استبعدوا حق الله في التشريع، وسيَّروا حياتهم حسب تشريع البشر؛ فكان العقل هو المشرع الوحيد عندهم، فلم يعد هناك أي روح في أفعالهم، ولم يعد هناك أي اعتبار لمرضاة الله، وانطلقوا في إشباع جوعاتهم من إملاءات غرائزهم دون أي وازع داخلي، فلم يعد هناك روح لربط سلوكياتهم بها حتى يكون لها أثر في بناء أفرادهم ومجتمعاتهم، بل أصبحت أعمالهم تربط بالمصالح والمنافع التي تحقق لهم إشباع جوعاتهم كيفما شاءوا، فأصبحت المنفعة مقياس أعمالهم، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية هي السعادة بأعينهم، فأصبحوا كالأنعام يعيشون لشهواتهم بلا قيود، فسيطرت على مجتمعاتهم القيمة المادية وما نتج عنها من أنانية وجشع، فانعكس ذلك كله على نفسياتهم الخالية من الروحانية؛ فأحسوا بالشقاء وعدم الطمأنينة؛ فكثرت عندهم حالات اليأس والانتحار والأمراض النفسية، وضعفت عندهم مظاهر الأبوة والأمومة، فلم يعد تكوين الأسرة أمراً هاماً في حياتهم، وإن وجدت فهي أسر متفككة، كما انعكس ذلك أيضاً على المجتمع و أفراده، حيث أصبحت مجتمعاتهم متفككة لا ترابط بين أفرادها، و لا يلمس بها أي تراحم أو تكافل، فتلاشت منها القيمة الروحية والإنسانية حتى إن القيمة الخلقية أصبحت تحكمها المنفعة والمصلحة. ونتيجة لغياب هذه الروح وإشباعهم لغرائزهم البهيمية دون أية ضوابط انتشرت في مجتمعاتهم العلاقات غير الشرعية، فاختلطت الأنساب وامتلأت ملاجئهم باللقطاء، وتفشت بينهم الأمراض المعضلة، فكان ذلك عبئاً كبيراً على الدولة واقتصادها.

كما أن جشع هذه الدول واضح للعيان، ودليل على غياب الروح في علاقاتهم مع الأمم الأخرى، فهي قائمة على الاستعمار والاستغلال ونهب الثروات لتوفر لشعوبها رغد العيش على حساب الآخرين دون أي رادع. فأين هذا من الروح التي تمثلت في المسلمين عند فتوحهم للبلاد الأخرى، حيث لم يكن ذلك طمعاً بسيادة أو نهباً لثروة وإنما طاعة لله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؟!

هذا هو حال الأنظمة الرأسمالية ومجتمعاتهما، ولا يسمح المقام للإسهاب في وصف شقائهم. ويكفي ما قال رب العزة عنهم وعن أمثالهم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه 124]، فبئست العقيدة تلك، التي جرت الشقاء والويلات لمجتمعاتهم ومجتمعات الأرض كافة.

ولكن المحزن المؤسف أن نرى هذا الداء قد انتقلت عدواه إلى مجتمعاتنا؛ فغابت هذه الروح عند أبناء هذه الأمة وهم لا يزالون يعتقدون العقيدة الإسلامية، فضعف أو حتى انعدم إدراك الصلة بالله عز وجل، في معاملاتهم اليومية وفي مواقفهم تجاه قضاياهم، فلم تعد هذه الروح سمة واضحة في سلوكهم وتصرفاتهم، ولم يعد لها دور في العلاقات الاجتماعية. فقد نرى كثيراً من أبناء هذه الأمة يطبقون بعض الأحكام الشرعية دون ربط مع هذه الروح، أي دون إدراك الصلة بالله، وإنما عادة اعتادوها أو جرياً وراء مصلحة أو منفعة أو لاعتبارات أخرى، وقد غاب عن أذهانهم أن الأصل في التقيد والالتزام أن يكون طاعة لله أولاً وأخيراً، ورغبة في نوال رضوانه. ألا يعلم المسلمون أنه لا بد من التقيد بأحكام الله كأحكام شرعية منبثقة عن عقيدتهم! وأن يكون هذا التقيد طاعة لله دون أي اعتبار آخر، لقد غاب عنهم للأسف هذا الربط بالأساس الذي يأمر به الإسلام والذي بني كل من الفرد والأمة عليه. فمن لهذه الأمة سوى حملة دعوة تحمل ثقافة راقية خالصة من كل شائبة، وتنشر عقيدة عقلية وتدرك الصلة بالله، وتسير بفكر مستنير؟!

ولهذا، لا بد من وجود هذه الروح في حلنا وترحالنا، ليلنا و نهارنا، سرنا وعلانيتنا، ألسنا الأجدر والأولى أن تتمثل فينا هذه الروح وهذا الإدراك بعد كل هذه الثقافة الإسلامية النقية؟  فمن كان مسلماً فعليه أن يكون حامل دعوة بطبيعته مدركاً للصلة بالله عز وجل، فهذه أمور متلازمة وبها تقوم حجته على غيره. فلا بد أن تكون الهمم على هذا المستوى حتى نكون أهلاً لنصر الله، ونكون قادة لهذه الأمة، فإن الله لا ينصر أصحاب الهمم و النفسيات الضعيفة، فلا بد من ملازمة هذه الروح، وعندها يكون المسلمون وبخاصة حملة الدعوة منهم كبائع المسك، لا تفوح منهم إلا هذه الأفكار وتلك المفاهيم قولاً وسلوكاً، بناء على إدراك الصلة بالله عز وجل، فيكونون بذلك شامة بين الناس، ويكسبون ثقتهم، ولا يحق لهم النفخ في الكير ولو نفخة واحدة، فإنها لا تحرق الثياب فحسب وإنما تؤذي المحيطين بها أيضاً، وليعلم المسلمون أنهم ليسوا أحراراً ولا ملكاً لأنفسهم لأنهم أقروا بالعبودية لله عز وجل، كما أنهم قد خلعوا عباءة الحرية بالمفهوم الغربي على أعتاب هذا الدين بمجرد إدلاء شهادة أن (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فحذار أن يصدر منا، نحن حملة الدعوة، أي تحكم للمنفعة، أو العلاقات المصلحية في تصرفاتنا أو دعوتنا، أو أن تثور فينا مفاهيم الأعماق المهجورة المرفوضة لأي سبب من الأسباب، بل يحرص على التقيد بالحكم الشرعي ويحرص على عدم التجاوز له، فإن أحسنّا كان ذلك رصيداً مطلوباً لتحقيق الغاية، وإن أسأنا أسأنا لأنفسنا وللإسلام وعصينا الله عز وجل وحملنا وزراً عظيماً، فإن وزر من يعلم ليس كوزر من لا يعلم.

إننا قد خلقنا في زمن غاب فيه حكم الله في الأرض، لغياب الخلافة الإسلامية، وإننا لا شك نعاني الكثير من جراء ذلك، ولكن أيضاً فرصتنا لنعمل في صفوف هذه الدعوة بجد واجتهاد، دون ملل أو كلل، لتحكيم شرع الله في الأرض، فنفوز برضوان الله ومغفرته وجنة عرضها السماوات والأرض، فلا نضيع هذه الفرصة.

ألا نرضى أن يتمثل فينا قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد 10]، ولذلك لا عذر لنا في تقاعس أو فتور همة، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يَا حَارِثَه، عَرَفْتَ فَالْزَمْ» إننا والله قد عرفنا فهل التزمنا؟

فلنتق الله في أنفسنا وفي هذه الدعوة، وليراجع كل منا نفسه، فيجدد الهمم ويفعِّل إدراك الصلة بالله عز وجل، ويعقد العزم على نصرة هذا الدين.

ثبتنا الله وإياكم، وتقبل جهودكم، وسدد خطاكم، وجعل النصر قريباً على أيدي العاملين الواعين المخلصين بإقامة الخلافة الراشدة، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *