الأسـواق المالية (3)
2001/10/11م
المقالات
1,370 زيارة
فلو كان النظام النقدي في العالم مبنياً على قاعدة نظام الذهب، لما جرؤ أحد أن يقوم بهذه المضاربات، ولما عقدت هذه الأسواق ابتداءً. فأن يفتح سوق تكون موجوداته المعروضة للبيع والشراء والمضاربات والمزايدات سلعاً وهمية هي الأسم والسندات والأوراق المالية، وأن يتم ابتياع مال بمال دون أن تجري الصفقات على سلع وبضائع حقيقية، وأن تكون الصفقات بالملايين والمليارات، وأن تتم هذه العملية بإشارة باليد أو مكالمة بالتلفون، وأن يحصل الارتفاع الحاد في الأسعار أو الهبوط الحاد في ساعات أو دقائق، فيمشي ويسري كسريان النار في الهشيم هبوطاً أو ارتفاعاً، فليس كل هذا إلا تلاعباً قائماً على المخادعة والاختلاس، وليس إلا أساليب للنهب والسلب، لا يصل الناس سواد الناس من كل هذا إلا لهيب يأتي على ما في بيوتهم ومطابخهم. فالأسواق ملأى بالسلع الحقيقية، والفقراء يملأون الشوارع خاوية أيديهم وبطونهم. ثم بعد ذلك يقولون العالم الحر، وحقوق الإنسان، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة، فهل يوجد في كوسوفا والبوسنة والهرسك شيء يسمى حقوق الإنسان أو حقوق الطفل أو حقوق المرأة؟
ونعود إلى الموضوع، فهناك ما يسمى:
1 ـ (اقتصاديات المحور) وهي الاقتصاديات الأكثر تقدماً وثراءً.
2 ـ (اقتصاديات الحدود أو المحيط) وهي الاقتصاديات الأقل تقدماً وثراءً.
اقتصاديات المحور استفادت كثيراً من الضربات المالية التي أصابت بعض الدول، وفي الحقيقة، فإن اقتصاديات المحور هي التي تخطط كي تحل الضربات باقتصاديات الحدود، ثم تلتهمها وتبتلعها. إذ يعترف أغنياء العالم، وفي مقدمتهم أميركا، بأنهم استفادوا من الأزمات التي حلت بالفقراء. وهذا يعني أن الطعام الذي سلب من فقراء تايلاند وإندونيسيا، تحول إلى سلع مترفة تمتع بها أغنياء أوروبا وأميركا.
وهذا يؤكد الظلم البيّن للنظام المالي، والاقتصاد العالمي الذي يهدد بأن يتحول 80٪ من سكان العالم إلى ناس بؤساء، لن يمكنهم الحياة إلا بما يمنح لهم من صدقات وتبرعات.
هذا الاعتراف هو من كبير المضاربين العالميين وهو: جورج سورس، ليس شفقة على الفقراء، وإنما هو تنبيه للأغنياء، أي محاولة لإنقاذ الأغنياء.
هذا الملياردير الكبير يحذر من اتخاذ إجراءات تغلق الأسواق أمام تدفقات ملياراتهم، مثلما فعل مهاتير محمد في ماليزيا، بعد الأزمة، حين أغلق حدود بلاده في وجه تدفق الرساميل الخارجية، وبذلك نجح في الحد من تأثير الأزمة المالية عليه.
الذي يخشاه هذا المضارب الكبير (جورج سورس) هو إغلاق الحدود، باعتباره مضارباً يكسب من تحريك العملات والأسهم والسندات عبر الحدود بين دول العالم المتخلفة، حتى على الورق أو على شاشات الكمبيوتر وإغلاق الحدود معناه أن يصاب بالشلل، ويتعرض لضربات مالية.
يوصي هذا الملياردير وبإلحاح إلى بذل جهد كبير في مساعدة (دول الأزمة) على التخفيف من معاناتها. والأهم وضع بعض القواعد التي تضمن تدفق رؤوس الأموال عبر دول العالم بحرية، وتضمن عدم إغلاق الحدود القومية في وجهها.
يقترح أن الاختيار ينحصر: إما في تنظيم الأسواق بشكل عالمي، وإما تركها لكل دولة على حدة لكي تحمي مصالحها؛ وهو ما سيؤدي إلى انهيار النظام المالي العالمي، الذي يمرح في أرجائه المضاربون، ويحققون مليارات الدولارات أرباحاً.
وهو يقترح من أجل هذا التنظيم إقامة مؤسسة تأمين دولية برأسمال قدره (150) مليار دولار لمساعدة دول الأزمات المالية، واقتراح آخر بإعادة تنظيم النظام البنكي.
هذا الرجل (جورج سورس) صاحب كتاب (الرأسمالية العالمية في أزمة)، وصفته إحدى الصحف بأنه الرجل الذي يحرك الأسواق في العالم، يحذر في كتابه هذا الذي لاقى رواجاً عظيماً، يحذر من انهيار النظام الاقتصادي العالمي، إذا لم يتم تنظيم الأسواق المالية بشكل عالمي، حتى يضمن عدم قيام الدول المتخلفة بإغلاق حدودها أمام تدفقات رؤوس الأموال، لتحمي نفسها من آثار الأزمة التي أمسكت بعنق نمور آسيا وروسيا ثم دول أميركا اللاتينية، وقد تزحف إلى أوروبا وأميركا.
تفتحت الأبواب على مصاريعها في ظل العولمة في البلدان المتقدمة، وارتفعت كتلة الأموال والمدخرات (بلا حدود) وهي التي تتم بها المخاطرة والمضاربة في أسواق المال وراء (التكاثر المالي) هذا التكاثر الذي حصل انفصام حاد بينه وبين التراكم الإنتاجي، والذي أصبح سمة مميزة للتطور الرأسمالي الحديث في ظل صعود (رأس المال) واتساع شركات السمسرة والوساطة المالية، وصناديق الاستثمار، وصناديق التحوط.
والذي أعطى دفعة قوية لعمليات العولمة المالية خلال الثمانينيات والتسعينيات هو أن 38٪ من مدخرات وثروات القطاع العائلي في الولايات المتحدة و56٪ من أموال صناديق التأمينات والمعاشات مستثمرة في أسهم وأوراق مالية.
إن حرية التجارة التي سارت لقرون طويلة في مجال السلع والخدمات الحقيقية، لا تكفي وحدها لخلق نظام اقتصادي (مُعَولم) فالعولمة في مسيرة التطور الرأسمالي المعاصر، لا يكون امتدادها وحركتها وتأثيرها في الأموال والاقتصاديات الثابتة غير المتحركة؛ فالأرض والعقارات، والموارد الطبيعية غير قابلة للانتقال، فضلاً عن صعوبات جمة تواجه التنقلية الكاملة للبشر، فيما بين البلدان المختلفة، لذا تصبح حركة وحرية انتقال رأس المال وتدفق المعلومات، وحركة المنظمين ورجال الأعمال، هي التي تكسب الرأسمالية سمة العولمة في صورتها الراهنة.
لقد انتهت المواجهة العسكرية بمعناها الحقيقي، أي بمستوى الاستراتيجية النووية، وبحجم المخزون النووي والصاروخي، فلا مكان لها الآن.
لكن الأخطر من ذلك على المجموعات البشرية، هو استطالة رأس المال، وضخامة رأس المال، واختراقه الحصون والقلاع، وتحويلها إلى أكواخ لا تقي حر الصيف، ولا برد الشتاء.
إنّ قضايا العالم الاقتصادية، تتمثل في تجمعات سكانية تعتمد على روابط تقليدية، ولكنها تعالج سياسياً، وهذه القضايا هي:
قضية الشرق الأوسط.
قضية الشرق الأدنى.
قضية القارة الإفريقية.
قضية أوروبا شرقيّها وغربيّها.
هذه القضايا التقليدية التي وجدت بموجب التجمع السكاني والتقاء المصالح الحدودية، وتداخل العلاقات المشتركة التي تفرضها جغرافية المنطقة قد ظهرت بحجوم مختلفة، فكانت النظرة إليها تختلف كل واحدة عن الأخرى، وعلاجها كذلك ليس بالتساوي ما بين الواحدة والأخرى.
هذه الهيكلية الاقتصادية القديمة، لا تتلاءم مع الوضع الجديد في العالم، والذي من أجله وضعت قوانين الخصخصة والعولمة. أي أن هناك اختراقاً جديداً ومزعجاً للهيكلية القديمة. هذه الهيكلية التقليدية قد اخترقت، وبدأ العد التنازلي لنقضها وتذويبها.
وحيث إنها هياكل قامت بحسب التقسيمات السكانية، كان الأجدر، أن يحل محلها الهياكل الدولية التي تأسست بمرسوم دولي، مثل منظمة التجارة الدولية الحرة، التي وقع على بنودها ورضي بشروطها (134) دولة(1) وهذا صندوق النقد الدولي، وقد وقع عليه كافة دول مجموعة هيئة الأمم المتحدة، عدا المجموعة الاشتراكية باستثناء رومانيا، وهذا البنك الدولي، فقد أعطي صلاحياته مع قرارات تصفية الحرب العالمية الثانية، وقد ساهمت فيه جميع الدول المشتركة في صندوق النقد الدولي.
قلنا إن تحركات رأس المال هي أخطر من انقضاض الصواريخ، وهذه الخطورة متمثلة في ما يسمى إمبراطوريات رأس المال، التي وجدت الدول الرأسمالية لحمايتها، وعلى رأس هذه الدول أميركا، تليها بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان. فهذه الدول المذكورة، إنما هي قائمة بهذه الإمبراطوريات، فهي مسخرة لحمايتها وتسهيل السبل لها، وفتح أبواب العالم أمامها.
في جزيرة مالطة الصغيرة التي تقع في الجهة الغربية للبحر المتوسط، عقد الرئيسان الأميركي، ريغان، والروسي غورباتشوف، اجتماعاً، جرى التوقيع فيه على إنهاء الحرب الباردة، وبهذا التوقيع كان غورباتشوف قد وقع على شهادة الوفاة للاتحاد السوفييتي.
إنتهت الحرب الباردة لتحل محلها حرب ساخنة، ولكن على نار هادئة؛ فهي ساخنة، ولهدوء النار التي تحركها لا يشعر بسخونتها، إلا الأطراف المعنية بها، هذه الحرب الجديدة هي الحرب الاقتصادية، حرب المال، تناطح الشركات، المزاحمة على الأسواق؛ فقد عمد الساسة المعنيون بهذا الأمر إلى اتخاذ إجراءات، وإيجاد مؤسسات دولية، وتفعيل قوانين المنظمات الاقتصادية الدولية، لفتح الأبواب، وكسر الحواجز، لينساب رأس المال بحرية، ودون أية عوائق، وتمهد له السبل ليدخل فاتحاً يلقى الترحيب. ولكنه ينساب انسياب الثعبان، يحمل في جوفه سماً ناقعاً، وإن كان ناعم الملمس. وهكذا ينتقل من قطر إلى قطر، ومن قارة إلى قارة.
ساعد على تلك التغيرات والتحولات الهائلة التي ظهرت في مجال حركة الأموال الكبيرة، وفي ظل العولمة الجديدة، التوسع المذهل في شبكة الاتصالات الإلكترونية، التي سهلت عملية إعادة تدوير الأموال، خاصة (رؤوس الأموال قصيرة الأجل) بين جميع أرجاء العالم، على الأربع والعشرين ساعة. إذ إن تلك الأموال تتحرك بسرعة تقترب من سرعة الضوء، ما بين نيويورك، زيورخ، لندن، طوكيو، وغيرها من المراكز المالية المتقدمة، حيث لم يعد للمال أية هوية وطنية محددة، مثل شركة (الاستثمار الأميركية فيما وراء البحار) حيث لها استثمارات في (144) دولة.
لقد وجدت الشركات متعددة الجنسية، وفتحت الأسواق على مصاريعها (حرية السوق) وكانت العولمة هي الثوب الفضفاض، الواسع الأطراف الذي تتجلى به العروس ليلة زفافها. ثم بدأ تفعيل قوانين المؤسسات الدولية، وتفعيلها يعني توجيه الضربة القاضية للتنظيمات والتجمعات الاقتصادية الإقليمية التقليدية. وهذه الإجراءات الجديدة أخذت تشق طريقها إلى النجاح، فبدأت الضربات تتتالى على هذه التنظيمات، وبدأت تهتز ويظهر عليها التفسخ والهزال، وبعضها الآن يترنح، وسقوطه سيتم بين عشية وضحاها، مهما قيل إن بعضها أخذ يسترد عافيته، وذلك مثل دول جنوب شرق آسيا وروسيا.
لقد اتسعت الهوة بين حرية التجارة الدولية في السلع الحقيقية والخدمات من ناحية، وحركة الأموال والعملات المتحركة بسرعات مذهلة من ناحية أخرى. ففي عام 1995 على سبيل المثال بلغ حجم الاتجار في العملات نحو (1.2) ترليون دولار في اليوم الواحد، وهو رقم يشكل نحو خمسين ضعفاً من قيمة التجارة الدولية في السلع والخدمات الحقيقية.
نعم لقد بدأت الضربات توجه إلى التنظيمات والتجمعات الإقليمية التقليدية؛ وقد ظهر تأثيرها في مجموعة دول جنوب شرق آسيا سنة 1997. فالانهيار الفظيع الذي لحق باقتصاد هذه الدول، والاختلال الكبير في ميزانها التجاري، وفي ميزان مدفوعاتها، ظهرت نتائجه للعيان، وتلا ذلك الانهيار الفظيع في الاقتصاد الروسي، فروسيا الآن تعاني المعاناة المرة مما أصاب اقتصادها، وعملتها، وميزانيتها، الأمر الذي أوصلها إلى حافة الموت. ثم تلتها البرازيل، وهي البلد الأقوى في دول أميركا اللاتينية، ولا يزال اقتصاد البرازيل في غرفة الإنعاش.
فدول جنوب شرق آسيا، وأميركا اللاتينية، وروسيا، يشكل اقتصادها نصف الاقتصاد العالمي، قد أصيب بنكسات وضربات قاتلة؛ وأخذ الذوبان يظهر على هذه التنظيمات جراء تفعيل قوانين صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة الدولية. ثم تبعها تفعيل قوانين الخصخصة والعولمة.
والآن بدأت تسدد الضربات إلى منظمة السوق الأوروبية، والاتحاد الأوروبي؛ وقد اضطلع بهذا الدور حلف الأطلسي، لأن أوروبا لابد أن تضرب من داخلها، أي تضرب نفسها بنفسها، كما تخطط لذلك الولايات المتحدة الأميركية.
ومن كان يظن في يوم من الأيام أن يكون حلف الأطلسي الذي وجد لحماية أوروبا، وتوفير الأمن لها، أن يكون هو الأداة التي تفل بها قوة أوروبا السياسية، وهو الأداة التي تضرب بها الاقتصاد الأوروبي؟
فالاتحاد الأوروبي قد عقد مؤتمر الشراكة في بنكوك مع عشر دول من جنوب شرق آسيا، وهو مؤتمر اقتصادي كان مغلقاً أمام أميركا وروسيا. كما عقد الاتحاد مؤتمر الشراكة في برشلونة مع اثنتي عشرة دولة من دول الجوار للمتوسط، وكذلك كان مغلقاً أمام أميركا وروسيا.
وهذه أميركا الآن قد اقتحمت حصون الاتحاد والحلف الأطلسي، واخترقت قوانينه وأنظمته، بتفعيل قوانين منظمة التجارة الحرة، إضافة إلى الإجراءات المضادة بفرضها جمارك على مستورداتها من دول الاتحاد بنسبة 100٪ ووضع الاتحاد أمام محكمة منظمة التجارة الدولية لإدانته.
أما منظمة السوق العربية المشتركة، فلا قيمة لها، ولا وزن لها، وتكاد تكون لا وجود لها، مثلها مثل منظمة السوق الإفريقية. وأما منظمة الأوبك فهي الآن تحت رحمة المضاربات والمزايدات المالية العالمية، فهي لا تملك اتخاذ أي قرار.
بعد هذا كله، برزت دوائر المال، مؤسسات المال، وتفتحت الأسواق، وبدأت التجارة بالمال في أسواق البورصات، وارتفع لهيب المضاربات والصفقات الضخمة، التي تجاوزت كل التقديرات، وكل الحدود، حتى أصبحت هي نفسها خطراً على هذا النظام الرأسمالي المخيف، أي سيتحطم هذا النظام بيد أصحابه وعلى رؤوسهم. وسوف لا تفيد توجيهات عالم الاقتصاد الأميركي (كنـز) في التدخل دولياً لوضع القيود وفرض القوانين والرقابة على هذا الانفلات لرؤوس الأموال الهائلة. فهذه كبرى الشركات المالية لإدارة المخاطر في الأصول المالية في الولايات المتحدة المسماة (LTCM) إدارة رأس المال طويل الأجل) قد انهارت، وكانت هذه الشركة تتعامل في محافظ مالية بحدود (200) مليار دولار أميركي، وأصبحت على حافة الإفلاس، وهي الشركة (النجم) على الصعيد العالمي.
وتفعيل قوانين المنظمات الدولية المالية، يكرس الآن، لرفع القيود، وفتح الحدود، وإعطاء الحرية الكاملة لانسياب رؤوس الأموال الضخمة، دخولاً وخروجاً، لتنهب وتخرب، وتمتص الدماء.
لكن في هذا مقامرة، يمكن الوقوف أمام تنفيذها واستمرارها، ويمكن عرقلتها وإيقافها، ويمكن كسرها وتحطيمها، فتصبح هذه الأموال المتحركة كالنار، تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، وهذا نذير من النذر المتعددة باقتراب أجل النظام الرأسمالي، وشربه الكأس الذي شربه الاتحاد السوفييتي من زمن قريب .
[انتهى]
فتحي سليم
ــــــــــــــــ
(1) تقوم أميركا الآن بضغوطات على الصين، وتتهمها بخرق حقوق الإنسان وتثير لها المشاكل من أجل أن تنضم إلى منظمة التجارة الدولية، وتوقع على شروطها، لتفتح الأبواب، وتزول الحواجز أمام تدفق رأس المال الأميركي للاستثمار والتنمية، ولدخول المنتوجات الأميركية إلى هذه السوق الواسعة.
2001-10-11